}

الزلزال

فيصل خرتش 7 مايو 2023
يوميات الزلزال
(فاتح المدرس)
قبل أن تشرق الشمس:
كنت مستيقظًا هذا الفجر، ما زلت أستعيد أحلامي، وأقلّب نفسي بين اليمين واليسار، أستعيد ذكريات مضت، أبتسم، أبلع الابتسامة، وأنظر إلى باب البيت فأجد النور لم يبزغ بعد. أعود إلى إغماض عينيّ فأرى صورًا متقطعة تأتي وراء بعضها، وفجأة بدأت الغرفة تدور بي. أمسكت بالفراش، فلم أستفد شيئًا. كانت الغرفة لا تزال تضطرب، أو أنها تهتزّ، أو أنها تدور. لا أعرف ماذا أسمي هذا. ما زلت متمسكًا بفراش السرير، بدأ الدخان يعلو في الغرفة، شيء ما يحصل، الصوت يملأ الغرفة، طر طر تك تك، اللهم نجنا، لكن الصوت ازداد، والغرفة لا تزال تهتز وأنا أتمرجح على السرير. أبلع ريقي، أجد صعوبة في ذلك. المطر خارج الغرفة ينهمر، أسمع صوته على الصفيح، أستغفر الله وأتوب إليه، ما زال الضجيج في الغرفة يعلو على كلّ شيء، تسمرت فوق الفراش والأصوات لا تزال تضغط على أذني، وأنا أروح وأجيء، ربما يكون هذا يوم الحشر، فالغرفة عالقة في الهواء تتمرجح، عدت لأقول شيئًا أخاطب به الله، أستغفر الله العظيم، اللهم ارفق بعبادك. لا أدري ماذا كنت أقول، المهم كانت الغرفة تتمرجح وأنا ما زلت متمسكًا بالفراش كيلا أقع على الأرض. ثمّ هدأ الزلزال قليلًا وعاد مرة ثانية، كنت أشد أزري بمخاطبة الله أن يرأف بنا، لكن الزلزال تابع بذات القوّة، ثمة رجل ضخم يجلس في عمق الأرض يضع على كتفيه قطعة خشب كبيرة، وهو ينفخ، رأسه كبير وذقنه غير حليقة وشعره منكوش، يرتدي ثوبًا طويلًا، إنه يقوم بهزّ كتفيه وهو ينفخ فتهتز الأرض، ما زال بكامل قوته، وأنا أتمرجح على السرير، إلهي خذ بيدي، ثمّ بدأت الأرض تستقر شيئًا فشيئًا، لم تعد الأصوات تصل إلي، لم يعد السرير يهتز، استقرت الأرض والغرفة والسرير والفراش.
نهضت من السرير وأنا شبه صاح، كان الدخان لا يزال يملأ الغرفة، أشعلت النور، كانت الغرفة في حالة يرثى لها، شقوق في الجدران، الباب ملتوٍ، زجاج النافذة مكسور، النافذة في حد ذاتها خرجت عن إطارها، كثير من الأتربة وبعض الحجارة تملأ المكان، وخرجت من الغرفة إلى غيرها، الكتب ملقاة على الأرض، والخزن الأخرى دلقت محتوياتها، الدخان ما زال يلفّ المكان، ألعاب الأطفال خرجت من الخزانة على الأرض، خرجت زوجتي والأولاد من الغرف، لم يتكلم أحد منهم،  قبلت الجميع، كان الذهول سيد الموقف، ماذا فعلنا يا الله حتى تعاقبنا بهذا الشكل، فتحت الباب كان الدرج قد أصيب بانكسارات وتصدعات، وكذلك غرفة البنات، وغرفة النوم، والصالون، والمطبخ، والحمام. تركت الأولاد وأمهم ونزلت إلى الشارع، نظرت إلى العمارة، كانت التشققات واضحة، مشيت إلى الأمام قليلًا فرأيت بعض الأبنية وقد تهدمت واجهاتها، وأخرى قد سقطت على الأرض بعض حجارتها، مشيت قليلًا فرأيت نساءً قد وضعن البطانيات على رؤوسهن وهنّ يرتدين المنامات، معهنّ أطفال يمشون بجانبهن، والرجال أيضًا يرتدون المنامات وهم يدخنون، كان المطر قد توقف، عدت إلى البيت وأخذت مفتاح السيارة واندفعت أجوب الشوارع لا ألوي على شيء سوى الخلاص من تعب أصابني، صعدت إلى حارتنا القديمة فرأيتها نائمة من دون حراك، ثمّ جاءني صوت الهاتف، فأخذته، كان الصوت لابنة أختي وهي تقول: أنقذنا يا خالي أرجوك، إننا نموت، وانقطع الصوت، توجهت إلى بيتها، كانت العمارة قد تهدّمت إلا قليلًا، أين ابنة أختي، لم أجد أحدًا، وقفت مع الذين ينظرون، ثمّ جاءت فرقة الإنقاذ، وبدأ أفرادها عمليات إخراج العالقين داخل المبنى، جاء أخوها، فطلبت منه أن يبلغني آخر النتائج، هز برأسه، ومضيت لا أعرف إلى أين، ثمة أبنية مهدّمة، هذا ما رأيته في الطريق، ابنة أختي أخرجوها من البناء الذي تهدّم الساعة الخامسة والربع مساء، هي وأولادها الثلاثة، إلى المستشفى، ابنها وضع في العناية المشددة، وهي أصابتها كوما، والبنتان أصيبتا بكسور شديدة، قلت: اللهم ارحمنا يا أرحم الراحمين.
عدت إلى البيت، واستلقيت على السرير، كان كلّ شيء بحاجة إلى ترميم، الهاتف يرنّ، أخوتي يريدون أن يطمئنوا علي، أخبرتهم بالذي بحاجة إلى ترميم، الله يجبر مصيبتك، هكذا قالوا، وأنتم، قالوا: بيت خالي تهدم، وخالي توفي، وزوجته في المستشفى، وخالي هذا يسكن في المدينة القديمة، ويعيش هو وزوجته فقط، أولاده كلهم تزوّجوا، بعضهم نزح، وبعضهم لم ينزح، لم أعد أرد على الهاتف، الجميع هنا صامتون، نزلت إلى المقهى، لا أحد سوى أبو علي وطوني صاحب المقهى، جلست في الشتوي خوفًا من سقوط المطر، بعد ذلك جاء الدكتور، تكلّم عن الزلزال، وقال: إنّ مركزه في كهرمان مرعش في تركيا، وأنّه ضرب حلب وإدلب وحماة، وأعطى درجته، ثمّ تكلم عن الأضرار التي نتجت عنه، وعدد المباني التي تهدمت في الحي الذي يسكن فيه. جاء صديق آخر، فهنأناه بالسلامة، وتكلم عن الخراب الذي شاهده، وآخر وآخر، وكلهم تحدثوا عما شاهدوه من خراب ودمار، شربنا القهوة ، وتيسرنا بعد ذلك كل في طريق.
ابن أختي اتصل معي وأخبرني أنّ الولد قد توفي، المقصود ابن ابنة أختي الذي تركناه في العناية المشددة. وما إن حلّ اليوم التالي، حتى فارقت ابنة أختي الحياة، قمنا بدفنها على أكمل وجه، وقمنا بتعزية بعضنا، وكانت الهزات الارتدادية في الليل والنهار تجعل الناس ينامون في الحدائق، أو في سياراتهم، سوف تجدهم على الطرقات ينصبون البطانيات على شكل خيم صغيرة، ويشعلون النار ليتدفؤوا عليها.
أصلحت الدرج بدعامات من حديد، بحسب توصية لجنة السلامة التي طلبت منّي أن أدعم الدرج، ففعلت ذلك، وسترت الشقوق التي أحدثها الزلزال. أنهيت الوضع وكانت الهزات الارتدادية ما زالت تعبث بنا. كنت أراقب التلفاز، الخبر الأول دائمًا يكون عنه، تقريبًا كان عدد الذين قضوا تحت الأنقاض يقدر بخمسة آلاف في سورية، وحوالي خمسين ألفًا في تركيا، تصورت هذا الذي يحمل خشبة على كتفيه ويهزّ الأرض قد بدأ يشيخ، وأنه غير قادر إلا على الهزات التي أصبحت صغيرة بعض الشيء، وأفضل ما أفعله الآن هو أن أستلقي في الفراش وأنام...

مقالات اخرى للكاتب

سير
27 مارس 2024
سير
10 مارس 2024
يوميات
7 مايو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.