}

جيل الفشل: منذ هزيمة 67 وحتى اليوم

مها حسن 19 يونيو 2024
سير جيل الفشل: منذ هزيمة 67 وحتى اليوم
(غيلان الصفدي)


جيل خالد خليفة


"أنعي إليكم رفيق العمر خالد خليفة"...

في يوم الثلاثين من أيلول/ سبتمبر 2023، قرأت هذه العبارة على صفحة الروائي يعرب العيسى في فيسبوك.

اعتقدت أن الأمر مزحة، فخالد رفيق المرحلة والدرب، لا يمكن أن يذهب هكذا، من دون تمهيد.

انتظرت لساعات طويلة، أن يخرج خالد ضاحكًا وهو يعاتب على هذه المزحة، أو يعتذر لتواطئه مع أصدقائه في تأليف تلك الدعابة المقيتة.

لكن يبدو أن الأمر كان جديًا: لقد ذهب خالد ولم يعد الأمر قابلًا لانتظار التعديل أو التصحيح أو المراجعة.

خفتُ كثيرًا...

خفتُ أولًا... خفت قبل كل شيء.

كيف يتحول كائن مليء بالطاقة والحيوية، إلى شيء جامد، يحرّكه الآخرون، ويفقد السيطرة على حياته وحركته وقراراته، وكلماته.

ثم حزنتُ.

جاء الحزن بعد الخوف.

حزني كان غريبًا عليّ، لأن خالد لم يكن من دائرتي القريبة. تعود معرفتي به إلى سنوات قديمة، أدعوها بمرحلة حلب، قبل أن يذهب خالد إلى دمشق ويدخل عالم الدراما التلفزيونية والشهرة الواسعة، التي حققها من الكتابتين: في الرواية وفي الدراما.

آخر مرة التقيته فيها في باريس، قبل قرابة خمس سنوات، تبادلنا أحاديث مرحة كعادة خالد، حيث يتمتع بكاريزما الدعابة والمرح. ولم أتخيّل أننا لن نلتقي مجددًا في ندوة ما تتعلق بالرواية، في أوروبا أو في أي بلد عربي.

حزني على خالد كان مركّبًا، حزن على شبابه، وحزن على كتابته.

كتابته هي التي آلمتني وجعلتني أتجمّد لأيام. فقد بدأ مشروعه لتدوين تجربته الكتابية، ونشر القسم الأول: "نسر على الطاولة المجاورة"، ثم ذهب تاركًا ذلك الجمال مخبّأً في داخله، أو في حاسوبه، أو في مخطوطات ومخططات مدونة على الورق هنا وهناك.

لطالما كان الخوف من الموت مرتبطًا لدي بتركي مشاريعي الكتابية يتيمة.

نحن الكتاب، وأعتقد أن خالد هكذا، نكتب منتظرين تحقيق كتابنا الذي لم نكتبه بعد. هناك دائمًا مشروعنا الذي لم ننجزه بعد، والذي يبدو كما لو أن جميع ما نكتبه وننشره هو تمهيد أو تدريبات لكتابنا الذي ينتظرنا في منعطف ما.

كتابي الذي أنتظر كتابته، المؤجل منذ سنوات، يحتاج إلى الكثير من الاسترخاء والتركيز، كأنه امتحان مفصلي، لا أعرف متى أتهيأ له.

نظرت من بعيد، من بيتي الفرنسي، إلى بيت خالد السوري، أُجري تواصلًا أتقنه عن بعد، مع مخطوطات خالد الحزينة: ماذا سيحلّ بنا الآن؟ سمعتها تقول لي.

من الجمل العالقة في ذهني عن الموت، قالتها صديقتي دومنيك: أخاف من الموت من أجل بناتي، كيف سيتدبرن أمرهن بعدي؟

أعتقد أن الكثير من الأمهات والآباء يخافون من الموت من أجل هذا المصير الذي سيتعرض له أبناؤهم من التشرد والضياع والتخبط، بعد رحيلهم.

خالد الأب يترك كل هؤلاء الأولاد وحدهم. لا أحد يفهم هذا الرعب أكثر من الكاتب الذي يستيقظ في كل صباح سعيدًا بأنه كسب يومًا جديدًا يمنح إمكانية منح الحياة لكائن جديد من هذه الكائنات العالقة في جوف الكاتب، التي تنتظر لحظة الإفراج عنها، لتمتلك حياتها الشخصية.

في جوفي ككاتبة، عشرات الغرف المسكونة بعشرات النساء والرجال، أطفال وشيوخ، شوارع وبيوت وقصور، حكايات هائلة لا تتوقف عن الهمس في رأسي كيفما تحركت.

تقول سيلفيا بلاث: الشعر هو صنبور الدم الذي يتدفق في رأسي دون توقف. وهذا ما أحياه ككاتبة، هناك صنابير من الكلام والقص والبشر الذين يدورون في داخلي، وفي كل يوم أعيشه زيادة، تمنحني الحياة فرصة لفصل أحد هؤلاء الأشخاص عن عالمي، وإطلاقه صوب الضوء، حين أكتب قصته أو أنشرها.

هكذا تصبح مدام بوفاري كائنًا مستقلًا عن فلوبير، ويصبح أنطوان روكانتان شخصًا مختلفًا عن جان بول سارتر، وتصبح صوفي بيران، بطلة روايتي "حبل سري"، امرأة منفصلة عني، تعيش حياتها بين عشرات المكتبات والقراء وتصبح لها صداقاتها ومعارفها...

كل هذا الحزن، عشته مكثفًا للأيام التي تلت رحيل خالد، مسكونة بالخوف على مشاريعي ومخطوطاتي: لا أريد أن أموت قبل أن أحررها، لأنها ستموت جميعًا بموتي.

لن يستطيع أحد الطبطبة على شخصيات خالد الروائية المحبوسة اليوم في المخطوطات، ولن يستطيع أي كائن منحها حرية الذهاب في الحياة، بعد أن رحل والدها وعرّابها وصانعها.

جيلنا الفاشل منذ هزيمة 67

حين قرأت خبر وفاة السيناريست فؤاد حميرة في القاهرة، انتابني الخوف ذاته. ها هو واحد آخر منّا يذهب، هذا يعني إما أننا هرمنا، نحن جيل خالد خليفة وحاتم علي وفؤاد حميرة وفدوى سليمان ومي سكاف... أو أن الموت مستعجل على جيلنا بالذات.

كتب لي فاتح كلثوم: كلا، لا الموت مستعجل ليأخذنا، ولا نحن كبرنا. إنما معادلة الحياة التي ترفض أن يعيش فيها الفاشلون. نحن جيل الفشل، يؤكد كلثوم، وها هي الحياة تتخلص منا واحدًا تلو الآخر.

جعلتني عبارة فاتح أفكر في أننا نحن، وليس الحياة، من نشعر بالرغبة في الذهاب، لأننا لم نعد نحتمل أن مكاننا ليس هنا.

يقول حميرة في أحد منشوراته:
"أكتر سؤال بيستفزني من الأصدقاء الإعلاميين لما بيقولولي: ما هو رأيك في الموضوع الفلاني؟ رأي مين يا جماعة؟ ما الواحد فينا بيخلص دراسته الجامعية وهو عم يقول رأي المناهج الدراسية وإلا رح يرسب السنة ويمكن يخسر مستقبله كله.
ولما بتخلص دراسة وبتتوظف بتلاقي ألف مؤسسة بتفرض عليك الصمت، وبتفرض رأيها للي بيصير مع الزمن رأيك، أو بتخسر وظيفتك، يا إمّا بتندكّ بالسجون، يا إمّا مصيرك المنفى أو الاغتيال.
ولما بتوصل لعمر التقاعد وبتفهم إنو رأيك أهم من الشغل، وأهم من الضغوط، بتكون صرت بمرحلة إنو مالك نفس تقول رأيك أصلًا، وهيك بتموت وفيه بقلبك غصّة إنك عشت كل هالسنين وما قدرت تقول رأيك ولو مرة واحدة"!

هل يمكن اعتبار حميرة، الذي غادر سورية مقهورًا، ولم يستطع العودة إليها، فاشلًا بطريقة ما، لأنه، وجميعنا مثله، نحن الذين تناثرنا في المنافي، لم يجد لأحلامه مكانًا لتحققها، فآثر بطريقة غامضة، أن يرحل؟

فؤاد الذي في منشور قال إنه يتمنى أن يعيش ليوم واحد فقط بعد سقوط النظام، مات ولم يشهد هذه اللحظة.

هل هذا هو الفشل؟ فشل جيلنا المولود في الستينيات، قبل هزيمة حزيران/ يونيو 1967 أو بعدها بسنوات صغيرة؟ هل ورثنا جينات الخيبة والفشل منذ وُلدنا محاطين بمفهوم الهزيمة الكبرى، وحتى اليوم، حيث لم نشهد اكتمال حكاية عن تحقق العدالة ونجاح الشعوب؟

في روايتي الأولى التي كتبتها قبل ثلاثين عامًا ونشرتها في سورية "جدران الخيبة أعلى"، تحدثت فيها، نعم، قبل ثلاثين عامًا، عن بطلي كريم الحاوي، الذي استمديت اسمه من "جماعة شعر"، الذين أخفقوا، فانتحر خليل حاوي مطلقًا النار على رأسه إثر دخول إسرائيل إلى بيروت...

هل مات لؤي كيالي بحادث أو أنه لم يحتمل الإحساس بالفشل...

هل يقتلنا الفشل تحت مسميات عديدة: أزمة قلبية ونحن وحيدون في بيوتنا أو في غرف الفنادق في بلاد الغربة ـ حادث في طريق ـ موت في المشفى...

هل هذه التجليات المتعددة في الموت هي، في العمق، احتجاج على العالم الذي خذلنا، ولا يزال يمارس السطوة ذاتها، دون رحمة، وهو يحوّل أحلامنا التي تغذّينا عليها لنعيش، إلى أوهام لا يبالي بها أحد؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.