}

من سيرة ذاتيّة: كمن يطبخ الأمل على نار هادئة

محمود خير الله 28 يوليه 2023
سير من سيرة ذاتيّة: كمن يطبخ الأمل على نار هادئة
(أيمن صلاح طاهر)
(1)
الشاعر ـ خصوصًا شاعر قصيدة النثر ـ هو أمٌّه أكثر من أي شخص آخر، ليس لأن جوزيف كامبل قال في كتابه "البطل بألف وجه"، أحد أبرز الكتب تأثيرًا في القرن العشرين، إنه في المرحلة التي عَبدَ فيها البشرُ "الإلهة الأم الكبرى" قبل آلاف السنين، كان يتم التعبد إليها بالشعر، وبالشعر قبل كل شيء، لا، بل إن الأمر أكبر من ذلك بكثير، على الأقل بالنسبة لي.
الشاعر عندي هو أمٌّه التي تربي الدجاجات وتطعمها وتسقيها وتعالج كسورها لشهور طويلة بصبرٍ وأناة، قبل أن يأتي اليوم الذي تذبحها فيه وتنزع ريشها وتطبخها لأولادٍ جياع، الشاعر هو أمه، التي علمته بفطرتها السليمة فقط كيف يحب الكائنات الصغيرة ويتوقّعها ويؤمن بها، الكائنات الهشة التي تشبهه وتشبهها، الشاعر هو أمه التي يكفيها أن تمشي على السطوح لتصبح "الحاكم بأمره" على مملكة الهشاشة، يكفيها أنها كانت "الملاك المجنّح" الذي يطعم الدجاجات والديوك، فتشمه الأرانب وتقرض أقدامه الإوزات والبطات، وتهبط على كتفيه العصافير والحمامات والهداهد واليمامات، الشاعر هو أمّه، حين تقف كملاك حارس بين الطيور تحكمُ بالعدل وتمنعُ الظالم عن ظلمه وتمنح "المعزول" منها كل ما لديها من حنانٍ وأمومة.
الشاعر هو أمُّه، آه لو كانت الأمهات يعرفن ذلك، حين تعلمه مع الفطام معنى القيمة الإنسانية الكبرى التي اسمها "الإتقان في العمل"، مهما كان نوع العمل يبدأ الشاعر في أن يكون شاعرًا فعلًا حين يمارس الإتقان في كل ما يفعله صغيرًا، ولو كان يجرّب أن يصنع حساء من خشب الأشجار على الشاعر دومًا أن يُتقن، ولو كان الشعر في كل العصور في حاجة إلى هذه القيمة، فإن شاعر قصيدة النثر ، الذي تخلى طوعًا عن الوزن والقافية والتقاليد الشعرية، وأصبح يكتب نصًا مضادًا للثقافة السائدة هو أكثر شعراء العالم حاجة إلى الإتقان.
لا أريد أن أقول إن الشاعر هو مطبخ أمه، وإن كان ذلك في حالتي أمرًا صحيحًا تمامًا، لأن جزءًا كبيرًا من دفء هذا العالم، ومن أحلامه وطموحاته وأفكاره عن الشعر، تعلمته في بادئ الأمر من "مطبخ أمي"، الذي كان عبارة عن حجرة صغيرة ودافئة يقيم بجوار أحد جدرانها "بوتاغاز ايطالي" ـ اشتروه في العام الذي ولدتُ فيه فأصبح شقيقًا لي ـ ومن تلك الحجرة التي يطل شباكها على "منور" عامر بالدجاجات والطيور والبط والأرانب، هناك تُربي الأمل وهنا تطبخه على نار هادئة، حين كبرتُ لم أجد نفسي في حاجة إلى أكثر من القيم الأصلية التي تعلمتها في هذا الحيز من الدفء، وظللت محافظًا على قانون الإنتاج نفسه: دائمًا أربي الأمل في كلماتٍ صغيرةٍ، ثم أطبخُها وأقدمُها للآخرين.
رأيتُ أمي تصلي من أجل الدجاجات في كل مرة تضع فيها الرقبة المسكينة تحت السكين الذي لا يرحم، كانت تدعو لها بالصبر على المكاره، وترجوها أن تستسلم للقضاء، بينما الدم ينفر من العروق النحيلة، في هذه اللحظة رجلا الدجاجة ـ يا الله ـ تصبحان مفرودتين من قسوة الألم، "شهقةٌ خفيفةٌ يا ولدي وينتهي كل شيء"، كانت أمي تقول لكي تطفئ الرعب الذي تراه في عيني، كانت تريد أن تعلمني أن الإنسان يمكن أن يكون رحيمًا بينما يقوم بذبحِ دجاجة.
بأطراف أصابعي، كنت أمسك الرأس المسكينة للذبيحة مُشهرًا الرقبة للنصل، ظل ذلك يعني لي في الطفولة أمورًا جسيمة، أن أرواح هذه الطيور تغادر عالمنا مصطدمة بأصابعي، ونظرًا إلى كثرة الطيور الجميلة التي خرجت أرواحُها على يدي وأنا طفل صرتُ أصدق أن يدي مشحوذة بطريقة ما، وأن ما أكتبه بهذه الأصابع يصبح ـ بطريقة ما ـ حاملًا حنين هذه الأرواح المذبوحة إلى العدل، حنينها إلى الحياة مرة أخرى، لقد صدقتُ دائمًا أن هذا الدم المسفوك حوّل أصابعي إلى سكاكين، وكلما كتبتُ بها شعرًا ظهر الدمُ بين السطور.

(2)
الشاعر هو أبوه بالضرورة، حتى لو اختلف معه كل الاختلاف، فحينما كنتُ في العاشرة من عمري، كان أبي ـ الذي يعمل طوال الأسبوع مدرسًا للغة العربية ـ يُحسن دخله ويكمل دوره "المجتمعي" بالعمل خطيبًا من قبل وزارة الأوقاف، ولم يكن يتنازل أبدًا عن اصطحابي معه "ليخطب الجمعة" في مساجد متفرقة في قرى شبين القناطر، "محافظة القليوبية"، سواء كنت أرغب في ذلك أم لا، لقد كان قانونه أن المرء لا يمكنه أن يعرف شيئًا عن العالم الحقيقي الذي يعيشه إلا إذا مشى فيه على قدميه لمسافات طويلة لا يجب أن يكون لها حصر، "كيف تعرف قَدَمُك الصحراء من دون أن تغوصَ في الرمال؟".




كان يتساءل بلغة عربية سليمة لخريج كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر (دفعة 1961)، ويعتقد أن الله خلق الناس بحيث لا يجب أن يتعبوا من كثرة المشي، بل المتعبون حقًا هم هؤلاء الذين حرموا من متعة المشي.
إن أعظم درس للشاعر في سن العاشرة هو أن يمشي على حافة الهاوية، بينما يتدرب على النحو العربي، قد يبدو الأمر غريبًا إلى درجة الجنون، لكنه مجرد توصيف دقيق لما حدث معي، لقد أتقنت اللغة العربية صغيرًا، بينما كنت أمشي مع أبي وحيدين وسط الصحراء، صباح بعض أيام "الجمعة"، لا شك أن ذلك كان أمرًا ملهمًا لي بشكل ما، حيث يصطحبني إلى الصلاة لخطبته الفصيحة المرصعة بالشعر القديم، كنا نمشي كيلومترات عدة في ذلك الفضاء الفسيح الذي يساعد على التأمل في قرية "عرب العليقات"، حيث كان هنالك صف من البيوت، بينما الصحراء الخالية محفورة حفرة هائلة وعميقة، حيث شقت الصخور بالمتفجرات في الزمن الناصري لسبب لم يعد أحد يذكره، وتركت هذه الفجوة العميقة جدًا لدرجة أن الكلاب، التي كانت تهبطها من مدقات فيها، كانت تبدو فيها بعيدة مثل ديدان صغيرة، ونباحها كان يطلع من الأعماق خافتًا وشحيحًا.
أول صفعة في حياتي كانت بسبب سؤال في النحو، ومن بعدها أصبح النحو سببًا في إنقاذي من أول هاوية، لقد بقي النحو سببًا لإنقاذي إلى أن كبرت، فقد تخرجت من قسم اللغة العربية في "كلية الآداب" جامعة بنها عام 1992، وحين التحقت بالعمل الصحافي لأول مرة في حياتي أنقذني النحو أيضًا من الضياع، فقد عملت لسنوات مصححًا للغة العربية في صحف عدة، بينها "جريدة الأهالي" الغراء، إلى أن بدأت الكتابة إلى جوار "التصحيح" زمنًا قبل أن يختارني الراحل ياسر رزق رئيسًا لقسم "الديسك" في "مجلة الإذاعة والتلفزيون"، وبحكم الشعر لم تنتهِ علاقتي أبدًا بهذا النحو العربي.

(3)
الشاعر ـ وإلى حد ما ـ هو نافذتُه، قدرتُه على التلصّص ورؤية مشاهد جديدة للعالم، فبينما تدور حياة الناس في نهر الشارع، ويلقون على بعضهم التحايا كل صباح، يكون هنالك مَن يقف ويرصد ملابسهم وأجسادهم وأصواتهم وضحكاتهم وشجاراتهم وصرخاتهم وشتائمهم، ويسمع ـ وكثيرًا ما يكون ذلك متاحًا أثناء النوم ـ جزءًا من أسرارهم وخطاياهم واعترافاتهم المدهشة، من يريد أن يعرف الشعراء حقًا عليه أن يدرس أمزجتهم، أن يفهم البيوت التي نشأوا فيها وصرخات الشوارع التي قضت مضاجعَهم صغارًا، والذي عشته ورأيته في تجربتي أن البيوت في المدن الصغيرة والقرى التي نشأنا فيها لا تكون مكانًا للوحدة، أو الانفراد، أو الابتعاد عن العالم، أو العزلة، بل على العكس تمامًا، البيوت التي عشتُ فيها كانت مشاعًا مفتوحًا على كل الاحتمالات التي يقدمها صخبُ الشارع وونسه ووقاحته، بيوتُ طفولتنا كانت مغلقة وآمنة فعلًا من حيث الشكل، لكنها كانت منتهكة من أصوات العالم القادمة من كل اتجاه، ولو أمضيتَ النصف الأول من عمرك في "الدور الأرضي" في تقاطع شارعين في مدينة صغيرة تنتمي إلى إحدى محافظات الوجه البحري فأنت جزءٌ من عالم صاخب يحيط بك لا يسمح لك حتى بالجنون، وقد يصبح هذا العالم بمرور الوقت جزءًا منك، وتبدو كأنك ـ أنتَ نفسك ـ قد صرتَ نوعًا من صخب الدكاكين والورش والمخابز والأسواق والباعة الجائلين، هذه الروح الغنية قد تنجح في أن تكتب شعرًا له مثل عذوبة أصوات نداءات الباعة وجمالها في الأرياف، ولهذا أقدم للشعراء أبناء "الدور الأرضي" أعظم تحية، فقد تسللت إليهم حكايات كثيرة، وهزائم لا حصر لها، ومئات الأغاني والصرخات والشتائم، بسبب ما اقتحم حيواتهم الغضَّة من تفاعلات الخارج وجروحه الدامية، الأمر الذي يُحرم منه سكان الأدوار العليا في المدن، وهؤلاء الذين لا يحبون الإنصات إلى نُباح العالم.
لابد للشاعر من نافذة حتى لو كان يفضل أن يبتعد عن العالم لكي يكتبه، الحق أنني كلما عشتُ في صمت أكبر وعزلة تامة ـ هذه الأيام لا اسمع سوى هدير المكيفات تنبعث من نوافذ الجيران ـ كلما كنت قادرًا أكثر على كتابة الصخب الذي ورثته من نصف حياتي الأول، تزوجت شابًا وعشت في القاهرة وسط صخب من نوع مختلف، يسمح للإنسان بقدر من الهدوء على الأقل ليلًا، بينما لاتزال نافذتي الأولى إلى اليوم على حالها من الصخب والقدرة على البث المباشر للقصص الإنسانية ليل نهار، حتى بعد أن كبرت وصار لي أبناء يفوقونني طولًا، كنت كلما زرتُ أمي واضطررت للمبيت عندها أشعر أنني عدت إلى ذلك المسرح المظلم الذي أؤدي فيه دور المستمع الخفي القابع خلف الجدران، الشبح الذي يسمع قصص العابرين في الشارع من دون أن يراه أحد، وربما أكتب اليوم القصائد ـ فقط ـ لكي أقول لكل الذين سمعتهم "أنا هُنا".




يكون من حسن حظي أن من يقرأ شعري سوف ينظر من نوافذ كثيرة رأى فيها الروائي طارق إمام في مقاله عن ديواني "الأيام حين تعبر خائفة" (2019): "جرح النافذة في حائط العالم"، بينما رأى الناقد الراحل الدكتور شاكر عبد الحميد أن "النافذة والشرفة والعين هي علامات للنظر والرؤية والإطلال على العالم"، وأغلب هذه العوالم جاء أصلًا من النافذة الأولى التي لا تزال يُسمع فيها ـ إلى اليوم ـ سباب الشوارع كأنه نوع من التكريم، أو مثل "لعنة سقطت من النافذة"، فحين بدأت كتابة قصيدة النثر منتصف التسعينيات من القرن الماضي كان النقاد يشيرون إليّ بوصفي شاعرًا شابًا يُشرك آخرين معه في القصيدة متخليًا عن ذاته الفردية أحيانًا، ولم يكن لذلك تفسير عندهم سوى أنني أكتب بوعي أيديولوجي يفرض عليّ هذا الاختيار.
ليت النقاد يعرفون كيف عاش الشاعر طفولته في غرفة تلقى فيها الحكايات وقصص الحب والمرارات من خارج الغرفة إلى الداخل، ليتهم سمعوا ما سمعتُ من ضحكات رقيعة وهزّهم ما هزني من كلمات الغزل، ليت النقاد يعرفون أنه في كثير من الأحيان لا يكون الشاعر مدفوعًا سوى بوطأة نشأته فقط، فهؤلاء هم من يتعلم الشاعر منهم كيف يتعذب المرء عمرًا من دون أن يجد من ينقذه، ومن دون ـ حتى ـ أن يجد من يكتب عذابه.
ليت النقاد يعرفون قصة جار لنا غيرت مجرى طفولتي، هذا الجار كان فلاحًا فقيرًا أصيب بمرض في المخ عرف أهله لاحقًا أنه "السرطان". ونظرًا لفقره الشديد، لم يلجأ إلى الطب إلا متأخرًا جدًا، لكنه لجأ إلى شرفتي، كأنه يمنحني آخر آهاته، وبطريقة ما يحكي من خلالها قصته. لقد أمضى الرجل عامين يتأوّه بمرارة تمزق القلب تحت نافذتي رابطًا رأسه ـ بالأسلاك ـ بسبب الصداع غير المُحتمل، الذي تضاعف إلى أن مات، ساعتها عرفوا أنه كان يقاوم نوعًا من سرطان المخ، هذا الرجل الذي منحني بؤسه وعويله ليالي طويلة لم أكتبه أبدًا حتى اليوم، وقد كان أحد أسباب كتابتي للشعر، فمَن غير الشاعر يستطيع أن يصور آلام رجل كهذا؟...

(4)
الشاعر هو ـ نوعًا ما ـ الشخص الذي عليه أن يفهم أشباحه، ولديه موقف مباشر من الليل والغروب، على الشاعر أن يعرف شيئًا لا يستهان به عن القمر والنجوم، وأن يفهم لغة السحب، ويعرف شيئًا عن الطيور المهاجرة، الشاعر لا بد أن يعرف كثيرًا عن الخوف والظلام والفزع والأوهام، جزءٌ كبيرٌ من الشاعر يتمثل في ليله، الشاعر هو الشخص الذي يجب أن يعرف مفاتيح الغروب، يعرف تفاصيل هذه الساعة، ويضبط جسده على إيقاعها الأبدي، لحظة يؤوب الليل وتعود الطيورُ هاجعةً إلى أعشاشها فوق الأشجار، لحظة تنسحب الشمس تمامًا من فوق البيوت القصيرة تاركة لليل كل ما يريد من غموض، لحظة تتحرك المواشي والحمير إلى حظائرها وتحلب نساء الفلاحين مواشيها، حين لا تُسمع سوى الأبواب المغلقة ويعمٌّ الغطيط في ليل بيوتنا.
في ليلِ مثل ليلنا يمكنك أن تسمع آهات الجيران وحزنهم كما يمكنك تخمين نتيجة ابنتهم في السنة النهائية من تعليمها الجامعي بصوت "زغرودة" واحدة، يمكن أن تشم طبيخَهم إذا طبخوا، وجوعَهم إذا جاعوا، وسوف تعرف مشاكلهم الخاصة طريقها إليك، وقد تتطلع إلى حلها معهم، في بيوتنا نجتمع حول الملابس المستعملة والأحذية المهترئة وطوابير الخبز والجنازات والحرائق، حيث لا معنى هنا لكلمة اسمها "العزلة"، في بيوتنا نفرش حصيرًا، أو سجاجيد مصنعة من ملابسنا القديمة، لم نكن نعرف السجاجيد التي تأخذ شكلًا واحدًا في المصانع التي لا يعرف غيرها الجيل الجديد، لقد كانت ألوان ملابسنا من جلاليب قديمة وبيجامات وأقمشة ممزقة يعاد تمزيقها وغزلها لكي تلون السجاجيد المفروشة على الأرض بعد سنوات، فدورة حياة ملابسنا قديمًا كانت تشبه دورة حياة إنسان هذه القرى، فهي تبدأ في الأعالي لكنها تنتهي على الأرض، في الحقيقة لم يستطع أحد من أفراد أسرتي، أو من الدائرة المحيطة بنا، أن يقول إنه يعاني من الوحدة، هذه الرفاهية لم يكن لها مجال بيننا.
حين كتبتُ الشعر كنت أدرك ذلك، أي نعم، أنا ابن أسرة مستورة، لكنني أيضًا ـ وفي الوقت نفسه ـ ابن مُجتمعٍ فقير، حيث تتناسل الأشباح، مدرستي الابتدائية كانت محكمة شرعية في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، ثم مستشفى في عقد السبعينيات، وبسبب قربها من "أبو زعبل"، شهد المبنى سقوط عدد من شهداء حرب أكتوبر 1973، وحين التحقت بها في نهاية السبعينيات كان الشهداء قد تركوا لنا أشباحهم في كامل هيبتهم وانصرفوا، حيث ظلت دماؤهم قانية على الجدران، والشبابيك ظلت مدهونة بالأزرق الكالح، الذي يشير نوعًا ما إلى العدم.
لقد كانت الحربُ وسنوات ما بعد الحرب هي المناخ الذي تفتح وعيي عليه، وهو بالمناسبة مناخ ملائم جدًا لإنتاج شاعر، بالضبط مثلما يكون البحر مكانًا ملائمًا جدًا لإنتاج سبَّاح ماهر.

نعم، أنا ابن مُجتمعٍ فقير، ولم يكن لي أن أكتب نفسي من دون أن أحمل أشباح هؤلاء إلى قصائدي، وقد كانوا دائمًا يثيرون الأسئلة، فبسبب قصيدة لي ترجمت إلى اللغة الفرنسية بعنوان "على الضفة"، تحدثت فيها عن "ذلك الولد الصغير/ الذي لم يعد يخفي وجهه/ وهو يأكل من القمامة/ مثلما كان يفعل/ قبل أن تبدأ الحرب"، سألني ناقد عربي صديق عن توقيت كتابة هذا النص، فقلت 2008، فبدا مندهشًا كأنه اكتشف نبوءة ما، فلم يكن يفهم كيف يكتب عاقل هذا الكلام مع أنه لم تكن هناك تاريخيًا حرب بالمعنى المعروف؟... وإن كان هناك من بدأ يأكل فعلًا من القمامة بعد ثورة 25 يناير 2011، وربما زاد المشهد اليوم، وأصبح أكثر وضوحًا من دون أن نعرف الحرب بمعناها التقليدي. لقد نسي الناقد الصديق أن الحكومات في بلادنا تلطخ عريها دائمًا بالشعارات الرنانة، لتؤكِّد أنها محاصرة بالمشاكل، وتعيش في حالة حرب دائمة: "مع الجهل ـ مع البطالة ـ مع المتطرفين"... وهكذا.
الشاعر الذي تربى في بيوت مثل بيوتنا، وسمع مثلنا أنين الأمهات الحزينات، الشاعر الذي تعود أن يطل على الأمل والحنين من شرفات تشبه شرفاتنا، وفقراء يشبهون أهلنا، لا بد أن يكون قد اكتسب صفة "الرائي"، لا عن حكمة ونباهة، بل ربما من كثرة ما عاصر من هزائم، هذا الشاعر ربما أصبح  قادرًا على استشراف الشارع وفهم همساته الخافتة والاستماع إلى أنينه المكظوم، لقد تربيت بطريقة تجعلني أسمع "نكات" الشارع ضد الحكومة، وأفهم دلالاتها أكثر مما أسمع الحكومة وهي تتحدث عن نفسها، وقد كان طبيعيًا أن أتوقع خروج الناس ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، في ديوان "كل ما صنع الحداد" الصادر عام 2010، لأن الشارع الذي تربيت على صراخه كان يغلي بما فيه الكفاية، بحيث لم يستغرق سقوط نظام كامل سوى 18 يومًا فقط:
"يا مَنْ تعيشون هنا،
لا تصدٌّقوا السحاب الذي في السماء،
إنّه فراء زوجة الرئيس
بعدما علّقتْه على شمّاعة الرب،
وإذا صادفْتٌم أسدًا هاربًا
من حديقة قصْر،
كذّبوا عيونًكم
لأنه ُمجًّرد صديقِ مخلصٍ
لسعادة الرئيس...". 
(ديوان "كل ما صنع الحداد" ـ صفصافة 2010).


هامش:

(*) "قطار بطيء إلى القاهرة" هو عنوان السيرة الذاتية للشاعر، نشر فصلها الأول: "شرفة تطل على شارع ضيق"، في مجلة "نزوى" العمانية 2017، ونشر فصلها الثاني: "يحلقُ عاليًا فوق البيوت"، في مجلة "إبداع" المصرية 2019. وهذا هو فصلها الثالث.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.