}

البخيل ألبريشت

قص البخيل ألبريشت
(عبد الكريم مجدل البيك)
وصلا صباحًا إلى أحد مَحلاَّت "ألدي" التجاريّة الشهيرة لشراء ما يلزمهما لتناول الفطور في مكتب العمل. ولأنهما محكومان بالوقت، وبسبب نَزقَها الصباحي غريب الأطوار، فضّلت صديقته الشابة "هيلغا" انتظاره قرب صندوق المُحاسبة. دخل أحمد مسرعًا، واشترى ما احتاجاه. وضع أغراضه التي تسوَّقها على السير النقّال، ووقف منتظرًا دوره كي تسجّل مُحاسِبة الصندوق، بوساطة جهاز قارئ الباركود، أسعار ما اشتراه ليدفع الفاتورة المطلوبة.
ازداد عدد الزبائن المنتظرين خلفه. وقفت أمامه إمرأة ألمانية ستينية مضطربة. بدت عليها معالم العَوَز، واختلال الحال. في يدها اليسرى المفتوحة قليل من نقود معدنية. قرَّبت رأسها من كفها المفتوحة، وبأصابع يدها اليمنى أخذت تُجري عملية العَدّ. كانت قد اشترت من الحاجيات ما ثمنها يفوق قدرتها الشرائية.
عدَّت المُحاسِبة النقود المُسدَّدة فوجدتها ناقصة، لا تطابق السعر المُدَوَّن على الفاتورة. طلبت منها بلطف وتهذيب أن تعيد بعض ما اشترت من حاجيات كي يصبح في إمكانها دفع نقود فاتورتها من دون زيادة، أو نقصان. وافقت المرأة الشارية على إعادة علبتين من الشوكولا، وعلبة مُرَبَّى. بعملية حسابية تصحيحية بسيطة اكتشفت المُحاسِبة أنّ المبلغ المدفوع من قبل المرأة ما زال أقل من قيمة الفاتورة بمقدار خمسين سنتًا تمامًا، فأعادت إليها نقودها. زاد اللَّغَط بين الزبائن، ضغطتْ المُحاسِبة على زر صوبها تطلب به من زميلتها فتح صندوق مُحاسَبة إضافي كي تُخفِّف من ضغط الانتظار.
امتَعَضَ الشاب أحمد المنتظر لدفع فاتورته. نظر إلى ساعته بقلق. الوقت يمضي، ولديه موعد هام. راحت حرارة الغضب تدبّ في عروقه، سرت فيه الحيويَّة، رفع صوته قائلًا: ألا يستطيع السيد "ألبريشت" مالك شركات "ألدي"، اليَهوديّ الأغنى في ألمانيا، أن يسامح السيدة المُسِنّة بالخمسين سنتًا المُتبقِّية من الحساب؟ لم لا يُخصِّص هذا الرجل في كل فرع من فروعه المنتشرة في كل قرى ومدن العالم صندوقًا للتبرُّع في مثل هذه الحالات؟
ساد الصمت بين الزُبن المنتظرين دفع فواتير مشترياتهم، احمرّت وجنتا البائعة. توقفت السيدة الستينية عن عَدّ نقودها. خفّف أحمد من اندفاعه ولهجته قائلًا: عذرًا منك فأنا لا أقصدكِ شخصيًا، بل أقصدُ العجوز الماكر، عليه أن يستحي!
هنا، ومن دون سابق إنذار، ومن دون مُسوِّغ، غادرت "هيلغا" المَحَلّ. كانت تراقب كل ما حدث. في هذه الأثناء، حاولت الستينية إعادة ربطة خبز رخيصة، أوقفها أحمد بإشارة لطيفة، مدّ يده إلى جيبه، ودفع عنها النقود المُتبقِّية. نظر إليه الزبائن بدهشة، وضَّبتْ الستينية حاجياتها في عربة الشراء، وتمتّمت بكلمات لم يسمعها، وودّعتْ الزبائن متمنية لهم نهارًا سعيدًا وذهبتْ.
حَضَّرت المُحاسِبة فاتورته، وضع ما اشتراه في كيس، دفع الحساب ومضى في اتجاه سيارته. هناك وقفت "هيلغا"، نظر إليها آملًا سماع كلمة إطراء، لكنه تفأجأ بتقاسيم وجهها الغاضبة. فتح باب السيارة وسألها عن سر اِمتعاضها. نظرت إليه ولم تجبْ. كرَّر سؤاله فأجابت: ما فعلته لا يفعله رجل ينتمي لهذا المجتمع، لا تملك الحق بالتدخل والاعتراض، لا علاقة لك بما حدث، أو يحدث مع الآخرين؟
أشعل سيجارة اِسترخاء ليأخذ وقته بالتفكير، كان حزينًا لردّة فعلها. فجأة، اقتربت السيدة الستينية منهما مُتردِّدة بعض الشيء. كانت ذراعها اليمنى ممدودة إلى الأمام، وأصابعها مغلقة بإحكام، كأنها تقبض على شيء ثمين، خاف من حركتها المفاجئة، ابتعدت صديقته خطوتين إلى الوراء، خاطبها من دون أن يسمع منها شيئًا: اِمضيْ في سبيلك يا سيدتي، لا أحتاج ما دفعته لك، فعلتُ ذلك بطيبةِ خاطر.
نظرتْ إليه بعيون راجية قولَ شيءٍ، لحظتها سكتَ أحمد، تمتمتْ المرأة الطيبة شيئًا جميلًا، دعتْ له بالخير، و"هيلغا" تراقب المشهد المسرحيّ بحذر، فتحتْ السيدة أصابع يدها، استراح في كفها شيء أحمر قانئ يشبه القلب، بل كان فعلًا قلبًا بلون أحمر. تراجع مدهوشًا خطوة إلى الوراء، حسبها مجنونة تريد عرض نفسها للزواج!
قالت السيدة: هذا القلب يرافقني منذ بضع سنوات، وقد نذرته هبةً لمن يفعل شيئًا كريمًا لي، هو عزيزٌ على قلبي، إنه جالبٌ للحظ، أرجو أن تقبله هديةً مني، وإذا ما أصابك حدث ما، أنظر إليه وحسب ليزول عنك الحزن والغمّ.
تراجعَ عن الخطوة التي تراجعَ بها، بل زاد عليها خطوةً إلى الأمام، وفتحَ يده اليمنى، سكبت قلبها الخشبي الصغير في يده المفتوحة. اقتربت منه بحرص وتمهُّل، ضمّها إلى صدره ووَدّعها.
نظرَ إلى عينيّ صديقته الدامعة بعتبٍ، أحسّ بندمها، اقتربتْ منه بتُؤَدَة، عانقته واعتذرتْ منه هامسةً في أذنه: في الحقيقة أعجبني موقفكَ أمام صندوق المُحاسَبة، حسدتكَ في سري، تمنيتُ لو كنتُ مكانك، لم أرغبْ في أن تكون بسلوكك أفضل منا، لكن هذه هي تربيتنا. سامحني!

مقالات اخرى للكاتب

آراء
27 يناير 2024
قص
13 يناير 2024
قص
2 ديسمبر 2023
قص
6 نوفمبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.