}

عندما كان الموت طفلة

رنيم ضاهر رنيم ضاهر 28 يونيو 2024
يوميات عندما كان الموت طفلة
(إيتيل عدنان)
"في اليوم التّالي لم يمت أحد… لقد انقطع الموت في دولة صغيرة ــ لا اسم لها ــ وأصبح سكانها لا يموتون".

تبدو عبارة خوسيه ساراماغو هذه، المأخوذة من روايته الشّهيرة "انقطاعات الموت"، دليلًا واضحًا على غربة الإنسان في الوجود.
اخترع خوسيه فرضية لامعقولة ليُقنعنا بأهمية الموت وضرورته للتّوازن والاستمرار في تبادل الأدوار بين الأجيال. فالإنسانية كانت ولا تزال مأخوذة برمزية الجنّة المفقودة والمصير المبهم. كاتبنا لم يترك لنا خيارًا في النهاية، سوى لتسول الموت بكافة الطرق ليعود إلى رشده، حتّى لا تتقوض الدول ويكتظ الزمان والمكان بثدييات لا طائل منها.
هل علينا أن نصدق موت الإنسان، لنستدل على الخالق بسماته الأعجوبية؟
الشموع، هل تنفع في إضاءة قدرٍ معتم؟
الأموات، هل يفتقدون أعضاءهم المبتورة، وأجسادهم الضائعة في اللازمان البعيد، أو البرزخ الفاصل بين حياتين؟
تخفت الدموع مع الوقت في المقل الفاترة. لا نمتلك فكرة ملموسة تجعلنا نصدق المعجزات، ولا حتّى طيف السّعادة.
باختصار شديد: السّواقي التي تشرب الحزن المتبقي في خزائن الماضي لا تكاد تعكس سوى خواتم جفت في أيدي أصحابها.
هل هذا ما يسمى بعدمية الأيام؟ وهل اللغة مجرد هوامات تنبع من مخيّلات بعيدة، تتنفس بعض الكلمات من حين لآخر ثم تُعاود النوم من جديد؟
كتب ريلكه في إحدى رسائله: "الموت، خصوصًا ذاك الذي يمسّنا عن قرب ونعيش تجربته، لم يكن قطّ عقبة أمام الحياة، بالنسبة إلى أولئك الباقين، ذلك لأنّ جوهره بالذات ليس عدوًّا لنا/ كما يمكن للبعض أن يعتقد/ بل بالعكس، لأنه يعلّمنا مزيدًا عن الحياة، أكثر من برهات استقرار الحيوية في نفوسنا".
لم أخض يومًا تجربة أدب الرسائل، لكن لو أردت أن أكتب بكثافة روحية كنت سأرد كالتّالي:
عزيزي ريلكه...
تحية من عصر البريد الإلكتروني الذي يختصر الضوء بأقل من الثّانية.
كتاباتك أصبحت واسعة على حياة سخيفة وغير ملونة كما كنا نظنّ في الطفولة.
الحب صار "شورت فيلم"، والأغاني كثيرة على اللحظات المتبقية.
لقد مسّني الموت وجعل مني شاعرة. هل أنت سعيد الآن؟
لقد تحققت نبوءتك أيّها الواقعيّ القادر على سكب الصور في أنابيب للتحقق من جدواها، أو عدمها.
تجربتك الموضوعية أثبتت أن علم تنسيق العبارات يكمن عند مفترق الطريق بين السؤال والفراغ الذي يعقب الإجابة.
سأضيف للكلمات قلبًا أحمر، كونه متوفرًا بكثرة، أو "إيموجي" يحدّق في المجهول وهو يبتسم للهاوية.
لا شك أنّه سيؤنسك في وحدتك. سيُضيف معنى على أيامك الزائدة في اللامكان المتواجد فيه مع كتاب السّاعات.
أتمنى ألا يكون الفراغ ثقيلًا هناك، والنّار والجنّة حقيقيين، أرجو أنك غير نادم على فعل الكتابة، كما أتمنى أن لا يكون الشّعر محرمًا كالتّفاح.
تلميذتك المخلصة: رنيم.

***

الجميع يبكي، وأنا لست سوى طفلة تُقلد الكبار. لماذا أنوح مثلهم، ولديّ صوفٌ ملون، قد أصنع منه قطة تطير من وقت لآخر.
أبكي بحرقة بينما أسترق السمع لعبارات مبهمة بالنسبة إلى فتاة صغيرة، تلعب الـx o وتنط على الحبل لتربح نزهة إلى الطبيعة على ظهر حمار متعب من الوقت.
"بعيد عنك، هيداك المرض"، "يا لطيف، الله يشفيها"، "خبيث وما بوجع"...
يتسارع البكاء، يهبط قلبي ولا يعود إلى مكانه الطبيعيّ.
جدّتي تهمس للجارة: "شالولا صدرا الشمال".
أحاول تهدئة نفسي، بينما أتحسس جسدي. كل شيء في مكانه.
أتنهد وأساعدهم في ذرف الدموع والابتهال واستدعاء الألم.
مرّ الوقت وأنا أستيقظ صباحًا، أتلمس مكان أعضائي، ثم أذهب إلى الحياة كمن فقد روحًا، أو جنّة طفولته.
كمن لم يقرأ: "أليس في بلاد العجائب"، أو يحضر سلسلة "توم أند جيري"، أو "السندباد البحريّ".
تتكاثف الزيارات ويتداخل الناس بعضهم مع الآخر، لمواساة العائلة.
لقد كان الزمن في تلك الحقبة نظيفًا، فلا أحد يتملكه الهاتف، أو وسائل التواصل الاجتماعيّ، ولا اتصال يعيق لقاء النظرات المتعبة.
كنّا في كوكب نظيف سمعيًا وبصريًا، حيث ساعي البريد وبائع الجرائد ينفضان ريشهما وهما يعبران على الدّراجة الهوائية، ملوحين للأبواب والنوافذ، فتخرج منها الابتسامات والأيدي المشتاقة.
أحاول أن أنسى المشهد والسيناريو من الأصل، لكن عقارب السّاعة المتآلفة مع الجدار الطينيّ لا تكف عن نقر رأس الزمن من دون خجل، أو فواصل ترفيهيّة.
عمتي تتعب يومًا بعد يوم، ظلّها صار شاحبًا ومأساويًّا.
الكل يبحث عن كلمات المواساة، بينما أفتش في عينها النّحيلة عن ثدي ضائع.
تحت الوسائد، في الأدراج، فوق الخزانة، الجميع جفف دموعه قبل الحصاد، عداي لم أيأس حتى من البحث في الجوارب المبللة على حبال الغسيل.
ثدي البقرة كان أكبر من خيالي في تلك اللحظات.
كم هو ضخم، يدُرّ الحليب يوميًا، أتخيله معلقًا مكان الثدي المتخفي.
لكن الواقع عكس تصوراتي البالية.
شعيرُ محنط تحت أفواه الماشية في الحظيرة الخلفية للعائلة.
فكرت لو أبتاع لها واحدًا من عربة بائع متجول، أو من العارضات العاريات في المجلات.
لكن كيف؟ لا أحد يصدقُ طفلة، فأنا صغيرة، والكبار عميان.
الكل حزين وقلبي لا يتفهم المرض، أو كيف نحيا بعد بتر عضو حميم كان نحن قبل ضياعه في سلة المهملات.
كيف لا نلعن الحدث باكرًا، وكيف لا نتشقق تحت الشمس؟ لماذا علينا أن نكبر ونتزوج وننجب ونترك القدر يختار لنا ما يشاء من مصائر، ليأنس الموت في كهفه التّاريخيّ المظلم.
يقول ترانسترومر: "إن الموت يزورك مرتين، في المرة الأولى يأخذ مقاساتك وتنسى زيارته مستمرًا في الحياة فيما هو يقوم بخياطة الثوب في صمت"، هكذا انشغل الموت لأشهر في صياغة كفن لعمتي، نحلت المرأة كثيرًا، غدت أخف من ورقة خريف، لونها تغيّر أيضًا حتى غدا بلون الكركم.
أمّا أيامنا فتجمدت كاليعسوب تحت الجليد القاسي، الأيدي التي حملت النعش صارت تراثية، والقبر والشاهدة أقسى من مشهد الثلج الذي يغطي الضائعين في ليالي الجبال.
لم يبالِ الموت بما يختلج داخلي من مشاعر صعبة، فصرت على وشك الانتحار النفسيّ، صار كل جزء مني موتًا مصغرًا.
"السقف متصدع/ والموت من الممكن أن يراني".
لكن ليس السقف وحده يا توماس الذي قد يدلف منه الوسواس القهريّ، بل الباب المشرع، المرور قرب المقبرة، طنين الأجراس في حارة المسيحية، الآذان، القرآن، وخطبة يوم الجمعة المليئة بالمواعظ المرعبة عن خفايا القبر وتقنيات التّعذيب في النّار.
كلها طقوس تبعث على الارتجاف والفوبيا.
الخوف المضني من نقصان حاسة أو عضو، كلمة أو كتاب مهم عن رف مكتبة.
لم تعد الحرب ذات شأن ولا متابعة الدّروس، لا الشّعر أو "النيو لوك"، ولا القفز كضفدعة في البرك الضجرة.
صار كل العالم على مقاس الصح والخطأ والخشوع، وألعاب رجال الدين المتآمرين من داخل عباءاتهم الطافحة بنفوس سطحية. والغريب أنّهم دائمًا على حق.
أستذكر النساء اللاتي يتسابقن على جمل منسابة كالينابيع في مأتم عمتي؛ "بحياتها ما زعلتِ حدا"، "يا طيبة، لمين تركت الولاد"، "الولاد بيربو... راحت عليك"، وإلى آخره من عبارات تختلط باللون الأسود القاتم.
أمّا الرجال فقد وصلوا فقط في اللحظات الأخيرة ليحملوا الجثة الناقصة.
بعد ثلاثة أيام من العزاء والبكاء، نام الجميع يومًا كاملًا كما لو أنّهم أموات في أسرتهم.
بينما نحن الأطفال المذهولين استيقظنا لأننا لم نفهم أنّها لم تعد "موجودة"، وبأن أطفالها يملكون كامل الحق في التبوّل الإراديّ على الزمن والضجر والحضن البارد للطقس.
لم يمر شهر حتى تزوج زوجها امرأة من طراز جديد، الصورة في بيت جدّي بقيت تهتز عند فتح الباب وإغلاقه.
مرّ شتاء وصيف وربيع، وفي الخريف تحديدًا، أصبح الموت أكثر من طفلة بالنسبة لي. صار كنّاسًا للأوراق المتعبة من التّنفس والشقاء.
صار قبرًا مليئًا بأوراق لا نفع لها. صار خيارًا ونافذة للوقوع من الداخل.
"يداي خاليتان كقميص على حبل الغسيل".
في مكان ما من العالم، شجرة تنقص أوراقها كل يوم لينبت غيرها، ومختبرات تخلق ذكاءً اصطناعيًا من دون بويضات، أو سائل منويّ. وأثناء ذلك تتكاثر الطيور وتهاجر، وتموت أصواتها بصمت كأنّها لم تكن.
بينما "siri" تحدّثنا من خلف قناع: هل تراها الموت نفسه، يزودّنا بمعلومات من عالم آخر؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.