}

عشرون يومًا في دهب (2)

رشا عمران رشا عمران 30 يونيو 2024
يوميات عشرون يومًا في دهب (2)
(Getty)
لست سباحة ماهرة، ولا أعرف تقنيات السباحة، لكن شغف المغامرة كان دائمًا دافعًا لي للتجاوز. قبل هذه السنة كنت أكتفي، حين أزور دهب، أو مناطق الغوص في البحر الأحمر، حيث كثافة الأسماك والشعب المرجانية، بالوصول إلى منطقة أسميها أنا منطقة الأمان، هي المنطقة التي ما قبل التجاويف العميقة في البحر، والتي تظهر فجأة لك حين ترتدي قناع السباحة ذي النظارة المكبرة وأنبوب التنفس. لكنني هذه السنة قررت أن أتجاوز خوفي، وأتبع تلك الغواية التي تتحدث عنها صديقاتي، حيث الجمال الذي يخلب اللب، كان عليّ فقط أن أتأكد من أنني أمسك بأنبوب التنفس بأسناني جيدًا، وأنظر إلى انسياب الأسماك الملونة، وألاحق نوعًا من السمك أطلقت عليه ديما، صديقتي السورية التي قدمت من ألمانيا إلى دهب في إجازة خاطفة، اسم: سمكة الحظ، وهي سمكة متوسطة الحجم جسمها بنفسجي بالكامل، بينما رأسها وزعانفها صفراء. قالت لي إحدى القاطنات الدائمات في دهب إنهم يطلقون عليها اسم سمكة المهرج، باعتبار أن ألوانها تشبه ألوان لباس المهرجين. أعجبني الاسم، ماذا لو كان عالم البحر يشبه عالمنا؟ ماذا لو كان يوجد بين مخلوقات البحر مبدعون وشعراء وممثلون ومهرجون وعمال بناء ومهندسون؟ ماذا لو كانت هنالك مخلوقات هي التي تبني هذا البناء رائع الجمال للشعب المرجانية. ماذا لو كان هنالك رسامون يلونون الشعب بالأصفر والبنفسجي والأخضر والأبيض والأزرق، وبألوان أخرى تبدو أحيانًا كما الطيف لفرط رقتها؟ أتذكر القصص التي كنا نقرأها في طفولتنا عن ممالك البحر وملوكه وأميراته الحوريات اللاتي يزرن الشواطئ كل مدة، وتقع بعضهن في غرام شبان من البشر، فيطلبن الإذن من آبائهن ليتحولن إلى بشر كي يتمكن من العيش على اليابسة مع من يحببن. تحكي تلك القصص أن سكان ممالك البحر خالدون، وأن للتحول إلى بشر شرطًا هو التخلي عن ميزة الخلود التي عادة ما تقبلها الحورية في القصص تلك من أجل الحب. هل يستحق الحب تضحية كبيرة كهذه؟ حين كنت مراهقة كنت أتخيلني مثلهن أدفع أثمانًا باهظة من أجل الحب بسعادة، دفعت تلك الأثمان بعد أن كبرت قليلًا، ودفعتها بعد أن كبرت أكثر، اكتشفت بعد أن كبرت كثيرًا أنني دفعت أثمانًا مقابل الوهم، مقابل الحزن والألم، مقابل فكرتي عن الحب، عما قرأته عنه، عن الأثر الذي تركه عنه خيال المبدعين؛ هل اكتشفت الحوريات ذلك لاحقًا؟ هل ندمن؟ لم يحك لنا من اخترعوا تلك الأسطورة عن ماذا بعد؟ تنتهي الأساطير بانتصار الحب، حيث تعيش الحورية المتحولة مع حبيبها "بثبات ونبات، وينجبان صبيان وبنات"، لا نعرف ماذا سيحدث بعدها، لم أعرف أنا أيضًا أنني كنت أدفع مقابل حكايتي المخترعة، ما من أحد يعرف باكرًا أن الحب هو حكاية محض شخصية نصنعها لأنفسنا كي نستمر في الحياة؛ "نحن نحب ما نعتقده، وليس ما هو حقيقي. نحب الصور التي نصنعها في أذهاننا، وليس الأشخاص الحقيقيين". يقول إيميل سيوران ذلك عني وعنه وعنا جميعًا. لو أنني أفهم لغة السمك لكنت تكلمت مع تلك السمكة الطويلة التركواز البديعة القريبة مني، ربما كانت تعرف أخبار الحوريات، وماذا حدث معهن، هل يذكر التاريخ أن نبيًا تكلم مع السمك، كما تكلم بعضهم مع الطيور وحيوانات الأرض؟ ولماذا لم تخبرنا القصص عن حوريين بحريين وقعوا في غرام بشريات وتخلوا عن الخلود من أجل الحب؟ نادرًا ما قرأنا في قصصنا العالمية الشهيرة عن رجال تخلوا عن مزايا استثنائية من أجل امرأة، فعلها بعض ملوك التاريخ في الواقع، أما في القصص والمرويات فيجب أن تبقى الصورة عن الرجل ثابتة، قوي ويتحمل المسؤولية ولا يستسلم للغواية. تاريخ البشر ذكوري بامتياز.
أوقف استرسال أفكاري تلك مشهد مدهش، رتل أسماك مؤلف من حوالي سبع سمكات تقودهن الأكبر في الحجم، وكلهن باللون نفسه: لون اللباس العسكري المموه، كما لو أن دورية من الجيش تعبر الشارع أمامي لفرض السلطة، وحفاظًا على هيبة الدولة، يا إلهي هل يتبعنا العسكر حتى إلى هنا؟ هل هناك جيش سمكي، وقائد للجيش، وعسكر وأمن وقوات لحفظ النظام، كما هو على يابسة بلادنا؟ ماذا لو حصلت ثورة في البحر، ملايين الأسماك الصغيرة المهمشة ذات اللون المحايد تتحد وتقرر أن تثور في بقعة ما من بقاع هذا الأزرق هائل الحجم مطالبة بالعدالة! لكن عن أية عدالة نحكي في اليم، سمكة كبيرة واحدة قادرة في دقائق على ابتلاع آلاف السمكات الصغيرة! بالمناسبة، هل من مذكر لمفردة سمكة؟ السمك جمع سمكة وأسماك، وسمكات هي جمع الجمع، أم أن اسم سمك يطلق على هذا النوع من الكائنات والمفرد منها سمكة؟ ربما... النمل أيضًا مفرده نملة، ولا مذكر له. عالم الكائنات غريب تعجز عنه حتى لغة عبقرية كاللغة العربية.
أنهيت مشواري المائي لا لرغبة أو تعب، بل لأن المساحة الآمنة للسباحة امتلأت براغبي تعلم الغطس، حيث يختار المدربون أوقاتًا محددة يكون فيها انعكاس ضوء الشمس على الماء مناسبًا للمبتدئين؛ هذا الازدحام ينبه غريزة البقاء لدى الكائنات البحرية، فتختفي في جيوب الشعب المرجانية الكثيفة التي يمنع الاقتراب المباشر منها خشية كسرها وإتلافها. لحسن الحظ طبعًا.




عدت لأجلس مع صديقاتي في المكان الذي اعتدنا الجلوس فيه منذ وصولنا إلى دهب، قهوة ومطعم by the sea، وهو يقع في الممشى السياحي الشهير في دهب، ويقدم طعامًا إيطاليًا شهيًا، العاملون فيه بالغو اللطف ككل شيء في هذه المدينة الآسرة. كنت أحضرت معي من القاهرة زعترًا من صنع يدي أمي، اعتدنا كل يوم أن نأكل وأن نطلب من شيف المطعم خبز مناقيش زعتر من زعتر أمي وزيت زيتون من سيناء مع طبق من سلطة الطماطم والجرجير المنكهة بصلصة البيستو الإيطالية الشهيرة. هذا مزيج رائع من طعمات البحر المتوسط في قلب البحر الأحمر في سيناء التي تشتهر بالطعام البدوي، لحوم الأغنام، والسمن العربي، والأرز، مزاج مختلف تمامًا في الطعام، وثقافة مختلفة، لكن دهب مثلها مثل كل الأماكن السياحية في العالم تجمع المتناقض في الأمزجة وتخلطه في خلاطها العجيب لنأخذه نحن، غاوييها، ونستمتع بفيض النعم هذا.
اتصلت بي وأنا أتناول منقوشة الزعتر صديقة شاعرة فلسطينية من غزة تحمل جنسية دولة أوروبية، قالت لي إنها في دهب بالصدفة، أرسلت لها العنوان، وأتت إلينا ترتدي ثوبًا فلسطينيًا صيفيًا، وتحمل في عينيها وعلى أكتافها ثقل الحزن الذي يحمله أهل فلسطين هذه الأيام، زاده عليها أن عاشت حصار الحرب الأخيرة، إذ كانت في زيارة لأهلها في غزة حين قامت الحرب، وحوصرت معهم، ورفضت الخروج من دون أن يرافقها والداها المسنان، ولم تخرج فعلًا حتى وافقت الحكومة التي تحمل جنسيتها على استقبال والديها، وتسهيل خروجهم من غزة. حكت لنا عن الأهوال التي حدثت وتحدث، عن أشياء نعرفها من الإعلام، وأخرى لم نسمع بها، قلنا لها أن تحاول البكاء، وأن تترك لدمعها المحبوس أن يمتزج بماء البحر. أعرف أن ما قلناه لها لم يكن أكثر من طبطبة خفيفة لها، فأن تعيش ويلات الحرب والخوف من الموت والهرب منه من مكان لآخر، وخوفك على حياة أحبائك، وموت بعضهم أمام عينيك، وضياع وطنك إلى الأبد، هو بمثابة جبل من الحزن، وألم الفقد والخوف، وصدمة مهولة تحتاج إلى سنوات للتخلص منها، أو الحديث عن النجاة الحقيقية. نصبح ناجين حين تتخطى ذاكرتنا ما حدث ونواصل حياتنا من دون الالتفات إلى الخلف، هل نحن ناجون فعلًا؟ أقصد أبناء هذه البلاد البائسة المبتلاة بحروب من كل الأنواع والأصناف، خصوصًا المنطقة المسماة بلاد الشام والعراق، التي شهدت عبر تاريخها وما تزال حتى اللحظة تشهد من الأهوال ما يعجز عنه الوصف، منذ عصر الأمويين في دمشق، والعباسيين في بغداد، ثم المغول وعصور الانحطاط، ثم الاحتلال العثماني، والاحتلالات الأجنبية، وفرض الاحتلال الإسرائيلي، والانقلابات العسكرية، ثم حكم العسكر والحزب الشمولي، والحروب القومية، والحروب الأهلية، والحروب الدولية، والاحتلالات الإقليمية المذهبية، والثورات ونتائجها الكارثية، وما حدث ويحدث إلى الآن! أية لعنة ألقيت على هذه المنطقة من العالم، أية تعويذة شريرة؟!
بعد أن ذهبت صديقتي الفلسطينية، قلت لصديقتي المصرية إن علينا إعادة النظر في تقييماتنا السياسية لما حدث في التاريخ. فلولا اتفاقية كامب ديفيد التي رفضها غالبية العرب وقتها، واتهم الرئيس أنور السادات بالخيانة بسببها، وقوطعت مصر من معظم الدول العربية، لما كنا الآن هنا، ولما تمكن أي عربي من دخول سيناء كلها، بمن فيهم المصريون، أعاد السادات أرضًا مصرية إلي المصريين ما كانت لتعود أبدًا لولا اتفاقية السلام تلك، فمسار القضية الفلسطينية منذ ذلك الوقت، وحتى الآن، لم يتغير، هزيمة تلو الأخرى تلحق بالفلسطينيين والعرب، وإسرائيل تحتل مزيدًا من الأراضي، والأنظمة العربية كلها باعت وقبضت الثمن. الجولان تم حذفه من الخريطة السورية مثلما تم حذف لواء اسكندرون الذي احتلته تركيا، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني كان ثمنه إطلاق يد حزب الله وإيران في لبنان، ثم في سورية لاحقًا، ألا يستدعي كل ما حدث إعادة النظر في تقييم التاريخ وتقييم معاهدة السلام بعيدًا عن التخوين والشعارات الرنانة التي اعتدنا سماعها طيلة العقود السابقة؟ لم تجبني صديقتي، ولم تقل شيئًا، أعتقد أن المصريين يشعرون بتأنيب ضمير تجاه القضية الفلسطينية بسبب اتفاقية كامب ديفيد، وهو الأمر الذي يجعل من تفاعلهم مع ما يحدث حاليًا في غزة يتفوق على باقي الشعوب العربية، ويجعل من صديقتي صامتة أمام حديث كهذا. في الليل، ونحن نذهب للنوم بعد عشاء لذيذ، قالت صديقتي: أشعر أنني مضطرة للموافقة على ما قلتيه عن ضرورة إعادة تقييمنا للتاريخ، كنا جميعًا نتمنى أن نكون نحن على حق لا أنور السادات، وأن تكون القضية الفلسطينية قد سارت في مسارات مختلفة عما حدث، لكن واقع الحال وما نحن فيه يجبرني على موافقتك!

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.