}

أدباء حول المدفأة

فيصل خرتش 11 فبراير 2024
يوميات أدباء حول المدفأة
مكتبة المقهى
ابن حنا كعدة، المعروف باسم طوني، والذي حافظ على هذا المقهى باعتباره تراثًا شعبيًا ينتمي إلى أصالة هذه المدينة، ركّب اعتبارًا من رابع يوم في هذا الشتاء المدفأة، وهي تعمل على وقود الحطب. وأخرج (البواري) خارج المقهى، لم يجلب إلى المقهى شيئًا يذكر سوى المكتبة الصغيرة التي أسسها مع مجموعة من الأدباء والمثقفين، الذين كانوا يتواردون على هذا المقهى، بعضهم هاجر، وبعضهم قتل بسبب الحرب، أو مات، وبعضهم ظلّ يتردد على المقهى، وقد طلب منهم، أي بعض الأدباء والمثقفين، أن يزودوا المكتبة الصغيرة ببعض الكتب، من تلك التي هي فائضة عن حاجتهم، وفعلًا راحوا يزوّدونه بها، وببعض المجلات والصحف، فكان الجالس يستمتع بالقهوة المرة، ويجلب له كتابًا يتملّح فيه، ثمّ يعيده بعد تصفُحه، أو قراءة بعض منه.
وبعد أن ركّب المعلم طوني المدفأة الحطبيّة، صار يضع فيها الأغصان الرفيعة والثخينة، وأوراق الشجر كي يزيد اشتعالها، تستطيع أن تقول إنّه مثل أهالي غزّة، لكن هنا توجد مدفأة وهناك لا توجد، إنهم يحرقون في الصفيحة، وعندما يتأخر عن إلقاء الأغصان التي جمعها من حديقة المكان، يروح أحد الشعراء ويأتي بكتابين خلسة، يضعهما على جانب فخذه ويجلس في مكانه، ثمّ يفتح باب المدفأة ويلقي بالأوّل فيها، وبعد لأي يلقي بالآخر ويبتسم ابتسامة الرضى، لقد أنجز عملًا يرضي به نفسه.
والشاعر الكبير، الذي جاء من إحدى القرى، بعد أخذه الثانوية ذهب إلى بيروت، لأنّه لم يقبل في الجامعات ليدرس الأدب العربي، وتعلّم صنعة الشعر، صحيحه من مكسوره؛ وفي إحدى زيارات الفحص (الامتحانات)، وبينما كان يتمشى على كورنيش الصخرة شاهد الشاعر المعروف، وذلك في أحد المطاعم، فطار عقله ونزل إليه مسرعًا وقال للشاعر المعروف إنّه معجب بشعره. وبالمصادفة، مرّ أحد المصورين، فأخذ إذنًا بأن يأخذ صورة معه. ابتسم الشاعر المعروف، وقال: لا مشكلة، مال قليلًا على كتف الشاعر المعروف، أخذ الصورة وطبع منها صورًا عديدة ـ فكان كلّما تعرّف على أحد يقول له بحياء: كنا أصدقاء، أنا والشاعر المعروف، أنظر، ويريه الصورة، وقد أصدر خمسة دواوين، طبعة خاصة، وذلك من الأموال التي جمعها وهو يدرس الطلاب بعد الدوام الرسمي.
لقد تجمّع عدد من الأدباء وبعض المثقفين حول المدفأة، بينهم ناقد واحد، وقد طبعت له الوزارة كتابًا واحدًا هو رسالة (الماجستير). الحقيقة كان يلوذ بالصمت ويراقب المكان. وهنا انسلّ الشاعر الكبير مرّة أخرى إلى ما يشبه المكتبة، وأخذ أيضًا كتابين وبعض المجلات، بينما راح ابن حنا ليصلح عطلًا في الكهرباء، فاغتنمها فرصة كي يأتي بالكتب والمجلات، ووضعها تحته على الكرسي، وجلس عليها، ثمّ قال: عمره ما حدا يقرأ، الدفء لبني الإنسان أهمُّ من القراءة، وسحب مجلة وألقاها في المدفأة، القراءة الورقية صارت عيبًا، الناس تميل إلى قراءة المحمول. لم يعد أحد يقرأ، التهوا بـ (الموبايل). أيّده أحدهم وهو الكاتب الأكبر الذي كان يسمي نفسه: (كتاب المدينة). لقد طبع كثيرًا من الكتب، واستطاع أن يحوّل الكلمة إلى ليرة، باعتبار أنّ الوزارة تحاسب على الكلمة، وكل كلمة بأربع ليرات، فكان يزيد عدد الكلمات كي يقبض أكثر، كتب في الشعر الموزون، والذي بدون وزن، بالتفعيلة وبغيرها، ثمّ كتب في المسرح مسرحيات عدّة، وكتب للأطفال ثمّ الرواية، وله مقالات منشورة في الصحيفة المحلية، التي لا يوجد غيرها.
الطبيب المتقاعد الذي يطبب مجتمع المقهى أدرك قيمة هذا الكلام، فقد مرّ على صاحب الوثائق الورقية، قائلًا له: "تعال معي وخذ الكتب التي عندي، إنني لا أريد شيئًا من ثمنها". أخذه إلى عيادته، وعندما رأى كمية الكتب، ذهل من كثرتها، ونقلها فورًا إلى دار الوثائق الورقية.
لقد أغلقت مكتبات عدّة في المدينة، منها دار الأصمعي، والرائد العربي، وعجان الحديد، ودار الفجر، وغيرها، وباعت المكتبات لأصحاب الموبايل، وانصرفت الناس عن القراءة. هذا ما صرّح به الشاعر الكبير. لقد استل كتابًا آخر، وبينما هو يتجه نحو المدفأة ليلقيه فيها، لمحه طوني، فجاء إليه وأخذه منه بعد أن قرّعه بلطف. انضمّ إلى الجلسة شاعر آخر جاء من أقصى المكان وهو يحمل خبزًا وضعه على كرسي وجلس على كرسي آخر، هو مشغول بالهاتف النقال، لم يكن يهمُه شيء بقدر هاتفه، وما إن جلس حتى صار يلعب به، وركض يرد عليه، ألو من المتكلم، لا أحد، واخترع مكالمة يملأ بها فراغه، لم يصدر حتى الآن أي ديوان، وهو يعتقد أنّ اتحاد الكتاب سينشر له. اكتشف نفسه شاعرًا منذ فترة من الزمن. كان يدرس الطلاب في المعهد خارج أوقات الدوام الرسمي اللغة العربية، ونظرًا لأنه يجيدها إعرابًا وبلاغة فقد قرّر أن يشارك أحد الممولين ويفتح المعهد، وقال له ربك خذ، أعطاه الرزق كالهبل، وعندما قرّر أن يتقاعد بسبب انصراف الطلاب عنه، وعجزه عن التدريس، قرّر أن يصبح شاعرًا، وبسبب تراكم الشعر الذي كان يدرسه للطلاب استطاع أن يجعل الشعر بين يديه كالماء، وأصبح يزور المنابر في كلّ مناسبة وطنية، يلوّح بيديه وهو يبكي على البلد الذي يحترق، واشتهر بأنّه الشاعر الأوحد، الذي لا يشق له غبار، والذي يمنع الشمس من الوصول إلى الأرض.
البصال، وقد كنا نسميه الوراق، وكان يعمل في تدريس المساجين، والذي كان يجلب الكتب والمجلات، ويبيعها لهم، قرّر أنّ المساجين لم يعودوا يقرؤون، وتجارة الكتب لم تعد رائجة، جلس أمامي وراح يشرح لي كيف تدنت تجارة الكتب، المساجين لم تعد تقرأ، الموبايل اكتسح الحياة، حتّى أوروبا لم تعد تقرأ، كنت تصعد إلى المترو فتجد الناس كلُهم يقرؤون، الآن لا تجد أحدًا، كلٌهم يلتهون بالموبايل، ففيه كلُ شيء، حتى قراءة الكتب بالمجان، ابحث في الشبكة العنكبوتية وسترى العجائب.
دخل أحد الصحافيين القدامى، الذي أحيل إلى التقاعد، إلى المقهى، كان يحمل رزمة من الكتب، وضعها على الطاولة، ثمّ راح يبحث فيها عن موضوع معين، أخذ سيجارة ولم يشعلها، وانغمس في تقليب الصفحات، قلنا إنّه لا يجيد استخدام الموبايل، أو أنّه يعيش في عصر آخر.
أنا، وأعوذ بالله من هذه الكلمة، فتحت عيوني في بيتنا على خزانة من الكتب، ومن الكتب التي فيها: حياة الحيوان للدميري، وعطيل لشكسبير، وكتب لدوستويفسكي، وليرمنتوف، وغيرها، لكنها بعد حين مزّقتها الفئران، وقد ساعدتني على أن أكوّن مكتبة، فيها عدد لا بأس به من الكتب، فهل أجد من يأخذها عني مجانًا. ربما سأموت بعد فترة وأولادي هاجروا خارج البلد، ولا يوجد أحد منهم يحفظها، فهل من مجيب؟

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2024
يوميات
5 يناير 2024
يوميات
25 نوفمبر 2023
يوميات
6 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.