}

فلسفة "الأمير الصغير" في ترميم فساد العالم

رنيم ضاهر رنيم ضاهر 22 أغسطس 2024
تغطيات فلسفة "الأمير الصغير" في ترميم فساد العالم
كان دوسانت أكزوبيري طيّارًا إضافة إلى كونه كاتبًا (Getty)

خلال  جلسة أدبية ممتعة مع  الشاعر أنسي الحاج قبل وفاته، في منزل الروائي ياسين رفاعية، أخبرني أن أكثر قصة أثّرت في شخصيته وتركت انطباعات لا تُمحى، نظرًا للمكانة التي تحتلها  في قلبه، هي الرواية الأكثر تداولًا وجدلًا  Le Petit Prince أو The Little Prince. وافقت أنسي الحاج يومها بأن رواية "الأمير الصغير" للكاتب والطيار أنطوان دو سانت أكزوبيري Antoine de Saint-Exupéry، قصة غير قابلة للنسيان أو التّكرار، هي فقط قابلة للتأمل والغوص في دهاليزها القريبة من عالم موغل بالغرابة والدهشة والاستقصاء.

أستذكر في هذا السّياق المؤلف ألبرتو مانغويل، الذي أمضى حياته في المكتبات، يقرأ ويصنّف ويدّون ويبتسم للعناوين وهو يؤرشفها. عناوين تجسّد ذاكرات الأفراد والجماعات. جعلته يخترع مهنة الكتابة عن القراءة، "القراءة مثل التنفس؛ إنها وظيفة حياتية أساسية. ليس لديّ شعور بالذنب تجاه الكتب التي لم أقرأها وربما التي لن أقرأها، أعرف أن لكتبي صبرًا لا ينفد، ستنتظرني حتى نهاية حياتي".

إذًا من هو كاتب "الأمير الصغير" وهل البراءة مجرّد فكرة ماورائية لا تشبه البشر، وهل الخوف من الموت جزء من الرؤيا الشاملة للكون؟ وهل النهاية هي عبارة عن عطل في محرّك وسط صحراء قاحلة؟

ولد أكزوبيري في عام 1900 في مدينة ليون الفرنسية، وقد فقد حياته خلال إحدى المهمات الاستطلاعية لفرنسا، في عام 1944. ومن أبرز أعماله الروائية: "أرض الرجال" و"طيّار الحرب" وغيرهما، وتبقى الرواية التّعبيرية والأهم عالميًا هي "الأمير الصغير"، والتي بيع منها أكثر من 80 مليون نسخة حول العالم، وترجمت إلى 230 لغة، وقد أقدمت على طباعتها 1300 دار نشر حول العالم. 

كان أنطوان طيّارًا ومحبًا للسفر، إضافة إلى كونه كاتبًا. أصبح اسمه رديفًا لقصّته المتخيّلة، والتي قد توحي بأنّها وكاتبها صدّقا بحدسهما فكرة الكوكب الصغير ورقمه 612، والذي لا يكاد يتّسع سوى لبركانين وكرسيّ ووردة ترمز إلى زوجته التي  تحتاج إلى الكثير من الرعاية والاهتمام لتكون سعيدة.

الأمير البريء في قصة أنطوان لا يحتمل فساد الأرض، فهو لا يحتاج في النهاية سوى لريّ وردته واجتثاث نباتات الباوباب المزعجة من حديقته، فهي الوحيدة التي تمثّل خطرًا حقيقيًا بزوال الكوكب في حال تركها تنمو، وكذلك يحتاج لتأمل مشهد غياب الشمس الذي لا ينتهي. إنّه يعلم مسبقًا بأن "الشيء المهم لا تبصره العين".

"ذات يوم شاهدت الشّمس تغرب أربعًا وأربعين مرة! أتعلم؟ حينما يكون المرء شديد الحزن، فهو يحب الغروب". هو الذي لم يكن يحلم سوى بشعاع الشّمس كي يزوّد وردته بأربع أشواك تحميها من العالم. الأمير الأشقر الذي يرتدي وشاحًا طائرًا، طلب من أكزوبيري العالق في الصحراء أن يرسم له عالمًا بديهيًا، أشياء بسيطة كالخروف والوردة التي لم يفهم عالمها، بعيدًا عن ألغام السياسة وألعابها البهلوانية الخطيرة التي تصدّع المجتمعات تاركةً الخراب في كل مكان، خاصةً وأنّه شهد مع جيله كل تبعات الحرب المدمّرة.

وقد أخبر الأمير قصصًا ذات طابع فلسفيّ عن كوكب يحكمه مغرور، وآخر يرى أن الجميع عبيدٌ له، حتى النجوم نفسها ووصف له شخصيات أخرى تُشبه الواقع ولكن برؤيا أشبه ما تكون بالخيال المكتنف بالألغاز والرموز.

أخذ العلم روح الطيّار الذي كان مولعًا منذ صغره بالمعادلات الرياضية والفيزياء، إضافةً إلى اهتمامه بالطائرات ومحرّكاتها، وقد نقل شغفه بمهنة التحليق  إلى كافة رواياته وحتى رسوماته الرمزية، التي كانت تحمل في طيّاتها أبعادًا نفسية وفلسفية، وضروبًا من الخيالات المستوحاة من فكرة العلو قبل السقوط المدّوي في رحم الأرض. وكأنّه احترف الكتابة متخيّلًا الأحداث أثناء قيادته الطائرة، مُعتبرًا أن الغوص بين الأرض والسّماء يحمل في ثناياه ألغازًا وعوالم وأبطالًا مجهولين، وكأن الكائنات البريئة غير موجودة سوى خارج قشرة الأرض وهي لا تحبّذ لقاء الثعالب البشرية.

إن صدمة تصديقهم توازي فراقه لوردته التي أتعبته، ومع ذلك فهو يتوق إلى عالمه الصغير المؤلف من زهرة ومنزل صغير وشمس تغيب طوال الوقت، حيث تبدو الوحدة والتّكرار والملل الملاذ الحقيقيّ في عالم مبنيّ على المصادفات القاتلة.


بعد وفاة والده إثر سكتة دماغية، شعر الكاتب بأنّه يعيش خارج طفولته: "يا له من منفى مضحك، أن يتم نفيك خارج طفولتك". إنّه طفلْ حزين في هيئة رجل، وربما كان لهذا الموت المعنويّ أثره الحقيقيّ في نسج "الأمير الصّغير" وألعابه الطفولية والهندسية التي تشبه الخروف الذي طلب منه أن يرسمه بحكمة، والقبعة التي حلّت مكان الحيّة التي تبتلع فيلًا، لأن الكبار لم يصدّقوها.

لقد خبّأ أنطوان الطفل ورسوماته ومحرّكات الطائرات المولع بصناعتها والدراجات التي يحلم بقيادتها إلى سفر متواصل فوق المخاطر وإلى روايات فوق اليابسة والبحار والألغاز النفسية الدفينة، "إن جمال الصحراء يكمن في أنّها تُخفي بئرًا في مكان ما"، فهل الإنسان يتوقع موته بين المغامرة وحلم الوصول إلى المجهول؟ هو المولع منذ طفولته بصناعة الألعاب الخطيرة، المتوقد في معادلات الفيزياء والكيمياء الكونية، الباحث في الطبيعة عن أصول الأزهار والنبات، الوفيّ للكتابة والرسم وعالم المسرحيات والغناء.

"الطيّار الحربيّ" هي إحدى رواياته التي بيع  منها 150 ألف نسخة في أميركا، نظرًا لأنها تدعو للسيطرة على الخوف والإحباط والمشاركة في الحرب، وهذا ما عزّز من بيع الكتاب، بالأخص بعد دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب بعد الضربة القاسمة التي تلقتها أميركا في بيرل هاربر، وبالطبع فإن التنظيرات السياسية والأيديولوجية والأخلاقية كانت نقاط ضعف الرواية وسط عالم النقاد، أمّا شعبيًا فقد كانت محرّضة للجمهور على القتال وتغيير الواقع.

"ولا شك في أنّني أحلم" كانت الجملة الأولى والصادمة، والتي تحمل في طيّاتها فكرة مذهلة عن أن الواقع في كثير من الأحيان أشد غرابة من السينما والروايات.

أمّا "القلعة"، روايته غير المكتملة عن والده المتخيّل، فتؤكد أن الرجل لم يجد من يرشده وهو طفل، فبنى بوصلته الخاصة وسار في الحياة، وفي قلبه أبٌ يشبه ملك السماوات، أوديب الملك الذي قتله الموت، فلم يستطع إخراجه من ذاكرته، فحلّت أضغاث الحنين إليه أفكارًا فلسفية منمّقة بالبراءة بديلًا عن الطفولة، وإسقاطات علمية من كواكب لمحها قبل أن يغفو في طائرة المحطمة.

هو الذي عانى في سن الأربعين، أثناء وجوده في أميركا، من عوارض القلق والاكتئاب الشديدين، على الرغم من شهرته ككاتب. أمّا حياته الزوجية فكانت غير مستقرة، وكانت زوجته تُدعى كونسويلو من السلفادور، وكان  الزوجان يعيشان كل منهما في شقة ويمارسان مغامراتهما العاطفية ويتشاجران باستمرار، ولم تتحسن العلاقة إلّا بعد سنوات طويلة، والوردة الحمراء لم تكن سوى زوجته التي تحتاج إلى الكثير من الصبر والدلال والحب لتصبح جميلة ومشرقة.

"الغرق في وسط المحيط أهون من الغرق في هذه الصحراء"، حلم الصحراء كان إحدى أدواته في الكتابة، هو الذي انتقل من كلية الفنون الجميلة إلى الهندسة المعيارية، ليلتحق في الخدمة العسكرية متعلمًا فن الطيران بعد أن عيّن في الدار البيضاء، وعلى الرغم من الجفاف والحرّ الشديد والسراب والملل المكرّرين إلى ما لا نهاية، فإن الصحراء بخطوطها وتعرّجاتها وسكانها المليئين بالغبار والرويّة، كانت بارزة في معظم رواياته ومنها "بريد الجنوب"، الفائزة بجائزة "فينيما"، وكذلك في روايته "طيران ليلي" التي لم تحظ باهتمام النقاد في الوسط الأدبيّ بسبب نظرتها الشمولية والتي تمجّد القائد على حساب الطبقة العاملة. أمّا "أرض البشر" فهي عبارة عن مقالات كان قد نشرها في إحدى المجلات الفرنسية، وقد تم توثيقها في هذا الكتاب.

"يمكنكم التوقف عن البحث، أنا من أطلق النار على أنطوان دي سانت أكزوبيري"- كانت هذه عبارة الجنديّ الألمانيّ الذي اغتال كاتبه المفضل أثناء الحرب التي لم تميّز بين القاتل والمقتول.

أثناء رحلة البحث عن الذات، يضيع الآخر وتفقد الحياة معناها، فربما الرصاصة التي أوقعت طائرته، أوجدته مع أميره الصّغير على كوكب مغاير، الإنسان فيه مسؤول عن نفسه وعن الحياة المحيطة به بعيدًا عن الرياء وشخصية الثعلب وألعاب المتورّطين في الحروب وسفك الدماء ونفي الطفولة خارج حدود الذات البشرية.

"كانت الزهور قد رأت يومًا قافلة تمرّ فقالت: النّاس؟؟ أظنّ أنّه يوجد منهم ستة أو سبعة. لمحتهم منذ سنوات، لكن لا أحد يعرف المكان الذي يمكن العثور عليهم فيه، تطوف بهم الرّيح لأنّهم بلا جذور وهذا يزعجهم كثيرًا".

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.