}

عائلتي الكبيرة

محمود الريماوي محمود الريماوي 21 فبراير 2024
يوميات عائلتي الكبيرة
(غزة، Getty)


عرفتُ متأخرًا مدى ما يتمتع به أولئك الصغار من سحر بعدما أخذوا يتعرضون إلى استهداف وجوديّ. أعرف أن سائر الأطفال تحت كل سماء، هم الصورة البشرية للملائكة، غير أن الصغار هنا لديهم سحرهم المحلّي، فحين يتدفق أحدهم بالحديث يبدو منطلقًا وراكضًا تلهث الكلمات من خلفه، الكلمات تركض انطلاقًا من لسانه وهو يسبقها، وعلى السامع أن يتابعه لا بحاسة السمع وحدها بل بكل حواسه. العينان تنطقان وتلتمع فيهما شرارة الجدل، فيما تستكمل اليدان النحيلتان الحديث وتقفلان لبرهة قوس المعنى، قبل أن ينفتح القوس مجددًا مع عبارة مثل: نحن أطفال لماذا يزجّون بنا في الحرب؟ الأطفال للعب واللهو والمرح وليس للحرب. لماذا يفعلون ذلك بنا؟ نحن مثل بقية الأطفال في العالم ممن نراهم على شاشة التلفزيون يلعبون ويتناولون طعامهم ويهتفون مع معلميهم... والله هذا عيب. وحين تخرج القاف بنبرة بدوية من فم الصغير، خلافًا لبقية الملفوظات ذات النبرة الريفية، فللسامع أن يتعرّف على لهجة أهل المدينة، حتى لو كان المتحدث لاجئًا، فهو إما أن أسرته لجأت للقطاع من موضع قريب في بئر السبع، أو على تخوم عسقلان والنقب، أما إذا كان ذووه قد لجأوا من اللد وقضائها مثلًا فقد صاروا مع تعاقب السنين والأجيال مثل الغزيّين وتوحّد منهم اللسان مع البقية.

يمنح الطفل بعض وقته للمتحدث الفضولي، ويجيب على تساؤلاته عن كيف أمضوا الليلة السابقة، والطفل النبيه يجيبه أنها "كانت سقعة كأننا في موسكو"... يعرف ابن العاشرة برد موسكو حيث ينام الناس فيها تحت سقوف بيوتهم وليس بين جنبات خيمة، وما أن تلوح نهاية الحديث حتى يستجمع شتات نفسه وبدنه وينطلق راكضًا منتعلًا ما تيّسر في قدميه، إذ أن تبادل الحديث مع أي أحد مجرد فسحة استراحة بين جولتين من العدْو. وقد جرت العادة أن يهرع الطفل نحو خيمة أهله كي يلبي حاجاتهم ومنها انتزاع قطرات من الماء من صنبور عام وسط حشد متدافع من العطاش، أو أن يهدّئ من روع من يصغرونه سنًا، وأفضل أنواع التهدئة أن يحمل له شيئًا مُحلّى، وقلما ينجح في تدبير مثل هذا الشيء، غير أن الطفل يحب قبل ذلك الركض كي يختبر طاقته، ويستمتع بشق الهواء على غرار طير يشقّ الفضاء، وكي يبلغ هدفه قبل أترابه، ومنها أن يبحث عن أترابه هؤلاء فقد توزعوا على الخيام بعيدًا عن بعضهم بعضًا، ومنهم من يختفون ويثير اختفاؤهم صمتًا مبللًا بدموع الحسرة.

منذ الخريف الماضي طرأت عادات جديدة على طريقته في الركض، إذ يخفض الصغير على حين غرّة من وتيرة سرعته ويتوقف مستطلعًا ركامًا من الأنقاض، ثم يلتفت إلى الجهة الثانية فيصادف سيدات يركضن أو يحاولن الركض، ويتأبطن أطفالًا رُضّع أو يقُدن بجوارهن بنات صغيرات يتعثرن في مشيتهن، فيما هو يعرف أن الأمهات والأخوات الكبيرات والخالات والعمّات لا يركضن أبدًا، حتى الرجال لا يركضون إلا في حالات قليلة فلماذا يفعلن ذلك الآن؟ لأنها الطائرات ولأنها الصواريخ. لا يحتاج فهم السبب إلى شطارة. ويعود الصغير للتحديق في الركام الذي يجاوره على الجهتين ركام آخر، ويبدو الطفل تائهًا إذ لم يعد يعرف الحي الذي نشأ فيه ولا الشوارع المجاورة المطبوعة صورتها في ذاكرته ووجدانه، فقد تغيرت المرئيات بصورة عنيفة وبأكثر مما يسعه أن يدركه، فيركض هذه المرة مدفوعًا بقوة التغلب على الحيرة وتحت الشعور المُمض المفاجىء بفقدان المكان المألوف، يركض لأسباب منها سعيه لاستعادة المألوف والمعهود وهو ما يخفق فيه، ذلك أن الحرب وبالذات حروب هذا العدو تفعل أشياء بالغة القبح مثل تهديم البيوت والبنايات والدكاكين على رؤوس أصحابها بضربة واحدة، ولا يفلح من كانوا فيها بالنهوض والخروج من تحت الأنقاض ممن يعرف الصغير بعضهم. لقد فعلوا ذلك في أماكن كثيرة وليس في جباليا فقط. في الجنوب كما في الشمال، وفي الوسط حيث الأسواق الكبيرة والسيارات الجديدة وأجمل المحلات.

ما أن يظهر أحدهم ولدًا كان أم بنتًا في فيديو حتى أشعر بسخونة في أضلعي وبمرارة في حلقي، وبدبيب عاطفة حميمة تشدني إليه. وما أن يتحدث الطفل باللهجة الغزية المحببة، وبنبرة نابضة بالثقة والذكاء، حتى أستشعره حفيدًا لي. أطمئن إلى سلامته وهو يتدفق في الحديث، وما أن ينتهي فيديو الدقائق المعدودة حتى ينتابني قلق شديد عليه فقد يكون أصابه مكروه بعد تسجيل الفيديو وبثّه، وبالاستماع إلى عشرات الصغار وحتى بمجرد معاينة وجوههم وسحناتهم فإن عاطفة جياشة تتحرك نحو كل واحد منهم، فيما أحتفظ بنظرات عيونهم اللامعة وقد غشيتها مشاعر أسى دفين، وسيماء تحدٍ نبيل مثلما يبدرعن طيور يقظة أمام الصيادين، حتى باتوا جزءًا من عائلة كبيرة لي، أفتقدهم وأنشغل بهم وآنس بهم... ألعن المسافات، ومعها العجز عن نجدة أبرياء ملهوفين إلى الدفء والأمان وتواقين إلى حياة عادية، ومتروكين لخذلان الأشقاء ولصمم أرواح الإخوة... إنه العجز عن إغاثة أقرب الناس إلى نفسك وأشدهم حاجة لعون سريع.

يا لها من محبة عاثرة عرجاء لا تغني من جوع ولا تروي من ظمأ ولا تدفئ مقرورًا، تلك التي أمحضها لصغار رفح ودير البلح وجباليا وخان يونس والمواصي والمغازي وتل الهوى والتفاح والشيخ رضوان وبيت لاهيا والشاطئ والدرج والرمال والبريج وقرارة وبني سهيل وخزاعة والفاخورة وعبسان الصغيرة والكبيرة والنصيرات.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.