}

غرفة التجاعيد

راضية تومي راضية تومي 12 يونيو 2023
قص غرفة التجاعيد
(ليلى فرحات)

سمعتْ طرقًا على الباب، فاتجهت ببطء صوبه متسائلة من يكون؟ هل هي صديقتها التي تمرّ بعد الدّوام، مرة أو مرتين في الأسبوع، لتثرثرا قليلًا؟
كانت ثلاث طرقات خفيفة لم تتكرر. سألت قبل أن تفتح الباب: "مَن هناك؟". لا جواب. تعجّبتْ. هل يكون الطارق، أو الطارقة، قد ذهب أو ذهبت بهذه السرعة؟ أم أنها توهّمتْ سماع دقّ على الباب؟ نظرت من العين السحرية، لكنها لم تر أحدًا. قررتْ أن تفتح الباب، وعندها عثرتْ على علبة بيضاء اللون من الورق المُقوّى. في بهو العمارة، لم تجد أحدًا. علبة وحيدة صغيرة تنتظر عند عتبة شقتها. حملتها وأغلقت الباب. كان الفضول قد تملّكها، فرفعت غطاءها بسرعة، وإذا بها ترى خطوطًا صغيرة منحنية ومُنثنية من مادة تميل إلى لون بشرتها. ستة خطوط صغيرة ورفيعة. تذكرت ما كانت قد نسيته أو تناسته: لقد بلغت الخامسة والعشرين من العمر، وهذه هي الدفعة الأولى من التجاعيد التي عليها أن تضعها على وجهها. هذا الروتين المعروف منذ الصغر، يبدأ الرجال والنساء العمل به في سن الخامسة والعشرين. كان عيد ميلادها منذ شهرين تقريبًا، وهو العيد الذي لم تستمتع به إطلاقًا كما الأعياد السابقة، لأنها أدركت أن مرحلة جديدة من حياتها قد بدأت.
كانت تعرف أنها من الآن فصاعدًا ستستلم علبة مثل هذه مرة واحدة في السنة. عليها أن تحمل تلك الخطوط برفق، وأن تضعها على وجهها. تتعرف الخطوط على مكانها الطبيعي، وكل خطّ منها يستقر في محلّه على جلد جسدها. كان هذا الذي قد بدأ للتو كابوسًا أرجأتْ التفكير فيه بجدية منذ زمن، لأنها لم تكن مستعدة لتقبّل فكرة الخطوة الأولى في طريق الشيخوخة والذبول.
ها قد دقّت ساعة شيخوختها التي ستنسج على بشرتها غلالة كريهة كي تحوّلها إلى شبكة من التشققات البشعة. فكّرتْ في الأمر مليًّا. لم يكن مسموحًا لأحد بخرق هذا الناموس الذي توارثوه أبًا عن جدّ. إنه قانون صارم في مدينتهم، وكل من يبلغ الخامسة والعشرين عليه البدء في تنفيذه.
شعرتْ بانقباض كبير وهلع مما سيصيب بشرتها المرمرية في ما سيأتي من أيام. واعتراها كدر شديد، لكنها لم تكن مستعدة لكي تُنفّذ هذا القانون الجائر الذي لا يتعاطف مع قناعاتها عن الجَمال. ما الذي يدعوها لكي تنضم إلى سائر القطيع؟ ما الذي يمنعها من الثورة على هذه الأفكار القديمة والعادات البالية؟ لن تستسلم لدعاة القبح وسدنة الدمامة. أبدًا، لن تخضع لهم، ولن تسلّمهم حرير بشرتها.
ولجتْ إحدى الغرف، ووضعتْ العلبة هناك، وأغلقت باب الغرفة في حزم.
ومضت السنون وهي أمينة على عهدها وسرّها، كلما وجدت علبة التجاعيد عند عتبة الباب، حملتها كرهًا، ووضعتها بتصميم التحدي والدفاع عن قناعاتها الراسخة داخل الغرفة نفسها.
وعامًا بعد عام كانت تلك العلب تتوالى الواحدة أكبر من الأخرى. وبلغت الثلاثين، ثم الأربعين، ثم الخمسين من العمر. ولاحظ الناس جمال بشرتها الملساء المشدودة النضرة، وجسدها الفاتن المصقول من المرمر، باستداراته المُغرية. لكنها كانت حذرة، فما فتئت تنشر هنا وهناك احترامها لقانون التجاعيد السنوي، وفلتتْ بحيلة منها وبذكاء من تشكيك بعض المتشككين الغيورين، والمتشككات الغيورات، الذين حاصرهم الزمن بشباكه التي لا تلين. ودَعَتْها برامج الجمال والعناية بالصحة في القنوات التلفزيونية، وصارت ضيفة دائمة تسدي النصائح للسيدات، وكيف يعتنين بأنفسهن. وكانت تردد دائمًا أن سرّ حفاظها على شبابها هو شربها للماء بكميات كافية، وممارسة الرياضة، واتباع نظام غذائي صحي، وولعها بالحياة.
صدّقها الجميع، فقررت أن تُدوِّن تجربتها الفريدة في كتاب وكتاب... واشتهرت في مدينتها كخبيرة ومحاضِرة في أسرار واستراتيجية الشباب الدائم. ضحكتْ لها الدنيا، وعشقها الناس، وكان عدد معجبيها يزداد عامًا بعد عام وكذلك عدد العلب التي تأتي إلى منزلها. آمنتْ أن بوابة الخلود قد فُتحت لها على مصراعيها.
وبلغت التسعين وكانت الغرفة الشاهدة على كذبتها قد امتلأت عن آخرها. في الأيام الموالية، وصلتْ علبة كبيرة أخرى، فسارعت بإدخالها إلى الشقة، وما إن فتحت باب غرفة التجاعيد التي احتفظت بالسر طيلة تلك السنين حتى تدافعت العلب من خلف الباب بقوة مخيفة، فخلعته وطارت أغطيتها فجأة، واندفعت التجاعيد والتشققات في كل مكان، وكأن ريحًا عظيمة تنفخ فيها، وأخذت تدور حول المرأة بسرعة جنونية. هنا أدركت أنها ستواجه سرّها القديم، وأيقنت أن ساعة الاستسلام قد حانت.
تمدّدتْ قسرًا على أرضية الصالون كَمَن أُعلِمت بدنوّ أجلها. كانت التجاعيد قد تحوّلتْ إلى حبال رقيقة طويلة جدًا وقاسية الملمس التفّتْ حول جسدها لفاّت عديدة، وشَدَّتْ وثاقها من أخمص قدميها حتى أسفل ذقنها الخزفية. واستمر الالتفاف في تصاعد حثيث حتى بلغ عينيها الجاحظتين، وما هي إلا لحظة حتى اختفت العينان تحت حبال التجاعيد، ثم حُجِبتْ قمّة رأسها.

*كاتبة وشاعرة من الجزائر.

مقالات اخرى للكاتب

سير
14 مارس 2024
يوميات
27 ديسمبر 2023
شعر
6 ديسمبر 2023
قص
12 يونيو 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.