}

بادشاه

سعد القرش 14 يونيو 2024
قص بادشاه
(محمد عبلة)

الجدّة سنيّة، التي جاوزت المئة، لا تعي أنها تخطت سنًّا لا يثقلها ذنب، لا تعرف سنّها، ولا تعترف بأنها صارت عجوزًا منذ عقود، ولا تتذكر كم بطنًا من أبناء وأحفاد أهدت الدنيا ذرية من أشقياء يضاحكونها، وقد يسخرون منها، ولا تستجيب لسخافاتهم، وتقول للجدّ مبروك إن لها زمنًا لم تزر وليّ النعم، وإنها تخشى غضبه، وبلسان لا يعيقه خلو فمه من الأسنان يجاوبها مبروك بأن قلب وليّ النعم يسع حتى الغافلين عنه، وهم مدينون له بحياتهم نفسها، ومبروك يذكر ابنه البكري الذي أودع بذرته في رحم سنية ليلة النجاة، وأين؟ يسألها، وهو يعرف أنها لا تنسى:
ــ فاكرة يا سنية؟
تتغلب العجوز على خجل طارئ لا يستجيب له لون وجهها، وتقول إنها لا تنسى، وإنها في تلك الليلة لم ترغب في الملامسة، لم تتخيل أن يفكر مبروك في الاقتراب، في بيت ولي النعم وهم ضيوف، وبالقرب منهم ضيوف، ناجون آخرون قد يسمعون غنجها، ونسيت الحذر والتمنع، ولم تأبه لأحد واستجابت، ولعلها بادأت، وفي أعماقها شعرت بأنها أرادته أن يبادر، وقد بادر، ولم يكن مبروك هو ذلك الرجل المشعوف، ذلك العائد من الموت، ذلك الذي فاجأها برغبته المفاجئة، باشتهاء من يريد اقتناص ساعته الأخيرة، الساعة المضافة، المهداة بعد رجوعهما من موت محقق، وسنية تضحك، وتعيد عليه ما يحب أن يسمعه، عن العافية الطارئة الملبوسة باشتهاء كائن فوق إنسي، جنيّ يتفجّر حياة، ويصهر امرأته، وكانا قبل ساعات يصارعان النهر، ومعهما قريبه نعيم، الصبي الذي اتخذه مبروك ولدًا، بعد أن تأكد له أنه عقيم، وسنية تخفف حزنه، وتتهم نفسها بأنها عاقر، ورضيا بالمقسوم، واعتادا الصيد آخر النهار، هو يجذف وهي تفرد الشبكة، بمساعدة الصبي الذي كاد تمساح ينهشه، جُنّ مبروك، ماذا يقول لأهل الصبي؟ مهما يستغنوا عنه، ويهبوه لمبروك، ينعم بأكل لا يحظى به إخوته، فهو في النهاية ابنهم، ولا يفرطون فيه لتمساح يحاول مبروك طعنه بالمجذاف، واختل القارب، وسقطت سنية، تصرخ فيملأ الماء فمها فتنفض رأسها، لولا حربة فوجئا بها بين فكي التمساح، توالى الطعن، ولم يروا الطاعن، وتابعوا رجلًا يقفز وينتشل الصبي، ويمسك يد المرأة، ويشير إلى رجل على المركب الكبير فيقترب، يمدّ يده إلى الصبي الذي رفعه المنقذ، ويخشي مبروك أنه سيرفع سنية أيضًا، من تحت إبطيها، إلى حافة القارب، ويسوؤه ذلك، فيلعن التمساح، ويكاد ينظر إلى السماء ويعلن الكفر وقد غرق المركب، ولا يبقى منه إلا المجذاف الذي لم ينقذ الصبي.
ــ فاكر يا مبروك؟
ولا ينسى مبروك أيادي امتدت إليهم بمناشف والصبي يرتعد، وبثياب على مقاسهم تمامًا، كأن لدى رب السفينة علمًا مسبقًا بالكارثة، وأتوا بالطعام، ومبروك لا ينظر إلى جمال السفينة، ويضيق بالنهر، ويستعجل الهبوط إلى الأرض، ليسلم الولد إلى أهله، ها هو نعيم، ابنكم الصبي سليم غير منقوص ظُفرًا ولا سنّة، مبروك لا يريده بعد الآن، وسنية تفكر في «طاسة الخضة»، لإزالة الرعب من روح الولد المشغول بأطعمة لا يعرف اسمها، وينسي الفزع، حتى إنه يسأل وهو يستريح من التهام الطعام عن مصير التمساح، وكان قد رآه مربوطًا بخطاف، من زاوية فمه، ويسحبه القارب الكبير، السابح في النهر، يشقّه بهيكله الضخم، ولا يرون في القارب إلا عمال الإغاثة والصيد والطعام، وأحدهم نطق اسم السيد مختار بادشاه، صائد التماسيح، صاحب هذه الجزيرة النيلية التي يسلبها منه الفيضان سنويًا، ثم يستردها في الربيع التالي، يجعلها جنة حتى موعد هجوم الفيضان الجديد. فكر مبروك في المناشف والملابس والأغطية، والأطعمة الساخنة، هل السفينة بيته؟ ضحك أحدهم، وقال إن أحدًا لا يقيم في المراكب ولو كانت قصورًا عائمة، لهذا السيد الجليل أعمال لا تحصى، منها مزرعة خيول، ومنحل كبير وسط الحدائق، وأرض واسعة أشهر زراعاتها القصب، ولا يغادرها القصب إلا مصنوعًا، فتافيته تذهب إلى مصنع للخشب، والعصير يتحول إلى سكر، وعسل أسود، وبيرة، وفي الأرض يجتمع عسلان الأبيض عسل النحل، والأسود عسل القصب، وللمختار في الجبل الغربي المطل على الأهرام مصانع أخرى.
لا يندم مبروك على أنه لم يكتسب مهنة في حياته الأولى، وفي حياته الجديدة فرّط في فرص العمل بمصنع السكر والعسل، وإن كان قد أحب البيرة إلا أنه رفض أن يخطو نحو مصنعها، ولم يسأل مبروك عن أماكن المصانع، وانتظر العودة إلى الصيد، ونهض ينتظر تقبيل يد مختار بادشاه، يشكر فضله، وينصح سنية أن تفيض عليه بالأدعية، هي تجيد الدعاء، ولا يسمح لها مبروك بتقبيل يد أحد، والصبي نعيم يتحسس الثياب الناعمة الجديدة، ولا يهتم بتقبيل يد المختار ولا بالشكر له، ومن السفينة هبطوا، وأخذتهم عربة تجرها فرس إلى البيت الكبير أعلى ربوة بعيدة، ورأوا عربة فاخرة ذات ألوان زاهية تجرها أربعة خيول مكسوّة بالمخمل في انتظار المختار، أبصروا هالته، طيفًا يدخل الصندوق الخلفي، الواقي من المطر ومن الشمس الغاربة.
يسخر الحفيد من جدته سنية، فتدعو الله أن يهديه، ألا يسخطه قردًا أو حمارًا، فما كان للحفيد أن يوجد لولا إنقاذ بادشاه لهما، وتسأل مبروك عن تلك الليلة:
ــ فاكر يا مبروك؟
ومبروك يتذكر، ولا ينكر أنه يتذكر.
ــ اختشي يا ولية، عيب على شيبتك يا سنية.
تضحك سنية:
ــ أنت ما تعرف العيب يا مبروك، ولا تختشي، قلت لك طوّل بالك، الصباح رباح، ودارنا ستر وغطا.
يستعيد مبروك تلك اللحظة، ولا يداري الزهو، والدم ينتفض في عروقه، فيركبه عفريت فيفترعها بجنون، ولا يستحيي من صاحب الدار، ولا من جيران لا يعرفهم، أنقذهم المختار في ذلك اليوم، وكانوا مطمئنين يستقبلون سنية ومبروك بكرم أصحاب بيت، أريحية لا تشي بأنهم ضيوف نجوا بمصادفة.
تتحسس سنية بطنها الضامر، وتقول لمبروك إن هذا البطن لم ينبت فيه زرع أحد عشر عامًا، وأثمر فيه الخوف من الغرق، فعلق فيه سرّ الخلق، وكان الحمل بتوأم، وسمعت بأن ناجيات صرن صديقاتها تجمعهن الابتهالات أنجبن أيضًا، وقبل الولادة اعتاد الرجال والنساء زيارة بادشاه، يشكرونه على النجاة، وعلى أنه تسبب في إنقاذهم من العقم والوحدة، وصاروا يرددون أمام البوابة كلمات الامتنان، بتنغيم جماعي، والذي لا يقوى على الترديد، والذي تعب من رفع الصوت، يحصي على عُقَل أصابعه الشكر 44 مرة، تليها 44 دعوة بسعة الرزق، و44 مرة بالستر في الدارين، ثم وصلت العربة ذات الخيول الأربعة، عربة مختار بادشاه، وهم لا يرونه، ولا يهمهم أنهم لا يرونه، وأيقنوا أنه في صندوق العربة، وأنه يطربه التسبيح والمديح، فأعادوا الإحصاء، الشكر 44 مرة، و44 دعوة بالرزق الواسع، و44 أمنية الستر، وخلا وجه السائس من أي تعبير، وبدا لهم أنه لا يفهم كلامهم، وينتظر انتهاءهم من الأدعية، ليشدّ الألجمة فتتحرك الخيول، وتنغلق البوابة، فلم ينتهوا ولم ينصرفوا، وازدادت حماستهم بصدق، وانتظموا في دعاء جماعي، والقريب من العربة يمسّد ما تبلغه يداه، جسم الصندوق، أو العريش، أو أجناب الأحصنة، ويوضّئ بيديه وجهه وصدره، ومن شباك العربة الصغير أُلقيت قطع فضية، نُثرت فوق الرؤوس، واستغنوا عن الانحناء لالتقاطها، وتعلقت العيون بالعربة، وهتف أحدهم: «أنت كريم»، فرددوا وراءه: «يا كريم» 44 مرة، ولا يتذكر رجال بادشاه كم مرّ من السنين والعقود على هؤلاء، تزداد أعدادهم، ويصيبهم الهرم فيأتون بصحبة أبناء وأحفاد، وأقارب يسمعون بالإحسان إلى الجيل الأول، إلى سنية والصبي ومبروك، ورفاق النجاة الأولين، وكان البعض يخطئ في عدّ 44 مرة على عُقَل أصابع اليد، فخاط أحدهم 44 قطعة خشبية صغيرة، ثقّفها وثقبها لإدخال الخيط، وقلده آخرون، وانتشرت قلائد الشكر والابتهال ذات الأربعة وأربعين حبة، تذكّرهم بالمختار طوال الوقت، وتعينهم على شكره بالعدد المحدد، ورجاله لا يخفون الضجر من الأدعية، ومن الداعين المتعطلين، ويتساءل رجال المختار: متى يعمل هؤلاء المتاعيس الكسالى؟ بادشاه، وقد أنقذهم، ما حيلته في إخراج هذه العصيدة من رؤوسهم؟ متى يستبدلون بهذه المهلبية عقولا تعي أن الابتهالات لا تسعده؟ لا تضيف هذه الطقوس إلى هيبته وعظمته، ما الفائدة في ترديد 44 مرة في اليوم أنه عظيم؟ لا يسوؤه الصمت عن تكرار كرمه 44 مرة، ولا ينتظر من مبروك شكرًا، لا على نجاة لم يكن ليذكرها لولا هذيان مبروك وسنية، ولا على قارب أمر بشرائه لهما، لكن مبروك أهمل الصيد، واعتمد على هبات بادشاه، وانقطع للشكر، وخرج من أولاده ابنٌ تعلم في الكتّاب شيئًا من الحساب والقراءة، وأملاه أبوه صيغًا للشكر، كتبها في دفتر، وأضاف إلى الدفتر ما جوّده من ابتهالات الآخرين، وكتب بخط النسخ الكبير عنوانه، «كتاب التسابيح»، وصنّفه بين تسابيح الصباح والمساء، ما يقال بظهر الغيب، وما يقال في حضرة المختار الذي لا يرونه، وكلما بلغوا البوابة اعتبروا أنفسهم في حضرته، وأنه في الأعلى يرى ويسمع، وأنه يسرّه التباكي والتفاني في التضرع، وسرعان ما علا شأن ابن مبروك، ونافسه ابن ناجٍ آخر تصادف أن أحسّ برهز سنية ليلة النجاة، وكتب ابن الآخر في دفتره شروحا للتسابيح، وبالحبر الأحمر زوّده بهوامش بالخط الفارسي، سمّاه «كتاب الشروح والحواشي»، فبكى مبروك، وقد نوى تقديم ابنه إلى بادشاه، يسلمه إلى أحد الحرس وفي يده نسخة من «كتاب التسابيح»، لعل المختار يبارك الولد، ويقرّ الكتاب بتوقيع النسخة، ويعتمده من دون بقية الكتب التي قلدته، وأولها «كتاب الشروح والحواشي»، فعمد حفيد أحد الناجين إلى ابتداع مناسبات للابتهالات والخضوع والتذلل، في مديح عمومي يقال في سرادق على يمين أول الممشى المؤدي إلى ربوة البيت الكبير، وفي ساحات القرى المحيطة، وبدأها بعيد النجاة، وتلاه عيد التجلي يوم نثر عليهم المال من نافذة العربة، وعيد حصاد القصب، وعيد تعبئة السكر والجعة، وتوصلوا إلى معرفة تاريخ تشييد البيت الكبير فجعلوه عيدًا، وقال رجال بادشاه إنه يئس من استعادة العقول، فشقوا طريقًا آخر إلى الربوة، ومنها إلى باب خلفي للدار الكبيرة، والناس ينتظرون دخوله من البوابة الأولى أو خروجه منها، ولما تأخرت عربته اتهموا أنفسهم بالتقصير والتراخي، وبالغوا في توسل العفو، وسمعوا أنه لا يحتاج إلى دخول أو خروج، وأنه يبعث من رجاله مصطفين إلى زراعاته ومصانعه، يبلغون التعليمات، ويعودون بأثمان بيع المحاصيل والثمار، فاتهموا أعينهم بالقصور عن رؤيته، فقيل إنه سما فوق بشريته، وإن تهدُّج أنفاسهم علا به فيدخل ويخرج ولا يشعرون، وأراحتهم خيالات إدراكهم له بقلوبهم، وتصاعدت التسابيح بمضاعفات الرقم 44، وبخاصة في الأعياد التي تناسلت، ولا يفصل أحدها عن الآخر إلا شهر أو بعض شهر، وهم ينتقلون برحالهم، ويسهرون الليالي يشكرون المختار، ويذكرون فضائله وإحساناته، ويسبحون في الملكوت يتطلعون إلى الربوة، وفي قمتها البيت الكبير، ويرغو اللعاب على جانبي أفواههم، ويميلون ذات اليمين وذات الشمال، على أنغام الرباب، والمنشدون يصهلون يستعرضون قدرات حناجرهم، ومواهبهم في الارتجال، بانفعالات تمسّ القلوب، وترتعش الأجساد حتى يصيبها الإنهاك، فيقعدون ويطلبون المغفرة على أوقات تمرّ من دون تضرّع، من دون ندم على ذنوب لا يعرفونها.
يسهو مبروك عن الذكر، ويشير إلى وافدين لا يعرفهم، ويسأل زوجته:
ــ متى جاء الأغراب يا سنية؟
ــ أي أغراب يا رجل؟
فيشير إلى نساء ورجال قصار القامة، عيونهم مسحوبة، يتفاهمون بلغة تخصّهم، ويتعاملون مع الناس بالإشارة، يبيعون أساور تتدلى منها قطع معدنية تحمل اسم بادشاه، وبعضها ملضوم فيها 44 قطعة من الفضة أو الحجارة الكريمة، ويعرضون للبيع ثيابا كتبت عليهم أدعية وتسابيح، ويلاحظ مبروك أن كثيرين ممن يعرفهم، وممن لا يعرفهم، يرتدون هذه الثياب، ويتباهون بالأسورة، ويسأل البائعين من أين جاءوا، ولا يفهمون سؤاله، ويقدر أنهم لا يبجلون بادشاه، ولا يعنيهم إلا البيع، ويهوله رواج البضائع، فيضرب كفًّا بكف، وتلومه سنية.
ــ شغلوك يا مبروك؟ صفّي قلبك يا رجل.
وتبكي الجدة سنية، وتلوم مبروك على انشغاله بشأن الأغراب، وعلى غفلته عن شكر وليّ النعم إذا قلق ليلًا، وعلى تكاسله عن زيارته، وترجو أحد أحفادها أن يحملها إلى شاطئ النيل، وترى القارب الراقد منذ اشتراه لهما بادشاه، ويحملها الحفيد إلى الشط الذي هبطوا منه إلى الأرض، بعد أن تنعموا في السفينة، ساعة أو بعض ساعة عقب إنقاذهم، ولم تجرؤ الجدة على السؤال عن مصير التمساح الذي سحبوه ذليلًا إلى الشاطئ، ويلحق بها مبروك، وتحملهما عربة يجرها حصان إلى البيت الكبير، مؤمنين بأن عيونهم الكليلة لا تحتمل بهاء طلعة بادشاه، ويتمنون أن يتكرم بالإطلال عليهم، للحظة، ولو يدفعون أعمارهم لقاء هذ التجلي، وهذه الجموع تؤخر وصولهم، والناس يتزاحمون، ويتواصل توافدهم، ويفترشون الممر الصاعد إلى الربوة، والبيت الكبير تحيطه غيوم المساء، مرشوق في السحاب، لا نافذة يضيئها مصباح، حتى الباب الكبير قال العائدون من عنده إن الصدأ أصابه، ولا أحد هناك يسمع الصائحين، لا أحد يأمر، لا أحد ينهى، لا أحد من الداخل يفيدهم بأن بادشاه فارق أو أنه لا يزال راضيًا عنهم، لا أحد يجيب، لا أحد يأتي بخبر، فيرتعبون ويتلاومون، ويسارعون إلى الاعتراف بالتقصير، لا يكفيهم الإقرار بذنوب يجهلونها، فيبحثون عن حجارة، ويُسعفهم الوافدون الأغراب ببيع المقارع.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.