}

الحرب على سما وسناء وملاك ومريم وآيات

محمود الريماوي محمود الريماوي 28 نوفمبر 2023
آراء الحرب على سما وسناء وملاك ومريم وآيات
(غزة، 7/11/2023، gettyimages)

لا بد من الاعتراف بأن قطاع غزة لطالما بدا بعيدًا لمن أمضوا حياتهم في إحدى مدن أو بلدات الضفة الغربية قبل احتلال الضفة والقطاع في عام 1967. كانت على سبيل المثال مدينة الزرقاء في الأردن (أو في الضفة الشرقية كما كانت تسمى آنذاك) تبدو أقرب، رغم أن المسافة بين أريحا حيث كنت أقيم في كنف العائلة وغزة، تكاد تماثل المسافة بين أريحا والزرقاء وهي أقل من مئة كيلومتر. والسبب أن دولتهم الإسرائيلية كانت تمتد جغرافيًا في المنطقة الفاصلة والواصلة بين الخليل وقطاع غزة.

وضعت هذه المقدمة كي أبرّر عدم زيارتي لقطاع غزة، وهو اعتراف يؤلمني مع نفسي وقد شعرت بالألم مضاعفًا خلال حرب الإبادة الأخيرة التي يشنها الثلاثي: بنيامين نتنياهو وبيني غانتس ويوآف غالانت. إذ ليست لدي من ذكريات في مدن غزة وخان يونس ودير البلح ورفح، ولا في أي من المخيمات الثمانية، وإن لم أزرها حتى الآن وقد بلغت من العمر ما بلغته، فمتى أزورها، ومتى أحتفظ بذكرى ما هناك، ومتى أختزن انطباعات عنها؟

ترتب على ذلك أني لم أحظَ بمعرفة أحد فيها سوى ثلة من الكتّاب من بينهما الأخوان رسمي وربعي المدهون. والكاتب المؤرخ عبد القادر ياسين، والشاعر الراحل حسيب القاضي. غير أني عرفت بالمتابعة أسماء أعلام فيها مثل حيدر عبد الشافي ورشاد وليلى وراوية الشوا، وسهى عبد الباقي شومان، وبالطبع معين بسيسو ورياض الريس، وهارون وعلي هاشم رشيد وعاطف أبو سيف وروحي فتوح وسليم الزعنون وفاتنة الغرة، من غير نسيان القائد ياسر عرفات، وأسماء أعلام آخرين كُثر لا تسعف الذاكرة في استحضار أسمائهم، وبخاصة أجيال الشعراء والساردين المميزين الذين ظهروا تباعًا وبقوة منذ بداية الألفية الثالثة.

مع وقوع هذه الحرب القذرة، ومع الاستهداف المنهجي للبيوت والعائلات وبالذات للأطفال والنساء فإن اهتمامي أخذ يتجه تلقائيًا لصور وفيديوهات الناجين والمصابين والضحايا من الأطفال والنساء قبل غيرهم. ولا يساورني أدنى شك في أن استهداف الأطفال مقصود ومُبيّت لمنعهم من أن يكبروا ويشكّلوا جيلًا جديدا مناهضًا للاحتلال المتوحش، فيما يهدف قتل النساء لقطع النسل، ولإبلاغ رسالة تليق بالمرسِلين النازيين بأن الضعفاء مستهدفون قبل المقاومين، وبأن القتلة سوف يقترفون كل ما تملك يمينهم كي لا ينجو أحد من محرقتهم.

وأخذت مشاعري وجوارحي بل جملتي العصبية تتركز يومًا تلو يوم على مشاهد وفيديوهات الأطفال والنساء، دون أن تبرد عاطفتي تجاه الأعزاء الرجال من مختلف الأعمار وهم بُناة غزة والمدافعين الأشاوس عنها.

وبما أن إمكانية التواصل مع الأطفال الأحبة متعذرة، وبما أن الإنترنت وبالذات منصة الفيسبوك، أتاحت لي التعرف إلى بعض الصديقات في غزة فقد استحضرتُ للتو اسم الزميلة سما حسن، وهي سيدة شجاعة مقدامة تدافع كاللبوة عن عائلتها الصغيرة، مفعمة بالمشاعر الرقيقة وتواقة للحياة. وأخذت اقرأ مقالها الأسبوعي كل أربعاء في "العربي الجديد"، حيث تفوقت على نفسها تحت ضغط الحرب، وبين ما كتبته مقال جميل عن حال قط وماذا ألمّ به في الحرب. وبقيت وما زلت أواظب على متابعة صفحتها على المنصة، والتي لا تخلو من منشورات أليمة تستعجل فيها كما يستعجل كاتب هذه الكلمات وقف الحرب المتوحشة. "أنا بطلة... لقد نجوت" . "زي ما حكيتي يا أم باسل ـ غول وانفلت ـ أعنف ليلة تمر علينا منذ بداية الحرب ــ يالله ـ من يوقف هذا الجنون". "أنا حين يشرق شمس يوم آخر. اللهم أعنّا على هذا اليوم ــ كل يوم بسنة". وقبل ذلك أطل على صفحة ابنها الشاب محمد المقيم في إسطنبول.

ثم تذكرت أن هناك من عائلتنا من تقيم في غزة. سناء ابنة ابن عمتي يعقوب. لقد تحدثت معها زوجتي إلهام قبل ثلاثة أسابيع من الآن، لكنها لم تعد تجرؤ على الاتصال الهاتفي ثانية أمام مشاهد الهول والضحايا والجرحى بالمئات يوميًا. عساها أن تكون بخير.


ثم انتبهت إلى أني تعرفت قبل نحو سنتين على كاتبة من العائلة تقيم في غزة وهي ملاك. فلما اشتدت الحرب كتبت لها على الماسنجر يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر أطمئن عليها، وحدثتني عن الوضع الرهيب والمياه المالحة التي يضطرون لشربها، وطلبت منها المواظبة على الإطلالة على الفيسبوك بأن تكتب على صفحتها بضع كلمات، لكنها منذ ذلك التاريخ لم تكتب شيئا. وكان من الطبيعي أن يستبد بي القلق وسألت عنها الزميلة بديعة زيدان في رام الله (وهي بلدياتي... من بلدتي) فأخذت تسأل أفراد عائلتها عمن يعرف ملاك، إلى أن كتبت بديعة لي أن أختها تعرفها وكانتا زميلتين في المدرسة. وبعد دقائق بلغتني أن ملاك بخير وقد تهجّرت إلى خان يونس. فتنفست الصعداء.

وتابعت متأخرًا وفي أجواء التضييق الشديد والحصار الذي تفرضه إدارة فيسبوك ما تكتبه مريم لبادي من غزة وتعمل محررة أدبية في وزارة الثقافة. "أحتاج إلى قبر كي أدفن ما تبقى من أحلامنا في تلك البلاد المليئة بالموت الإضافي. قلبي يؤلمني". "شكرا غزة ـ شكرا لكل حدا صبر وتحمّل فراق أحبابه ـ شكرا لكل قطرة دم في غزة ـ شكرا لكل حجر في غزة ـ شكرا لكل غزة". "الهدنة ـ وجع إضافي فوق كل الوجع". وأخذت أواظب على ما تضعه من منشورات للاطمئنان عليها أولًا.

غير أن الحالة النسائية الأكثر إيلامًا التي عايشتها من بُعد، هي حالة آيات خضورة. وأستدرك ابتداءً أن هناك ما لا يُحصى من حالات شديدة الصعوبة ومفعمة بالجراح النفسية والجسدية لنساء غزة، ممن تستحق كل واحدة منهن الانحناء امام جراحها والعهد لهن أن نبقى نحب غزة وكل ما ومن فيها، وحيث باتت غزة تختزل ملحمة الكارثة والبطولة لشعب فلسطين.

لقد صادفتُ يوم 10 نوفمبر فيديو لشابة ذات جرح نفسي عميق، وقد هزني الفيديو  وجعلني أشعر ليس فقط بألم مبرّح، بل بالذنب، لأني لا أسعفها بشيء وهي في أمسّ الحاجة للعون. كانت تتحدث في الفيديو بصوت مليء بالحرقة عن أملها بأن تحتفظ بكامل جسدها إذا كان لا بد من استشهادها، لا أن تذهب أشلاء. كان ذلك هو الحلم الأخير. شاركت الفيديو على صفحتي، وبفضل سياسة مارك زوكربيرغ بحجب المنشورات سوى على بضعة أشخاص فقط، فقد تابع الفيديو على صفحتي ثلاثة أصدقاء فقط، غير أن الفيديو انتشر عبر مسارب وقنوات عديدة. آيات بنت شابة طموحة وكما يفيد موقع ويكيبيديا فقد ولدت في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، تحمل درجة البكالوريوس في الإعلام الرقمي من جامعة القدس المفتوحة، عملت محررة ومسؤولة عن العلاقات العامة في معهد دوز، وأنشأت العديد من المدونات للعديد من الشركات الخاصة في مجال الإعلانات، وحاصلة على شهادة من حاضنة الأعمال BTI  بعد تدربها لمدة ثمانية أشهر على التحرير الصوتي.

منذ استمعت لذلك الفيديو لم يفارقني صوت آيات، ووجهها الصبوح الطافح بالصبر والثبات والزاخر بالألم والأمل، وأخذت أصلّي في قلبي أن ينجو الجميع وفي مقدمتهم آيات وسما وسناء وملاك ومريم. إلى أن استمعت إلى فيديو لآيات بعد منتصف ليل الاثنين الثلاثاء 20 /21 نوفمبر وهي تتحدث عن الرعب وقنابل الفوسفور التي تنفجر قريبًا منها وتخبر: لسّة ما استشهدت. لكن الوضع بيخوّف، وتقسم أنه يثير الخوف. وقد صدقّتها بدون أن تقسم. في صبيحة اليوم التالي قرأت على الصفحة الرئيسية لموقع "العربي الجديد" أن آيات قد استشهدت ومعها شقيقاها وشقيقتاها وجدّتها.

لقد تمكن البرابرة منها ومن أسرتها بعد أن شقت طريقًا صعبًا مريرًا نحو النجاح وظلت حتى آخر لحظة مفعمة بالحياة وتأمل بالنجاة، أو أن يصلها هي وبقية أهل غزة عونٌ ما من مكان ما.

ما أشقانا بعد رحيلك يا ابنتي، ورحيل الآلاف من أحبّتنا في القطاع.

النساء والأطفال زهرة الحياة في غزة هاشم، لهذا هن وهم في دائرة الاستهداف من طرف عنصريين متوحشين.

كم من ديون لكم في ذمتنا يا أطفال غزة ونساءها... عسى أن نسدّد بعضًا منها في مقبل الأيام.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.