}

الموت برية شاسعة

رشا عمران رشا عمران 2 فبراير 2024
يوميات الموت برية شاسعة
(ياسر الصافي)
من نص المرض.

من أنا؟ حاولت أن أرفع أصابع يدي اليمنى علني أميز بصمة ما تدلني علي، كانت يدي موصولة بأنبوب موصول بعمود معدني يتدلى منه كيس بلاستيكي يبقيني على قيد الحياة، يدي اليسرى كانت مبقعة بالأزرق المشلول، وأنابيب تتدلى من جسدي كله، شبه امرأة كانت تستلقي على سرير أبيض، شفتاها يابستان، وعلى جسدها تنتشر الثقوب والخيوط السود وصفرة الموت الذي ضل طريقه، عيناها تحدقان في سقف الغرفة، حيث المكان الوحيد الذي تراه، في الأعلى كانت شبه المرأة نفسها، بصدرها المفتوح وشفتيها اليابستين، وبالبقع الزرق موزعة على جسدها الأصفر، تحاول بيديها الواهنتين أن تبعد سقف الغرفة من طريق الموت كي تدله على كيس الحياة البلاستيكي، لكن يديك امتدتا في اللحظة نفسها إلى أعلى السقف وأمسكتا بشبه المرأة المحلقة وأنزلتاها إلى السرير، أنت رحلت بعدها، ودخلت هي في جسد المرأة المستلقية، تلك اللحظة رفعت أصابع يدي اليمنى وعرفت النقطة الغريبة التي طالما كانت تميز بصمة إبهامي، أنزلت يدي بهدوء، وتركت نفسي أنجر إلى صمت النوم، أما أنت فكنت تقف بجانب كيس البلاستيك تحرس طريق قطرات الحياة الواصل إلى دمي قبل أن تختفي نهائيا مع آخر قطرة في الكيس.
كان الهواء كثيفًا، أو كنت أظن أن الهواء كان كثيفًا، بيني وبينه أنبوب ألمح بعضه في الطرف الأيسر من فمي، فجأة وجدت نفسي داخل الأنبوب، أمشي مع الأوكسجين وأتنفسني، كنت أحتاج أن أتنفسني كي أصدق أن الحياة قريبة مني، كان الهواء كثيفًا في دمي، وكنت كالريح، أترك أثري في الخلايا التي أمر عليها داخلي، لم يوقفني شيء، كنت كمن تريد العبث، كطفلة لا يعنيها الترتيب الروتيني للأشياء، طفلة ريح تدخل في أنبوب الأوكسجين إلى دمها تعبث به، ثم تخرج من ثقب صغير أسفل ثديها الأيسر، ثقب ما زال موجودًا إلى الآن، غير أنني كلما حاولت الدخول منه لأعيد ترتيب ما فعلته وجدت يدك تضغط عليه وتغلقه، هكذا تبقي أشياءك على ما هي عليه في دمي من دون أن تمسها ريحي.
في تلك اللحظة، لم تكن الأرض كروية تمامًا، ولا هي مسطحة تمامًا، ولم أر فيها منحنيات، حينما استيقظت، لم أجد غير زوايا حادة، أتنقل بينها ببطء شديد، كما لو كنت سلحفاة عمياء تعرف مساحة ظهرها بحكم العادة. لوهلة، أردت أن أعود إلى النوم، إلى حيث الفراغ الحر، إلى حيث تسقط ذاكرتي في الجوف العميق، لكنني وجدت يدك أسفل الجوف، تلتقط ذاكرتي المبعثرة وتضعها تحت ثديي الأيسر، حيث الثقوب الممغنطة تجذب المسامير التي تثبت حياتي، ثمة مسمار مفقود، كنت أراه مخبأ في باطن كفك وأنت تغادر، من دون أن أتمكن من الطلب إليك أن تعيده إلي، كنت سلحفاة خرساء أيضًا، الزوايا الحادة كانت تطبق على عنقي.




وخلف الأبواب أرش الملح كل مساء، أرشه عند العتبة، على أطراف النوافذ، تحت الوسادة التي أنام عليها، في خزانة ملابسي، قرأت ذات يوم أن الملح يبعد أرواح الموتى عن البيت الحي، لكنني أول الصباح أتخبط في دمي المالح حينما فمي يطلب الماء، وأراك تقف على باب نومي تمسك قطنة مبللة بالماء وتمسح بها شفتي السفلى، بينما تحاول العليا أن تقول لك: أكمل وأنت تغادر بقطنتك المبللة، فأستيقظ لأرى الملح يغطي ذراعي العاريتين، وأرواح الموتى تطلع من الشق الطويل في منتصف صدري تلم الملح عني تحمله وتتبعك.
وكنت أضع الماء أسفل السرير وأنام، كانت تعبر من تحتي مراكب صيادين، وسفن شحن بضائع وأسلحة، وحيتان وأسماك كثيرة ملونة، وكانت تعبر من تحتي أجساد العابرين، فأمد يدي أسفل السرير كي يصعدوا إلي قليلًا، ثم يكملون طريقهم، لكنهم كانوا يبتعدون قبل أن ينتبهوا إلى يدي الممدودة إليهم فأعيدها وأحاول النوم، فأرى أطلال مدن تحت الماء، وأرى هياكل مغروزة بالرمل وأسماء يحملها الموج ويلقيها على سريري، لم يكن اسمك بينها، لم أرك هذه الليلة، ولم أتذكر اسمك، إذ كنت تقف بجوار السرير، تعيد يدي التي تريد القبض على الماء إلى مكانها، وتبحث بين الموج عن اسمك كي لا أستيقظ إذا ما وضعته موجة ما في الشرخ العميق بين نهدي الطريين.
أسقط بخفة ورقة يابسة. الهوة ضيقة ومظلمة. جدران الهوة ملساء، هوة، هاوية، بئر عميقة، كلما أمعنت فيها طال طريقها أكثر، صحبتني إلى هناك نذور الطيبين، نفناف أبيض كان يغطي كتفي العاريتين، روائح خبرتها حتى مات أنفي، أصوات مدن باهتة وأصوات مدن زاهية. صحبتني جبال وبحار ونهر كبير، صحبني أسلافي وسلالاتي من نساء الرمل، صحبني الندم، كان يتعلق بي كصرصور خائف، كانوا يسقطون في الهوة بخفة ورق يابس، حين علقت أنا في المنتصف، وحدي، كفأرة أطبقت عليها مصيدة قاسية، فتحت عيني، لم أر شيئًا، فتحت جسدي، علقت به سنارة تشدني إلى الأعلى، ظننتك أنت، لكنك سقطت في الهوة لاحقًا إثر الآخرين. السنارة تشدني إلى الأعلى، الضوء طيف أبيض، السرير أبيض، النفناف الأبيض يغطي كتفي وجلدي كبلورات الملح، لم يهزم الموتَ أحدٌ، الحياة تهزم نفسها، كلما انفتحت هوة ليسقط فيها أحد بخفة ورقة يابسة، وحدهم الموتى يهزمون الموت، يهزمونه كما يهزم عواء ذئب حاد صمت برية شاسعة، الموت برية شاسعة والحياة نافذة تطل عليها، نافذة يسقط منها الضجرون المتعبون بخفة ورقة يابسة.
لم أستطع أن أرفع رأسي، كان هنالك ما يشده إلى الأسفل، إلى ما تحت الأرض. لوهلة، ظننت أن ذلك بفعل الجاذبية، ولم أغضب إذ كنت مأخوذة بفكرة الجاذبية، مأخوذة بالألم الممض الذي تخلفه مقاومتها، لكنني تلك اللحظة كنت خفيفة، خفيفة جدًا، كريشة تخففت من جسد عصفور، كجناح فراشة لا يثقلها اللون، أحلق بلا هدف، وأرتطم بالفراغ من دون ألم، الفراغ سرير فاخر لا يملكه سوى الأغنياء، الذين استهلكوا كل أحلامهم، الموتى لا يحلمون، الموتى أغنياء يستلقون في الفراغ ولا يحلمون، لكن رأسي كان مشدودًا إلى الأسفل، إلى ما تحت الأرض. لم أمت، رأسي ما زال ثقيلًا بفعل الجاذبية، كان المشهد غريبًا: جسد خفيف يحلق في الفراغ، ورأس تمسكه يدان وتسحبانه نحو الأسفل. تلك كانتا يديك، تحاولان أن تعيداني إلى برد الألم، إلى حيث نشوة الجاذبية، تلك اللحظة كانت أصابعك حارة كأصابع منقذ، أنا لم أكن النائمة التي توقظها قبلة حارة، كنت امرأة تكاد تموت من نشوة الألم، وأصابعك الدافئة تسحب رأسها من الفراغ كي تستيقظ.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.