}

لماذا خاف كثر من "منتدى تكوين"؟

رشا عمران رشا عمران 28 مايو 2024
آراء لماذا خاف كثر من "منتدى تكوين"؟
(الصور بتاريخ 5/5//2024 عن CBC Eygpt)

 

منذ الإعلان عن "منتدى تكوين الفكر العربي" في مصر أوائل الشهر الحالي والحملات الافتراضية والإعلامية العربية (المصرية على وجه الخصوص) ضده لم تتوقف ولم تهدأ ولم تخفت، ومعظمها تتهمه وأصحابه بالسعي لتدمير الدين الإسلامي وثوابته وتغيير عقيدة الأجيال القادمة والتبشير بالكفر والدعوة إلى الشذوذ والزندقة، وغيرها من الاتهامات المشابهة التي توحي، وكأنما مؤسسي هذا المنتدى آتون مباشرة من غياهب الجحيم حيث يقيم الشيطان الأكبر الذي أرسلهم لتدمير الأخلاق في مصر والعالم العربي. ووصلت الحملة ضد المؤتمر إلى حد التحريض على قتل المؤسسين أو مطالبة الدولة المصرية باعتقالهم، حتى أن صحيفة مصرية رصينة إلى حد ما لفّقت خبرًا كاذبًا عن اعتقال مؤسسي المنتدى والمشاركين المصريين فيه من قبل السلطات ووجهت لهم تهمة ازدراء الأديان والسعي لتدمير ثوابت المجتمع المصري؛ وطبعًا هذا الخبر عار من الصحة تمامًا، فلم تعتقل السلطات أيًا من المشاركين ولم توجّه لهم أي اتهام، هذا عدا عن أن الإعلان عن المنتدى تم في المتحف المصري الكبير، وهذا يحتاج إلى موافقات من الجهات السيادية المصرية، أي أن السلطات المصرية كانت على علم بالمؤتمر وسهلت إقامته.

"منتدى تكوين" هو "حدث ثقافي وفكري يهدف إلى تعزيز الحوار والنقاش حول موضوعات مختلفة قديمة وراهنة في الفكر العربي"، كما جاء في أدبيات المؤتمر؛ كما "يسعى إلى التشجيع على المراجعات النقدية وطرح الأسئلة الملحة حول الهوية والتجديد في الفكر العربي وفي الخطاب الديني، كما يهدف إلى تكريس مبدأ التسامح وقبول الاختلاف والانفتاح على الحوارات المختلفة حول العالم". وكل ذلك يبدو أمرًا بالغ الأهمية والضرورة في هذا الوقت الذي يعيش فيه عالمنا العربي أزمات وجودية وهوياتية عميقة تحتاج إلى حلول جذرية وملحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بغية اللحاق، ولو قليلًا، بركب التطور الحضاري والتقني الذي يخطو فيه العالم خطوات بالغة السرعة؛ أو محاولة تقبل التغيرات المجتمعية والحريات الجنسانية والجندرية التي وصل إليها العالم وغيرت من الأشكال التقليدية للأسرة، ومن مفهوم الجندرة القائم على جنسين مختلفين لصالح جنس مركب يشار إليه بلقب (هم) بدلًا من (هو) أو (هي)؛ أو موضوع الحريات العامة والديمقراطية وحق التعبير وحق الشعوب في تقرير مصيرها، خصوصًا بعد انكشاف أزمة حرية التعبير في الغرب إثر الحرب على غزة؛  ولكن طبعًا لن يخوض "منتدى تكوين" في مواضيع إشكالية كتلك المواضيع، رغم أهميتها الشديدة لمجتمعاتنا كونها هي ما يحدّد شكل هويتنا في المستقبل مثلما يحدّد مكاننا ووجودنا في العالم ودورنا فيه، هل سنكون مساهمين في أي تطور لاحق أم سنعاني من مزيد من التراجع والتخلف حتى نصبح كأننا غير موجودين لا كشعوب ولا كأفراد، و"ننسى كأننا لم نكن"؟!

لن تكون مسائل ملحة كهذه إذًا في قائمة "منتدى تكوين"، لأن غالبية مؤسّسيه لا يتمتعون بميزة استقلالية الرأي وحريته الكاملة، هم، في معظمهم، مؤيدون للأنظمة الاستبدادية العربية التي تشكل المسبب الأول للخراب المجتمعي الذي نعيش فيه، كما أن طرح مواضيع شائكة كالهويات الجنسية على سبيل المثال (حتى لو افترضنا أن مؤسسي "منتدى تكوين" يتمتعون بالجرأة اللازمة لطرح ومناقشة موضوع كهذا) في مجتمعات عربية ومن قبل باحثين أو مفكرين عرب هو بمثابة الانتحار المجتمعي والقضائي لما يشكله موضوع كهذا من مس بـ"القيم" المجتمعية السائدة التي يحميها الاستبداد بكل أشكاله؛ ولا يتمنى أحد لأي مثقف مثل هذا المصير، ذلك أن العواقب لا يمكن تقديرها علي كل المستويات.

وهكذا، مهما كبرت التطلعات أو الآمال المرجوة من أي حركة تدّعي التنوير أو التجديد مثل "منتدى تكوين الفكر العربي" أو غيرها، فإن النتائج سوف تكون متواضعة جدًا، ولن تترك أثرًا يمكنه أن يتجاوز الأثر الذي تخلّفه وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة أمام الجميع حيث تطرح فيها مواضيع وأفكار مختلفة وتتم مناقشتها والجدل حولها، وقد يصل الجدل إلى الاختلاف والخلاف الكامل، وقد يتم إطلاق الشتائم والاتهامات وتبادلها بين الأطراف المتجادلة في العالم الافتراضي، دون أن يتعدى الأمر الشتائم أو التهديدات الخلبية مهما تطور الخلاف في المسائل المجتمعية والدينية الحساسة والشائكة، ذلك أنه يمكن لأي شخص الدخول إلى العالم الافتراضي باسم مستعار وطرح ما يشاء من الأفكار الصادمة وسوف يكون في مأمن من العواقب الجسدية وسيكون متأكدًا أيضًا من أن أفكاره سوف تصل إلى العدد الأكبر من القراء والناس على اختلاف توجهاتهم، وهو ما لا يتاح لأي مؤتمر على أرض الواقع، حيث سيكون عدد الحاضرين المطلعين على ما يحدث محدودًا، وسيكون الحضور متجانسًا في الأفكار مما يفقد أي حدث كهذا حالة الجدل الصادمة واللازمة لتغيير المنظومة الفكرية. مؤتمرات كهذه تبقى في إطار التنظير ونتائجها سوف تكون بين أيدي نخبة مهتمة فقط.


ما الذي أفزع مسلمو العالم العربي (مصر وبلاد الشام ودول المغرب العربي) من تشكيل "منتدى تكوين الفكر العربي"، حتى قامت القيامة عليه وعلى مؤسسيه ولم يتوقف الحديث عنه في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة كما لو أن هذا المنتدى سوف يكون سيفًا يقصم ظهر الإسلام والمسلمين، مع أن لا المنتدى ولا مؤسسيه لهم تأثير معروف وواضح خارج نخب قليلة؟!

في ظني أن السبب يكمن في أن المؤتمر الأول لتأسيس المنتدى عقد في المتحف المصري الكبير، أي في مكان رسمي يخضع لسلطة الدولة المصرية، أي أن الجهات المصرية المعنية والرسمية لها علم بالمؤتمر وموافقة عليه طالما منحت مؤسسيه الموافقة على استخدام مكان له هذه القيمة الكبيرة كالمتحف المصري. تشكل السلطة عادة الجهة الأولى لحماية الدين، وفي العقود الأخيرة في مصر لطالما كان القضاء والجهات السيادية متشددة بكل ما يخص المساس بثوابت الدين أو قيم المجتمع السائدة، فجأة تصبح هذه الجهات هي الموافقة على عقد مؤتمر تعتقد العامة أن من أهدافه الأولى نشر الإلحاد كون بعض مؤسّسيه لا يخفون ذلك، وبعضهم الآخر يرفضون التقديس ويصرّحون أن كل مقدّس قابل للنقاش وللجدل والأسئلة. هكذا، فجأة، بالنسبة للعامة، أصبحت السلطة المدافعة عن الدين هي الحامية لمن يريدون نسفه! وكأن أمر نسف الدين، بالنسبة لهم، بات رسميًا وليس مجرد كتابات وأفكار في العالم الافتراضي، هذا التحول، الذي ظنه العموم في توجه السلطات، كان كفيلًا بأن يظهر كل الخوف من تغيير منظومة الوعي الجمعي لدى المسلمين والتي بدأت بالاهتزاز، أساسًا، مع المتغيرات الكبيرة التي حدثت في السعودية خلال السنوات الأخيرة، السعودية مصدرة "الصحوة" الإسلامية والفكر الوهابي، وصاحبة الأموال الضخمة التي رصدت لتكريس هذا الفكر في المجتمعات الحضرية الكبيرة كمصر وسورية والعراق والمغرب العربي وباقي دول العرب، وبلاد الحرمين الشرفين وقبر الرسول، وقبلة مسلمي العالم، تتحول خلال زمن قياسي إلى النقيض، هذا أمر لا يمكن استيعابه بالنسبة لعامة تعتبر دجالي الفضائيات من دعاة الدين علماء وتشكل أحاديثهم لهذه العامة دليل الحياة اليومي وبديهيات لا تحتمل النقاش ولا حتى طرح أي سؤال فيه تشكيك بما يقولون. وتدرك العامة أيضًا أن هؤلاء الدعاة لطالما كانوا محميين من قبل الجهات السيادية المختصة ما يعني أن العقيدة التي تمتلكها العامة محمية أيضًا من الجهات السيادية المختصة، فكيف إذًا تسمح نفس الجهات لمن يريدون نسف العقيدة من التواجد في مؤتمر في مكان رسمي تابع لها؟

تستشعر النخب الإسلامية المتشددة بخطر يهدد وجودها، هذا الخطر يكمن، كما أسلفنا، بالتغيير الكبير الذي حدث في المملكة السعودية وباقي دول الخليج التي لطالما كانت هي الممولة لفكر متشدد لم يبق منه سوى ما ترسخ في الدول العميقة للأنظمة العربية الأخرى، وهذا أمر حقيقي، إذ تمكن الفكر السلفي والمتشدد من المجتمعات العربية بأكملها حتى بات جزءًا من المنظومة التي تدير القضاء والأمن والإدارة والسياسة في هذه المجتمعات بتواطؤ كبير من الأنظمة الحاكمة التي لم تجد حليفًا لها أكثر طوعًا من المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، ولا فكرًا يتناسب مع قدرتها على التسلط أكثر من الفكر الديني المتشدد والرجعي. والمدهش أن نخب الفكر المتشدد التي تدعي عداءها للأنظمة بعد الربيع العربي هي التي تطالب الأنظمة الآن بمعاقبة من تظنهم يسعون لنسف الدين من مجموعة مفكرين ومثقفين لا يتجاوزون عدد اليد الواحدة، خصوصا بعد عجز هذه النخب أمام ما يحدث في دول الخليج وعجزها عن إيقاف التغيير السريع والمفاجئ والمذهل في الانقلاب الكامل هناك، وعجزها عن فهم التأقلم شديد السرعة للمجتمع السعودي والخليجي مع هذه المتغيرات. وخوفها من أن يحدث هذا أيضًا في المجتمعات العربية الأخرى ما يعني فقدانها لمكانتها وسلطتها بالكامل، فتسارع لاستعادة الترابط مع حليفها الاستبداد، حليفها الأزلي، وتسارع لاستنفار غرائز الشعوب وخوفها من أي تغيير فتضخم تجمعا كـ"منتدى تكوين" وتصفه بالمؤامرة لهدم الدين الإسلامي والثوابت المجتمعية، وتدغدغ نفوس الجهلة بربط حدث صغير كهذا بما يحدث في غزة وتساهم من خلال التضخيم المبالغ فيه في تحويل الأنظار عن أية قضية أخرى عبر بث الخوف والذعر لدى العامة والدهماء من المساس بثوابت دينية وبديهيات قد تخلخل توازنهم النفسي المبني أساسًا على خوف مركب ومتوّج بفكرة العقاب الإلهي.

هل يستحق مؤتمر كـ"تكوين"، مع القائمين عليه، كل هذا الضجيج المضاد والمبالغ به والذي تورّط فيه مثقفون وصحافيون ومبدعون عرب فضحت هذه الهوجة ضد المؤتمر تكوينهم النفسي الأصولي غير القادر على تحديد موقفهم من الأسئلة الوجودية الصعبة أو من قضية الحريات الفردية، وفضحت خوفهم من المساس ببديهيات ومسلمات يخشون طرح الأسئلة حولها مثلهم مثل العامة؟! 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.