اختلف أهل الثقافة ومن يلوذ بهم حول أحد أحياء المدينة، وهو حي (الجميلية)، لماذا سمي الحيُ بهذا الاسم، هل هو نسبة إلى جميل باشا، أم لسبب آخر؟ عند ذلك تنطع أحد الشعراء ولفّ رجلًا فوق رجل، وقال بثقة: إنّ التسمية تعود إلى جمال باشا، الذي أعدم الأحرار، ثمّ عاد إلى جلسته الطبيعية، واحتدم النقاش حتى بلغ أوجه.
معروف أنّ جمال باشا الذي كان وزيرًا للبحرية وقائد الجيش الرابع العثماني في عامة البلاد، قد بقي في حلب لمدّة يومين قضاهما في فندق بارون ثمّ توجّه بالقطار إلى دمشق، وقد ورد في كتاب كامل الغزِي (نسبة إلى غزّة) أنّ جمال باشا عندما كان في حلب أصدر أمره إلى الوالي بأن يحمل الناس طوعًا أو كرهًا على العمل بإصلاح طريق المركبات في جهة راجو (تابعة لمنطقة عفرين) ليعملوا في طريق سكة حديد بغداد، فأرهق الوالي الناس وأزعجهم بالسفر إلى تلك الجهة البعيدة، فلقد أيقظوا السكان من فراشهم ليلًا وساقوهم إلى تلك الجهة، من دون غطاء ووطاء، فمنهم من سار مشيًا على قدميه ومنهم من ركب دابة وكانوا زهاء ألف إنسان.
ولمّا وصلوا إلى راجو لم يجدوا مأوى ولا طعامًا ولا أداة كالمعول والمسحاة يشتغلون بها. وجدوا هناك بعض ضباط، فلما رأوا تلك الجموع مقبلة عليهم بادروهم بالسبِ والشتم، وقالوا لهم: ما عندنا لكم طعام ولا مأوى ولا أدوات تشتغلون بها، فمن شاء منكم أن يرجع إلى حلب فليرجع ومن شاء فليبق هنا حتى يموت. فعادوا وهم في أسوأ حالة، وقد أصاب أكثرهم (الذرب)، وهو مرض يصيب المعدة فلا تهضم الطعام، وهذا من برد الخريف ووخامة الهواء، وغدت هذه القضية أول فلتة من فلتات جمال باشا وأوّل سبب موجب لنفرة القلوب منه.
كذلك ورد في كتاب الغزّي: تواردت الأخبار بأن "غزّة هاشم" دخلها الجيش العربي/ الإنكليزي، وكانت فرق الجنود التركية كامنة فيها، فخرجوا من مكامنهم وهجموا على فرق الجنود الإنكليزية فقتلوا منهم عددًا كبيرًا وأخرجوا الباقين منهم قسرًا، وأن البلدة قد خرِبت ولم يبق من أبنيتها إلا القليل، وقد نزح عنها أهلها وتشتتوا في البلاد، ثمّ في أواخر هذه السنة أعادت الجيوش الإنكليزية/ العربية الكرّة فاستولت عليها وعاد إليها أهلها ومن ذلك التاريخ بدأ العمار يعود إليها.
وقد وصل جمال باشا إلى حلب معزولًا من القيادة العامة، وألقى في بعض الأندية خطابًا أوهم به الناس أنّه لم يعزل، وأنّه عازم على السفر إلى الأستانة لبعض شؤون مهمّة، وأنّه عمّا قريب يعود إلى وظيفته، خوفًا من اغتياله، وكأن ولاة الأمر أدركوا أغلاطه وخطاياه فعزلوه.
ومن خشونة أخلاق جمال باشا أنّه كان يركب في البلد لبعض شؤونه فيحفّ به عدد وافر من الفرسان المسلّحين يسيرون على صورة رهيبة كأنهم في بلد عصى أهلها على الدولة أو خرجوا عن طاعتها. وممّا نفّر عنه القلوب انهماكه في الملذّات وإرصاده لنفسه عاهرة يواصلها ويصرف عليها النقود الكثيرة، في كلِ بلدة ينزلها من سورية وفلسطين، ومنها تسرّعه ورفقاؤه من زعماء الاتحاديين في إراقة الدماء، فلم تمض إلا أيام قلائل حتى وردت صحف بيروت تخبر بتعليق جماعة من الشبيبة العربية في بيروت اتهموا بالمروق على الدولة، ثمّ لم يمض سوى أيام حتّى سمع الكل بإلقاء القبض على جماعة نسبوا إلى جمعية عربية عُقدت في باريس تضم إليها زهرة من أبناء العرب مسلمين ومسيحيين، وكان رئيسهم عبد الحميد الزهراوي، وطالبوا بمنح البلاد العربية حكومة لامركزية على شرط بقائها تحت العلم العثماني، وقد حكم عليهم بقصاص القتل تعليقًا، وفي ليلة واحدة نفّذ هذا الحكم على واحد وعشرين شخصًا من رجال هذه الجمعية، علِق بعضهم في بيروت وبعضهم في دمشق، ولقد أخطأ الاتحاديون في هذه الحادثة، وإنّ إراقة دماء هؤلاء لم تكن إلا تشفيًا لغيظ جمال باشا من العرب.
هذا ما كان من أمر جمال باشا، وأمّا جميل باشا فهو برتبة فريق، فقد اشتد الغلاء واضطرب الفقراء وثاروا ومشى منهم جمهور إلى سوق المدينة، وأخذوا يخطفون المأكولات من سوق العطارين، وبعض البضائع من بقية الأسواق، فأسرع الناس إلى إغلاق حوانيتهم واشتد الخوف من حدوث ثورة عارمة، فأسرع جميل باشا بالنزول من الثكنة العسكرية مع ثلة من الجنود وهدّدوا الثوار فارتاعوا وسكنت الثائرة.
وهذا أوّل عمل اشتهر به جميل باشا بين الحلبيين فأحبُوه ومالت نفوسهم إليه، وقدموا له محضرًا عامًا يتضمن أن يكون واليًا عليهم، وأرسل هذا المحضر إلى إسطنبول، فقبله الباب العالي وجعله واليًا على حلب علاوة على وظيفته العسكرية، ثمّ تمّ عزله، والسبب أنّه شدّد على جماعة من أغنياء حلب فرفعوا إلى الباب العالي فاستجاب إليهم وعزله. وتمّ إحداث محلّة الجميلية بأرض الحلبة، فأخذ الناس بشراء الأراضي وتأسيس الدور، وكان قد أقيم بها قصران عظيمان من السنة الماضية، أحدهما لجميل باشا والثاني لعلي محسن باشا، القائد العام فوق العادة على حلب وأضنة وضواحيها.
يجلس المثقفون ومن لفّ لفيفهم في المقهى كلّ يوم، ويزداد عددهم في يومي الأحد والأربعاء، ويزيّن طاولتهم مدرّسو اللغة العربية لما لهم من صولة وجولة؛ إنّهم يتكلّمون في قواعد الإعراب وأوزان الشعر والأدب ممّا يجعل غيرهم يصمتون باعتبار أنّهم لا يفقهون في مثل هذه الأشياء، واليوم بدؤوا حديثهم في الجميلية ثمّ تابعوا في الموزون والمقفى، وماذا تعرب كلمة (كذا) في قول الشاعر، وهل طه حسين كان ممن يرفضون الشعر الجاهلي بكامله، إلى أن وصلوا إلى المذاهب الأدبية، فعرّجوا على الإتباعية فالكلاسيكية والرومانسية والسريالية، وقال واحد منهم، وكيف يتمُ تصنيع اللحمة بالكرز، وهنا انبرى أحد الشعراء الذي كان طويل القامة ويميل لونه إلى السمار، وشعره قد شاب كلُه، وقال: يفرد الخبز في الصينية ويقطع إلى قطع صغيرة ثمّ توضع اللحمة/ الكفتة ويكون عصير الكرز يغلي في القدر ثمّ يسكب على الصينية، الفنان الذي يرسم المناظر عن المدينة القديمة لم يعجبه هذا الكلام وقال: ما هكذا تصنع اللحمة بكرز، فقال بعضهم: تفضل هات ما عندك؟.
قال: يوضع الخبز على شكل مثلثات صغيرة في الصينية، وتكون مرقة الكرز في القدر تغلي، ويشوى اللحم على الفحم ويوضع فوق الخبز، ثمّ يرش فوقه عصير الكرز، ويوضع فوقه البقدونس، وبجانبه الفليفلة الحسكورية، ثمّ ينزل عليها، والكلام ممنوع.
اتفق الجميع على ما قدّمه الفنان وصاحوا: بوركت يا أجمل الفنانين، ونسوا أهلنا في غزّة الذين لا يجدون طعامًا يشبعهم ولا غطاء يلتحفون به، والصواريخ اقتلعت المباني من جذورها، والشوارع صارت ركامًا، والمستشفيات نسفت، والكنائس والمساجد أصبحت أثرًا بعد عين، واقتلعت الصواريخ الأشجار والحجارة، وقتلت البشر... فيا أهالي غزّة الكرام: لقد خذلناكم، والعرب جميعًا تآمروا عليكم، والعروبة التي أعدم جمال باشا الوطنيين الأحرار بسببها لم تعد موجودة، فسلامًا لكل سكان غزّة الكرام، واعذرونا فما باليد حيلة ونحن مثلكم مقيّدون بالأنظمة، اصبروا وصابروا فليس لكم من أحد...