}

خواطر وأسئلة على أعتاب معرض الكتاب

رشا عمران رشا عمران 23 يناير 2024
يوميات خواطر وأسئلة على أعتاب معرض الكتاب
عمل للتشكيلي المصري صلاح عناني

 

يشكل معرض القاهرة الدولي للكتاب أحد أهم معارض الكتاب العربية ومنطقة الشرق الأوسط لا لحجمه فقط ولا لتاريخه الطويل (هذا العام هو الدورة الـ 55) ولا لعدد زواره الذي يصل إلى الملايين، ولكن أيضًا لقدرته على استيعاب الغالبية العظمى من دور النشر العربية والمصرية، ولاستقطابه عددًا كبيرًا من المثقفين العرب، سواء أكانوا مدعوين من إدارة المعرض أو دور النشر للمشاركة في الفعاليات الثقافية المصاحبة للمعرض، أو كانوا من زوار القاهرة الدائمين الذين يجعلون توقيت قدومهم إليها متزامنًا مع موعد المعرض، بقصد اقتناء الكتب التي لا تصل إلى الدول التي يعيشون فيها، وبقصد الالتقاء بزملائهم من الكتاب العرب المنتشرين حول العالم؛ ما يجعل وسط القاهرة (منطقة وسط البلد) بفنادقها وشققها المفروشة ومقاهيها وباراتها مستقرا لضيوف آخر شهر يناير/ كانون الثاني من المثقفين والكتاب كل عام؛ بحيث تبدو هذه المنطقة كما لو أنها منتدى ثقافي مفتوح يقصده الجميع دون أي موعد، إذ لا داع للمواعيد هذه الفترة فأينما ذهبت سوف تلقى تجمعًا للمثقفين والكتاب هنا أو هناك. ومع أن أرض المعرض تبعد عن وسط القاهرة ما يقارب الـ20 كم، تحتاج إن كان الوقت ذروة الازدحام إلى ما يزيد عن الساعة للوصول وقد يكون من الأسهل لزواره الاستقرار في مناطق قريبة منه، لكن بقيت منطقة وسط البلد ومقاهيها الشعبية تملك سحرًا خاصًا تجذب المثقفين ويسترجعون فيها ذكريات وحوارات ولقاءات مع مثقفين كبار رحلوا عن عالمنا، مخلفين مقاعد فارغة إلا من الذاكرة والإرث الأدبي والفكري، مقاعد سيحتلها بعد حين  رواد جدد سيغادرون بعد حين مفسحين في المكان لآخرين سيواصلون ما سبق، بينما يبقى وسط البلد في القاهرة الساحرة محتفظًا بتاريخ عريق لطالما كان علامة فارقة في الذاكرة الثقافية الجمعية للكتاب والمثقفين العرب.

أيام قليلة جدًا إذًا تفصلنا عن بدء فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب (25 يناير، متزامنًا هذه السنة مع ذكرى ثورة يناير التي كان مركزها وسط البلد نفسه)، وستكون  خلاله الثقافة النرويجية هي ضيف شرف المعرض هذا العام ببرنامج ثقافي يمتد لثلاثة عشر يومًا؛ يضاف إليه ندوات المعرض الثقافية السنوية المعتادة (أدبية وفنية) والتي تستقطب عادة الكثير من جمهور المعرض، وسيقوم الكثير جدًا من الكتاب بتوقيع كتبهم الجديدة التي بدأوا بالإعلان عنها منذ مدة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ واللافت هذا العام هو العدد المهول من الروايات الجديدة الصادرة والتي سوف يتم توقيعها خلال المعرض، وهو أمر لافت فعلًا ويدل (للأسف) على الاستسهال الحاصل حاليًا بكتابة الرواية، كما كان يحدث مع الشعر حتى سنوات سابقة قليلة. وقد يكون السبب خلف هذا الكم الكبير من الروايات هو الحلم بنيل جائزة ما من الجوائز العربية الكثيرة المخصصة للرواية، ليس فقط لقيمة الجائزة المادية على أهمية ذلك وضرورته للكثيرين، بل أيضًا لما تسببه لصاحبها ولدار النشر من انتشار وشهرة نتيجة الترجمة والتي تحقق للفائز امتيازات متعددة ولدار النشر نسبة مبيعات مرتفعة، وهنا لا يمكن إخفاء حالة التواطؤ بين الناشر والروائي والالتقاء حول هذه الغاية؛ الأمر الذي لا ينطبق على دواوين الشعر، إذ ليس هنالك جوائز عربية مخصصة للشعر، وهو ما يجعل دور النشر (إلا قلة قليلة) تحجم عن مغامرة نشر كتاب شعري جديد، بذريعة أن الشعر كتاب خاسر تجاريًا وعلى من يريد نشر ديوانه أن يدفع لدار النشر مقابل ذلك، وهذا (لحسن الحظ) سبب مهم لتراجع عدد الشعراء قياسًا بعدد الروائيين ويمنع عن الشعر الاستسهال. ثمة سبب آخر أيضًا لهذا العدد الكبير من الروايات الصادرة يتعلق بانتشار ظاهرة ورشات الكتابة المخصصة لفن السرد الروائي وأقل منه القصصي، إذ يوميًا نقرأ على وسائل التواصل إعلانات عن ورشات لكتابة الرواية أو القصة القصيرة، وكلها تحدث عبر تطبيق زوم. أخبرتني صديقة شاركت في إحدى تلك الورش أن جميع من كانوا معها في الورشة أصدروا روايات سوف يقومون بتوقيعها في المعرض، وجميعهم لم تسبق لهم تجربة الكتابة والنشر، ما جعلني أتساءل عن مصدر تلك الثقة التي يملكونها لكتابة رواية في زمن ليس بطويل نسبيًا، وأيضًا عن ثقة دور النشر التي تنشر لهم، وعن ثقة مشرفي تلك الورشات بقدرتهم فعلًا على تحويل أشخاص لا تجارب سابقة لهم في الكتابة إلى كتاب، خصوصًا، كما أتيح لي أن أعلم، أن غالبيتهم يكتبون سير حياتهم أو حيوات عائلاتهم، ما يطرح التساؤل حول أعمالهم اللاحقة، وحول المخيال الروائي والموهبة وهي معايير تفرز الروائي الحقيقي عن غيره، طالما يمكن تعلم تقنية السرد من ورش الكتابة.

وبعيدًا عن الروايات وأصحابها وورشها ودور نشرها، أعود للحديث عن تظاهرة معرض الكتاب التي تشكل لي فرصة نادرة للالتقاء بمن تبقى من أصدقاء لي في سورية، اعتادوا أن يأتوا إلى القاهرة أحيانًا في فترة المعرض حيث تتيح هذه التظاهرة سهولة الحصول على موافقات أمنية للسوريين داخل سورية للمشاركة في النشاط الثقافي المرافق أو كعارضين وأصحاب دور نشر. بالنسبة لي أنتظر المعرض لأجلهم ولأجل بعض الأصدقاء القادمين من حول العالم. عدا ذلك فلا تعنيني كثيرًا معارض الكتب بعد أن تخففت من هوسي اقتناء كتب جديدة ومن فخري بما أملكه من كتب أو بما قرأته منها، إذ أبدو كما لو أنني فقدت ذلك الشغف  القديم بالقراءة الذي كنت أملكه سابقًا، صارت قراءاتي انتقائية جدًا وكسولة، وبدأت أحاول التعود على القراءة الإلكترونية بدلًا من الورقية، على صعوبتها، ذلك أن القراءة الورقية تتطلب شراء الكتب، وبعد فقدي لمكتبتي الكبيرة في سورية لم أعد أجرؤ على فعل ذلك وتكوين مكتبة جديدة حيث أقيم، ذلك أنني لا أعرف مصيري هنا، قد أضطر إلى مغادرة القاهرة بسرعة كما غادرت دمشق. المكتبة تعني الاستقرار الدائم، وأنا لم أعد أمتلك ترف الاستقرار الدائم، لا النفسي ولا اللوجستي. أنا أيضًا أتعلق بالكتب بشكل غريب، تصبح المكتبة جزءًا مني، أشعر أنها هي ما يشدني إلى البيت، وجودها يعني التصاقي بالمكان، بحيث تصبح مغادرتها شاقة جدًا وكما لو أن قطعة من جسدي بقيت معها. أعرف أنني لم أعد قادرة على تحمل هذا الفقد المضني الذي اختبرته كثيرًا حتى أتلف قلبي. لهذا ربما قل شغفي بالقراءة ولم أعد أكترث لغواية الكتب. هل هذه إحدى وسائل الحماية التي يخترعها عقلنا الباطن كي لا نتألم؟ يطيب لي أن أصدق هذا ويطيب لي أن أتعايش معه بعد أن صار جهازي المحمول محملًا بمكتبة لا تعد كتبها ولا تحصى أحملها معي أين ما ذهبت. ورغم أن لا متعة تعادل قراءة كتاب ورقي وتفاعل كافة الحواس البشرية مع الورق والحبر ومحاولة تخيل المراحل الطويلة التي مرت بها صناعة كتاب بين يدي، منذ أن كان الورق شجرة في غابة ما. ثمة ألفة وحميمية في الكتاب الورقي لا تتيحها الكتب اللوحية المحايدة والجافة والباردة. لكن هذه ضريبة التطور التقني وحضاراتها المتسارعة بشكل رهيب. وهنا يخطر لي سؤال محزن: ماذا سيحدث لتظاهرات مثل معارض الكتب بعد حين؟ هل سوف تظل قائمة؟ وهل سوف تستمر، أصلًا، صناعة الكتب الورقية؟ والسؤال الأخطر: هل ستبقى مهنة الكاتب موجودة أم سوف يتم استبداله بالذكاء الصناعي كما يحدث مع كل شيء الآن؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.