}

الشاعر وطوفان غزة

فيصل خرتش 5 يناير 2024
يوميات الشاعر وطوفان غزة
(يوسف عبدلكي)
إنهم يقطعون الكهرباء، يأتون بها ثلاث ساعات كل أربع وعشرين ساعة، يقولون: إنه تقنين بسبب الويلات التي مرّت على البلد، إنها لا تكفي أن ينظر إلى التلفاز، ويتابع أخبار طوفان غزّة.
الشاعر تابع أخبار الطوفان، وباعتبار أنّ الزوجة لا تزال نائمة، فلينطلق إلى المقهى، وبعدها إلى السوق. أخذ الحقيبة وغادر ميمّمًا صوب المقهى، كان المقهى يفرك عينيه من سهرة البارحة، أمّا طوني النشيط، فإنّه يتعامل مع الزبائن الذين يأتون مبكرًا بهمّة ونشاط، وهؤلاء إمّا زبائن أحيلوا على التقاعد، أو من أصحاب العاهات، أو المشردين. أخذ محلًا على طرف الحائط، وجلس إلى الطاولة، وبكلّ هدوء وضع الحقيبة، ثمّ راح يتأمل المكان، الطبيب قال له: المشي جيد لمرضى القلب، إذًا عليه أن يمشي كلما أتيح له ذلك.
نهض من المكان الشتوي، وتابع المشي في الحديقة الصغيرة، لم ينتبه إلى أوراق الشجر المرمية على الأرض، والتي كانت تتبعثر بين الأخضر الفاتح والأصفر الشفاف. لفّ خمس دورات، وكان سيهمّ في السادسة، لولا أن أتاه الوحي، هو هكذا يسمّيه، إنه وحي الشعر، فأسرع إلى طاولته وأقعى على الكرسي، ووضع يديه على الطاولة، ثمّ أخرج بضاعته التي هي عبارة عن بضعة أوراق وقلم، إنه لم يفكر في أن يكتب على الحاسوب، فهو يعتقد أنّ الكتابة لها قدسيتها، وأهمية الورق والقلم تأتي من عمق التاريخ، ألم يرد ذكره في القرآن (الذي علّم بالقلم) فلنحافظ على هذه النعمة التي وهبنا الله إياها.
كان لا يريد أن يضيع الفكرة التي وصلته، وكان التلفاز قد بدأ العمل، وأخذ يخرج الأغاني المبتذلة، كما سماها الشاعر، وصرف انتباهه إلى موضوع الطوفان، إنهم يريدون قتل سكان غزّة، هذا النتنياهو سيفعلها، سيرحل من بقي من السكان إلى الجنوب، المهمّ ألا يتنازل، ألم يكن تبادل الأسرى أفضل من كلّ ذلك، إنه لا يريد أن يبادلهم بالمساجين الذين عنده، لقد صار عدد الشهداء أكثر من عشرين ألف شهيد، والجرحى أكثر من خمسين ألفًا، ألم تعد تستحي يا نتنياهو.
هبط عليه شاعر آخر، لم يكن يرغب بالزيارات، ولكنّه سيذهب بعد قليل، إنّه يكتب الموزون والمقفى، لا يعجبه شعره، لكنّ الشاعر يكتب الشعر الحديث، وسيبدأ القصيدة من حرب السابع من أكتوبر، وكيف هجم المقاتلون على مستعمرات غزّة، واستطاعوا أخذ المخطوفين وذهبوا بهم إلى الخنادق، ويومها جُنّت إسرائيل، فكيف لهؤلاء الذين تحاصرهم منذ خمس عشرة سنة أن يفعلوا بها هذا الشيء. وهنا قام الشاعر الآخر وذهب مصحوبًا بالسلامة، فقال له الشاعر: أهلًا بك.
الشاعر ولد قبل النكبة بست سنوات، ولما حصلت النكبة، أدخل إلى المدرسة، في ذلك الزمان كانت معونة الشتاء تبدأ بملصقات على الجدران تطالب الناس بأن يتبرعوا للشعب المنكوب بكنزة تقي من برد الشتاء، والملصقات تظهر فتاة صغيرة تمد يديها وهي ترتدي ثيابًا ممزقة. حين كبر، استطاع أن يقول الشعر وهو في المرحلة الإعدادية، وحين نال الثانوية، أو لم ينلها، عمل في التعليم، إذ كان يستلم الصف الأول، ويقول لك: يجب أن نتعامل مع الأطفال منذ الصف الأول، قي البداية يجب تأسيسهم حتى يكونوا شعلة النضال، وبعد أن ينتهي من العمل كان يجلس في المقهى، هو ومجموعة من الشعراء، يصطفون بجانب بعضهم في انتظار أن يأتي الكفاح أكله.
والشاعر نشر كثيرًا من القصائد، في الصحف المحلّية، مثل: "السنابل"، و"الجماهير"، و"الميزان"، وغيرها، كما نشر في الصحف العربية، صحيح أنهم نشروا له في بريد القراء، وهذا أفضل من ألا ينشروا له أبدًا، عمومًا هم يغارون منه، والشاعر محمود درويش يؤكد ذلك، فعندما زارهم هنا في حلب، التقى معه مرّات عدة، وقد سهر وإياه، وعندما عرّفه على نفسه، قال له: أنت الشاعر المعروف... إنّ الصحف والمجلات تكتب عنك كثيرًا، مالئ الدنيا وشاغل الناس، إننا لا نفتح صحيفة، أو مجلّة، إلا ونجد اسمك يزينها، يومها خجل الشاعر، وتلعثم، ولم يدر ماذا يقول.
انهمك الشاعر في قصيدته، لم ينتبه إلى أنّ التلفاز قد وصلته الكهرباء، وإنّه قد بدأ العمل، ولم ينتبه إلى الاثنين القاعدين خلفه مباشرة ويتحدّثان بصوت مرتفع، شعر بأنّه في حاجة إلى المشي، فترك كلّ شيء مكانه في الشتوي، وانطلق إلى الحديقة الصيفية، لم تثره أوراق الخريف التي تتساقط تباعًا فتكسو أرض الحديقة بمنظر ولا أروع منه، والشجر الحزين على فقدانها يبكي بألم، دار لفّة وأخرى، ولم ينتبه إلى شيء، كانت القصيدة هي الموضوع الأثير لديه، ماذا سيكتب عن غزّة... لقد استباحوها، لم يتركوا فيها أي شيء من دون أن يخرّبوه ويدمّروه، أيرضيك ذلك يا إلهي، إنّهم يهدمون المنازل على رؤوس أصحابها، فيموت الصغار والشيوخ والنساء، إنهم يقتلون البشر، ويقتلعون الشجر، ويدمرون الحجر، لفات عدة أخرى، قال له الطبيب: إنّ أفضل دواء لمرضى القلب هو المشي، وهو منذ ذلك اليوم يمشي ساعات عدة يوميًا، إنّه يأتي من بيته إلى هنا مشيًا، إنّه لا يتسلّى إطلاقًا، يجمّع الحروف ثمّ الكلمات، ويصيغها في جمل لتصبح قصيدة، لقد بدأ هذه الأيام ينسى، لقد كبر، والعمر له حقه، يا أخي هذه الفكرة يجب ألا أنساها، لقد نسيت عن ماذا أكتب، الحروف تتبعثر على الورق، والكلمات تتلاشى، لا أستطيع التركيز، ماذا فعلت اليوم، لقد وجدت زوجتي نائمة، فقلت في نفسي: سأذهب إلى المقهى، ثمّ سأجلب بعض الأشياء، ما هي هذه الأشياء، لقد نسيت أيضًا، عندما سأكون في السوق سأتذكر.
طوني يعبث بالتلفاز، إنه يحاول معه كي يظهر الصوت واضحًا، كل السبب في هذا الشاعر الذي أتاني إلى الطاولة اليوم، لولاه لكانت الأمور بخير، كنت أكتب... عن ماذا أكتب، عن التفاح والخيار والبندورة واللحم، الخيار مرتفع الثمن، لن أجلبه إلى البيت، وسأنتقي تفاحًا من الحجم الصغير، إنّه رخيص نوعًا ما، وسأشتري لحم الفروج، إنّه يساوي بقيمته نصف ثمن اللحم الضاني، طوني ما زال يعبث بالتلفاز، كي يظهر الصوت واضحًا، ونستمع إلى أغاني فيرز، الصوت الآن صار أكثر وضوحًا، أنا لا أعرف لماذا جئت إلى هذا المكان، ولا أدري عن ماذا سأكتب.
لمّ الشاعر بضاعته ووضعها في الحقيبة وجلس يفكّر، ما الذي كان سيحصل لو أنّه لم يصبح شاعرًا، هل ستكون البلد بخير، لم يعتقد ذلك، ترى هل كانت الشمس ستشرق من جديد على العالم، وهل سيبزغ القمر بضيائه على الأرض، إطلاقًا، البلد في حاجة إلى شعره، ونهض الشاعر وهو يحمل حقيبته مغادرًا المكان إلى سوق الخضار.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2024
يوميات
5 يناير 2024
يوميات
25 نوفمبر 2023
يوميات
6 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.