عندما تدخل إلى الشارع الذي نسكن فيه، يستقبلك بيتنا، فلا بيوت في الشارع إلا هو، باب حديدي أسود، وعلى جانبيه دهان بالأخضر، مكتوب عليه: (من زار قبري وجبت له شفاعتي)، هذا من طرف اليمين، أمّا من طرف اليسار، فقد كتب: (مرحبًا بالزوّار الكرام)... نعم، فهنا بيت الحاج والدي الذي جعل منا رجالًا في هذا البيت، أطرق الباب وادخل، وسوف يستقبلك صوت الأب بالترحاب والسلام الحار، لأنّه غالبًا ما يكون جالسًا تحت شجرة المشمش، يبحث عن ظلّ للشمس، إنّه يدرج سيجارته من علبته الفضية، ويبلل الورق بريقه ويدرجها ثمّ يشعل النار فيها بعد أن يضع رجلًا فوق الأخرى.
في بيتنا ثلاث شجرات كبيرة، واحدة للمشمش، وأخرى للكباد، وثالثة للبرتقال، وعند مدخل الدار سوف تستقبلك شجرة الدالية وهي ترمي بعناقيدها، فهي ترمي نفسها بضراعة، هي ساحرة بالمنظر الذي يرنو إليك، عند ذلك ستعبر إلى أرض الديار التي تتكون من فسحة كبيرة وفي أطرافها توجد الأشجار المقمرة، وفي الجهة الشمالية توجد مصطبة فيها من كلّ أنواع الزهور والورود.
في الجهة الغربية توجد ثلاثة بيوت ومربعان (عندما يكون البيت عاليًا نسميه مربعًا) وقبوان، البيت الأول لجدتي العجوز، ومن ينام معها من أولاد خالتي، المربع الكبير لزوجة أبي، والمربع الصغير لأمي ومن معها من الأطفال الصغار، وكنت أنام معها إلى أن أدركت أنّ الوضع لم يعد مناسبًا، فنزلت إلى القبو الصغير أتنعم فيه وحيدًا وذلك بعد أن عزّلناه وجملناه فأصبح متعة للناظرين.
عندما تدخل إلى دارنا ستجد على اليسار درجًا تصعد عليه، عشر درجات لا أكثر، ستصل إلى الشرفة، وطولها حوالي 12 مترًا وعرضها متران، فإذا ما نظرنا منها إلى السماء، فإننا سنلمح القلعة من جهة الشرق، تبدو مهيبة ووقورة وحكيمة، ستجدها مربربة ثمّ تعلوها البيوت وقد بدت أسوارها المنيعة تقول لك: إني باقية على مرّ الزمان، وأنتم ذاهبون، يبدو نصفها الشرقي يسوّر السماء فتبدو السماء وقد أصبحت جبارة على الذين يريدون النيل منها.
في المربع الأوّل الذي هو لأمي وأولادها الصغار، ستجد كتبية صغيرة بها بضعة مجلّدات وبعض الكؤوس والأباريق والصواني التي تعتبرها أمي تراثًا قديمًا فلا تفرّط بها، فهي لا تقدم فيها وإن جاء إلينا ضيف عزيز، وإنما تقدّم له بالأشياء العادية التي نستخدمها، في صدر المربع توجد لوحة لرسّام، ربما يكون أوروبيًا أو وطنيًا، إنها لامرأة تحمل على رأسها علبة وترفع يديها الاثنتين إلى الأعلى وتمشي في غابة مليئة بالأشجار، في طريق ترابي نحو الأعلى، ترتدي ثوبًا لونه أسود ومريولًا، شعرها قصير ولا تضع غطاءً عليه، ويظهر في السماء قمر وبعض النجوم، يظهر أنّها تسير ليلًا أو عند غياب الشمس، هذه كانت من جهاز أمّي، وتحتها مباشرة صندوق كبير عليه تجليلة من الفرش واللحف المغطاة جيدًا وفوقها المخدّات التي تتربع بصمت وجمال، وبجانبه نافذة مسوّرة فقد كان أبي يخاف من اللصوص الذين لا يتورعون عن السرقة من خلال النوافذ، أمي تنام مع صغارها في المربع الصغير وأبي كذلك، حين يكون دوره في الموعد عندها، وفي الطرف الجنوبي نافذة أخرى تطلّ على القلعة أيضًا، وبجانبها كتبية أخرى فيها بعض الكتب التي كنت أجمعها منذ صغري، فأنا هاوي جمعها منذ قديم الزمان، ونافذة طويلة تطلُ على الدار.
المربع الكبير، هكذا كنّا نسميه، بابه أيضًا خشبي، وعندما تفتحه، تجد على اليسار كتبية، افتحها وسوف تجد مجموعة من الكتب التي عفا عليها الزمان، منها: كتاب الدميري عن الحيوان، ومسرحية لشكسبير، و"الوعد الحق" لطه حسين، وكتب أخرى نسيتها، يقدر عددها بتسعة، وكلّها تنعمّت بها الفئران، ومزّقتها من أطرافها، لأنها لم تجد طعامًا تأكله، ثمّ تجليلة الفرش المرتبة بعناية، تليها نافذة تطلُ على القلعة، وبعد ذلك نجد كتبية كبيرة وفوقها لوحة الأميرة، مقياسها متر بسبعين، وهي مؤطرة بإطار جميل من الزان.
هذه اللوحة اشتراها أبي من سوق الجمعة، وهي السوق التي يباع فيها كلُ شيء بثمن بخس، ولا أدري لماذا فضّل أبي شراءها، ربما أعجبته، وربما أشفق على البائع الذي لم يبع شيئًا طول النهار، جلبها إلى البيت، وتعاونا في تعليقها، أنا وأخي الكبير وأبي، لقد ابتعد أبي عنها بمقدار خمس خطوات ووضع يديه على خصره ونظر إليها، قال: إنها جميلة، وكان شبح ابتسامة يلوح على شفتيه.
اللوحة المرسومة هي لامرأة مليئة، على رأسها ما يشبه التاج، وتحته شعر طويل متماوج ينزل إلى نهاية اللوحة، صدرها ملحم، وهي بيضاء، على شفتيها بقايا ابتسامة، صدرها مليء، تلبس زبونًا أحمر مخرّج من كلّ أطرافه، هي لا تنظر إلى شيء، ويقول أبي: إنها تنظر إليه، أينما كان، صمدناها فوق الكتبية الكبيرة، وسددنا فيها نافذة صغيرة، بعد أن أغلقناها، ووقفنا نتفرّج عليها، فكانت فرجة للناظرين.
اللوحة التي وضعت في المربع الكبير، عندما سألت عنها، قيل لي: إنها لامرأة تركمانية، كانت تسكن في العراق (ديالي ـ الموصل ـ السماوة ـ أربيل) وأثناء الاحتلال الإنكليزي للعراق، لمح أحد الضباط هذه المرأة، فوقع في حبّها، هربت منه إلى بيتها، فطاردها، دخلت إلى البيت وأغلقت عليها الباب، الضابط سعى وراءها، ثمّ جاء يخطبها من أبيها، وقد جمع وجهاء البلد، وقيل له: يجب أن تسلم، وبالإيجاب كان ردُه، وحينذاك صارت الخطبة والعرس واجتمعت الناس، وأطلقوا الرصاص احتفالًا بيوم العروس، وكان أن انتقل الضابط إلى إنكلترا بعد عدّة شهور، فأخذها معه إلى هناك.
اشتاقت المرأة إلى ديرتها، وقد جاء الضابط برسام وأنجز له هذه اللوحة، وطبع منها مئات النسخ، ووزّعها، وقد أرسل معها عدة نسخ وزّعتها المرأة على محبيها وأصحابها وأهلها، فعلقوها على الجدران تيمّنًا بجمالها.
لكنّي أقول: إنّ هذا الكلام غير صحيح، هذه المرأة هي زوجة السلطان عبد الحميد، هذا ما قاله البائع في سوق الجمعة لأبي، واسمها فطوم المغربية، وقد رآها أحد رسله، فوصفها له، ونتيجة ذلك أنّه تعلّق بها وأحبها ولم يستطع النوم، ثمّ أرسل السلطان أعوانه إلى المغرب واستعلموا عنها وعرفوا بيتها، خطبوها للسلطان وجلبوها معهم إلى إستانبول، ثمّ دخل عليها السلطان عبد الحميد، وبعد حين جلب أحد الرسامين المشهورين إليه في قصر (دولمه بقجة) وطلب منه أن يرسمها، وضع الفنان كلّ علومه واستطاع أن ينجز الصورة ثمّ وزّعت في أرجاء السلطنة.
انتهينا من اللوحة، وجاء دور بيتنا، وقد وصلنا إلى المربع الذي فيه اللوحة، انتهينا منها، نصل إلى القبوين، الكبير فيهما ينام فيه أولاد أمّي الكبار، وأنا وحدي أتنعم في القبو الصغير، فيه خزانة، مقسومة إلى قسمين، القسم السفلي فيه البقج التي فيها الكثير من الملابس، والجزء العلوي فيه راديو فيليبس يعمل على الكهرباء، كنت أستمع إلى إذاعة صوت العرب من القاهرة، وبعد الساعة الثامنة والنصف أستمع إلى صوت فتح الذي يأتي عبر المذياع، ويبدأ بالافتتاحية التي تقول: أنا يا أخي/ آمنت بالشعب/ المقيد والمكبل/ وحملت رشاشي/ لتحمل الأجيال/ من بعدي منجل.