}

وليمة لرأس السنة

قص وليمة لرأس السنة
(حسكو حسكو)
مع اقتراب رأس السنة، يفرح قلبه، تشرق عيناه، ويبدأ إعادة ترتيب الكون في رأسه الصغير، يرسم لوحة طقس الاحتفال، لوحة كبيرة كمساحة غرفة تستلقي فيها الأفكار والأحلام ومشاريع الطفولة.
ستؤدي صوبا المازوت بطاستها المتخمة على غير العادة واجبها في هذا اليوم حتمًا لمدة زمنية أطول بكثير من المعتاد، ستتراقص قطرات المازوت وتتلاحق بتسارعٍ استثنائي غير منتظم، سيسخن صاج الصوبا حتى الاحمرار والتوهج، سيسمح لهيبها الدافئ بالجلوس بعيدًا قليلًا عن بواريها، ستعبق رائحة بقايا الخبز المقمّر تحت الصوبا أو فوقها، ستمتزج حتمًا مع رائحة الليمون، ومع رائحة حطبٍ يحترق، رائحة قادمة من دكان الجيران، سيعلو أنين إبريق الشاي الأسود الراقد فوق غطاء الصوبا الصغير، سينتظر ورق الشدة/ الكوتشينة امتداد الأيادي، سيفرح الجميع بلعبة الباصرة، ستكون المنافسة صاخبة حول الرهان المُتفق عليه كالعادة، ولا سيما في البيوت الفقيرة: علبة راحة، وثلاث علب من البسكويت، سيكتمل الضجيج عندما يصطهج الأطفال فرحين بلعبة الطرة والنقش، طامعين بمزيد من الفرنكات من أجل شراء حبات الفول المسلوق والمبهّر، أو بذور عبّاد الشمس المحمّصة أثناء ذهابهم إلى المدرسة، سيتركون البطون خاوية بانتظار العشاء، لعله سيكون بيضًا على لحمة ناعمة مثلًا، لحمة مطحونة حتى الألم كي تختفي الرغبة باكتشاف محتواها ونوعيتها.
سيُسخّن زيت الزيتون في المقلاة لبرهة، سيُضاف إليه البصل المفروم واللحم الناعم مع قليل من الملح والبهارات، سيُحمص الخليط لدقائق، سيتم كسر عدة بيضات وخلطها جيدًا، ثم إضافتها إلى المزيج الشهي، ستُغطّى المقلاة وتُترك على حرارة منخفضة كي تنضج الوجبة الحلم. قد يأكلون إلى جانبها الخبز والبصل اليابس والبندورة والخيار، في أحسن الأحوال بعض اللبن من دكان سلطاني.
عند العصر، ستبدأ التحضيرات لمداواة انقطاع التيار الكهربائي المعتاد منذ البعث الجديد، سوف يتم إحضار ضوء الكاز بقاعدته النحاسية، سيتم التأكد من نظافة البلّورة الزجاجية ومن ملئه بالكاز، سوف يُجدّد فتيله، لعل أحدهم سيحضر "قزازة" الكاز من دكان عدسو، سَتُسمَعُ بالتأكيد أصوات العيارات النارية عند حلول الساعة الثانية عشرة، ستتعالى أصوات الجيران خلال زياراتهم الخاطفة اللطيفة لتبادل الأماني والتهاني.
مع اقتراب رأس السنة، تحديدًا في يوم رأسها، قد ينهمر المطر، قد تعصف ريح عاتية مفاجئة، قد تصرخ الصوبا الهرمة المريضة بآلام العظام، قد تنفض غضبها في جو الغرفة، قد ينتشر دخانها الأسود في الغرفة، قد تتساقط بقاياه في كل مكان، قد يكون للسرير المغطى بالشرشف الأبيض النصيب الأكبر، ذاك القابع في غرفة الجلوس والضيافة والنوم، قد تعلو الأصوات بالشّتائم والسّباب واللعنات، قد يغضب رب الأسرة، قد يترك البيت متذرعًا بالنفضة/ الرعشة سببًا، قد يأخذ طريقه إلى خمارة رويش، أو خمارة دليلة، أو خمارة عزيز، لا فرق، لا هم، فكلهم أصدقاء لأرباب الأسر الفقيرة.
مع اقتراب رأس السنة، تزداد وتيرة توفير فرنكات الطفولة، مصروف الجيب اليومي في المدرسة، سَتُشتَرى بها في المساء الموعود حفنات قليلة من القضامة المغبرة من دكان أبو زاهي، سيضع حبات قليلة في فمه، سيلحس ملحها، سيمصها، سيلوكها ويمضغها من دون أن يبلعها، سيبصقها من جديد، يكورها بين أصابعه، سيسوّي سطوحها، يضعها تحت الصوبا، أو يُلصق الكرات المطحونة بأسنانه والمبلّلة بلعابه على جوانب الصوبا، سيتركها تسخن حتى يحترق سطحها، سيتناولها ويمضغها من جديد، ثم يبلعها، ويعيد الكرّة من جديد.




في المساء الموعود، سيأخذ نصيبه من البرتقال/ الليمون، برتقالة بالحد الأدنى، سيقشرها حزوزًا، سيأكل قسمًا بتلذذ، ويترك القسم الآخر لوقت لاحق، سيطوي قشرة الليمون بين أصابعه، يقترب من الأقرب، سيمازحه ثم يفاجئه بالقشرة المطوية، يضغطها بقوة أمام عينيه، تنزف القشرة، سيصيب رذاذها العين، ستفوح رائحة الليمون، سيضحك، ليبكي الآخر، ستعلو الأصوات، ليبدأ العراك.
ستكتمل اللوحة في يوم رأس السنة، ستعلو هامة الفرح، لكن الوقت تأخر بعض الشيء، كم ثقيل هو الانتظار، لم يعد رب الأسرة إلى المنزل بعد، لعله تأخر في السوق، الزحمة لا ترحم، طاسة المازوت تحوي أقل من ربعها، تأجَّلَ سباق المسافات القصيرة لقطرات المازوت إلى المساء، لا بأس في كل الحالات، فإمكانية تعبئتها من دكان عدسو ما زالت قائمة، وإن تأخر الوقت، لا بأس حتى لو كان اللّحّام أبو زاهي يبيع بقايا اللحم الأخيرة، قد يجلب ربّ الأسرة اللحم الناعم معه، تحديدًا من شارع العنّابة، لعل كيس الليمون قد ضل الطريق إلى البيت، لعله يصل متأخرًا بعض الشيء، لا همّ، المهم أن يصل.
أخيرًا، يعود إلى المنزل، هيئته تفصح عن قدومه من الخمارة مباشرةً، البرد لاسع، شهوة الاحتفال ما زالت كبيرة، يدخل ربّ الأسرة عابسًا، لا بأس، كلهم يأتون بوجوه عابسة، كلهم منشغلون بتأمين لقمة العيش.
تسأله زوجته الثانية بلطف: هل جلبتَ معكَ اللحمة الناعمة؟
ينظر بعينه الحولاء إلى وجهها الكئيب، ثم باتجاه طاولة الفورمايكا الجديدة، تقبض أصابعه على جهاز الراديو الأحمر، يرفعه عاليًا، يرميه بما تبقى لديه من قوة إلى أرض الغرفة، تتطاير منه نشرات أخبارٍ عن القائد وحركته التصحيحية، تتطاير منه أغانٍ وطنية تُمجّد الانتصارات التشرينية، يُمسك بيده القوية كأسًا زجاجيةً ويُلْحِقُها بالراديو، تتطاير شظاياها، يفك حزام بنطلونه، يبدأ بمعاقبة الطاولة، يضربها حتى تتشقّق شرائح الفورمايكا، يضرب زوجته الثانية، يرتعد الأطفال، يبكون بصمت ويتكورون حول صوبا المازوت الباردة ببطون أخذت تزقزق من شدة الجوع والبرد...

مقالات اخرى للكاتب

آراء
27 يناير 2024
قص
13 يناير 2024
قص
2 ديسمبر 2023
قص
6 نوفمبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.