}

هل ثمن السلام نهاية مشروع الدولة الصهيونية؟

سعد القرش 17 يناير 2024

تتراوح علاقة اللغة والواقع قوة وضعفًا، من مجتمع إلى آخر، وبتغيّر الأحوال في المجتمع نفسه. الواقع الهشّ يعيد مضع اللغة القديمة، يحتمي بها ويخشى التخلي عنها؛ لعجزه عن إنتاج لغة بديلة تلزمها دماء حيوية جديدة. اللغة، في هذه الحالة، تقود مجتمعًا مهزومًا، وتُخضع قادة تابعين، وكلاء ينفذون سياسات رعاتهم في الخارج، أولياء النعم هم أولياء سكّ المصطلحات. قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لم تكن "صفقة القرن" تعني شيئًا، فصارت كابوسًا لن ينقذ فلسطين منه إلا واقع جديد بدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. الواقع القوي يبتكر مصطلحاته ويفرضها. في عام 1987 ردد العالم كلمة "الانتفاضة"، كما دخلت "النكبة" سوق الخطاب الدولي.
الواقع ينتج لغته، ويغير أمزجتنا. المقاطعة الآن قفزت من القاموس إلى السلوك العمومي سلاحًا مؤثرًا. وتغيرت الأمزجة والأوليات. نسيتُ برنامج قراءاتي ومشاهداتي. تعطلت الترتيبات، ويحتاج الاستئناف إلى عزيمة. تحول الانتباه إلى المسألة الصهيونية والنازية والأميركية، بإعادة قراءة كتب، وإخراج كتب أخرى تأجلت قراءتها عشرين سنة. قلق يحملني إلى جذور الأزمة، ومثيلاتها في التاريخ، خصوصًا المسكوت عنه في عمليات الإبادة والسلوك العنصري في التاريخ الأميركي. الواقع الجديد يفرز الخطاب، ويقصي مصطلحات فقدت المعنى... "حل الدولتين كخيار وحيد"، من لا يملك خيارات يُذعن للخيار الوحيد. وكذلك "السلام الشامل"، أي سلام وأي شمول؟ السلام يتحقق بألا يحتكر طرف قوة لا يسمح بها للآخر.
السلام يثمر إذا استطاع أطرافه تحمّل أثمانه. هل تتحمل إسرائيل ثمن السلام؟ السؤال يفترض أنها دولة طبيعية بالمفهوم التاريخي لنشوء الدول. بهذا المفهوم يكون التطبيع مع كيان غير طبيعي غفلة ورضوخًا. إلى فلسطين تسربت العصابات الصهيونية المسلحة، قبل وجود جماعات بشرية لازمة، في أي بيئة طبيعية، لقيام الدولة. في البدء كان الجيش ولا يزال. في معسكرات الجيش وديكورات الأفلام لا أخطاء. في كتابه "أسمهان تروي قصتها" سجّل محمد التابعي انطباعه عن تل أبيب، عام 1941، "أنها أشبه بالمدن التي تشيّدها ستوديوهات السينما في هوليوود". ينتهي تصوير الفيلم، فيهدمون المدينة. التابعي رأى تل أبيب "لا توحي إلى النفس بشعور الثبات والاستقرار!".

ماكيت الدولة ليس دولة. وفي الأفلام ينفذون سيناريو محكمًا لا يحتمل ارتجال مشهد غير متفق على "تمثيله". لهذا السبب، وللخروج من التخطيط الورقي إلى الحياة وفوضاها المنضبطة، فرح بن غوريون بأول جريمة في فلسطين بعد احتلالها. جريمة تفكّ العقدة التاريخية لليهودي المنبوذ، تخرجه من الغيتو إلى المستعمرة، إلى مدن التلال، إلى المجتمع الطبيعي: "أصبحنا دولة". دولة شيّدها الجيش وإليه تنتمي. جيش الاحتلال إسمنت المجتمع، وبدونه تتفكك "الدولة". حرارة السلام تذيب الأسباب التي تدعو الجيش، بعدوانه الدائم، إلى استفزاز "الشعب"؛ فيحمل السلاح. الحرب الدائمة لُحمة المجتمع الطبقي، العنصري بين يهوده تبعا لاختلاف أصولهم العرقية. الصراع يطيل عمر كيان يبحث عن عدو.
ينفي المؤرخ الأميركي هوارد زن في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة" ادعاءات الحزب الجمهوري بأن سياسات رونالد ريغان، وزيادة الإنفاق العسكري الأميركي، من أسباب "سقوط الاتحاد السوفياتي". الحرب الباردة أطالت عمر الاتحاد السوفياتي. ويرى أن القيادة السياسية الأميركية لم تستعد "للسقوط المفاجئ للاتحاد السوفياتي"، والفرح بالانتصار في الحرب الباردة طرح سؤالًا "مخيفًا" هو: "ماذا سنفعل للحفاظ على مؤسستنا العسكرية؟". جرى البحث عن أعداء، في أفغانستان والعراق الذي لم يكن لديه القدرة على إنتاج قنبلة نووية، ولا القدرة على إرسالها إلى أي مكان، أما إسرائيل فتملك أسلحة نووية، لكن إدارة بوش خلقت "هوسًا داخليًا من القنبلة العراقية التي لم تكن موجودة".

في كتابه "أسمهان تروي قصتها" سجّل محمد التابعي انطباعه عن تل أبيب، عام 1941، "إنها أشبه بالمدن التي تشيّدها ستوديوهات السينما في هوليوود". ينتهي تصوير الفيلم، فيهدمون المدينة


لأي تسوية مكاسب سياسية واقتصادية للدولة الصهيونية. التسوية "عملية" طويلة المدى، مفتوحة بلا سقف زمني، هدنة بين حربين. الشروع في "تسوية" مع ياسر عرفات أنهى ثمار انتفاضة 1987، وأتاح لإسرائيل توسيع علاقاتها الدبلوماسية مع أكثر من 150 دولة. وبمعاهدة السلام مع مصر، 1979، حصدت انتصارات دبلوماسية في أفريقيا وآسيا، مع دول ظلت تقاطع إسرائيل مراعاة لمصالحها مع مصر والدول العربية، ولم تكن لتتشدد في المقاطعة بعد الاعتراف المصري. وإسرائيل تتعمد تعطيل عمليات التسوية، بحجة أن أمنها مهدد، وتصدّر مصطلح "دول الطوق"؛ للإيحاء بالتهديد. إسرائيل، طوال تاريخها القصير، مصدر التهديد والعدوان العسكري، حتى على دول بعيدة جغرافيا، مثل العراق وتونس والسودان.
هل الدولة الصهيونية تريد السلام؟ للسؤال إجابة واحدة، وكان "السلام" قناعًا للاعتراف. وبعد الهرولة رفضت اقتراح "حل الدولتين" منذ اعتمدته قمة بيروت 2002، مع وهم آخر عنوانه "الأرض مقابل السلام". استمر التوسل والتسول والإلحاح على قبول الخيار الوحيد، ومات حكام عرب، وورث أسلافهم الخطاب الذليل نفسه، وأفاقوا عام 2020 على قول نتنياهو: "السلام مقابل السلام". صفعة إرهابي يحكم كيانًا يمثل خلاصة الخبرة الاستعمارية، والسلام الحقيقي يهدد تماسك بنيته العسكرية؛ فيستغني الرعاة عنه كقاعدة عسكرية تراجعت قيمتها الاستثمارية. ولن تتحرر فلسطين إلا حين يتأكد لرعاة الدولة الصهيونية أن ثمن بقائها أكثر تكلفة من قيام دولة فلسطينية لا تنظر إلى ديانة مواطنيها.

الهدف الوظيفي لإسرائيل لم يغب عن مؤسسيها، وقد أغروا ممولي المشروع بعوائد استثماره. يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه "اللغة والمجاز" أن حاييم وايزمان كتب إلى ونستون تشرشل، يغريه بدعم مشروع "الدولة"، كشركة رأسمالية: "إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الإطلاق تبديدًا للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر". أما يعقوب مريدور وزير التخطيط الإسرائيلي بين عامي 1982 و1984 فبيّن انخفاض ثمن الدولة الصهيونية، كخادم رخيص للمصالح الأميركية التي كانت ستكلف الولايات المتحدة 55 بليون دولار، والمعونة الأميركية لإسرائيل أقل منذ ذلك، وتساءل الوزير: "أين إذًا بقية المبلغ؟!".
لم تكن زلة لسان فكاهية من وزير، فالمعنى نفسه ردده رئيس للوزراء يكره الفكاهة. قال شارون إن أميركا قدمت لإسرائيل معونات لا تزيد على ثلاثين مليارًا، والخدمات التي قدمتها إسرائيل أكثر من مئة مليار: "الولايات المتحدة لا تزال مدينة لنا بسبعين مليارًا من الدولارات". يرى المسيري أن هذه الخدمة "أرخص من أي خيار عسكري" لأميركا في المنطقة. ويذكر أن جريدة هآرتس نشرت، في سبتمبر/ أيلول 1951، مقالًا عنوانه "نحن وعاهرة المواني"، تضمّن الصورة المجازية لحقيقة إسرائيل، "لتقوم بدور الحارس الذي يمكن الاعتماد عليه في معاقبة دولة واحدة أو أكثر من جيرانها العرب الذين قد يتجاوز سلوكهم تجاه الغرب الحدود المسموح بها".

المرتزقة أدوات، بنادق للإيجار، قتلة لا مقاتلون، وسائل منزوعة الإرادة والقيم الأخلاقية. في العدوان على غزة وثّق ضابط صهيوني، بالصوت والصورة، لحظة تفجير. تصوير سينمائي لمشهد يهدي فيه التفجير إلى ابنته "الأميرة أيالا" بمناسبة عيد ميلادها الثاني. اللقطة الأولى مقرّبة تظهر ملامح وجه القاتل ومشاعره بين الجنود، وسط ركام القصف. أرسل الإهداء، وأمسك اللاسلكي، وأمر محطة التفجير بالتنفيذ بعد العد من واحد إلى عشرة. اللقطة التالية متوسطة، والجنود يرددون من واحد إلى عشرة، كورس يألف المشهد المكتوب في السيناريو، والكاميرا تتوجه في اللقطة التالية، البعيدة الموسعة، إلى خلفية المشهد، نحو الهدف. لو تحقق السلام، هل يجدون مهنة مربحة مثل القتل؟

*كاتب مصري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.