}

عن آخر الجدات الفلسطينيات

أحمد طمليه 15 سبتمبر 2024
سير عن آخر الجدات الفلسطينيات
(محمد الجالوس)
توفيت بعد فترة بسيطة من عيد الأضحى هذا العام الحاجة أم يوسف. هي، بالمناسبة، والدة زوجتي، وجدة أبنائي، ولكني لا أكتب عنها لهذا السبب، بل للحديث عن الجدات العتيقات، اللاتي تهجرن من فلسطين في أعقاب نكبة 1948، أو إثر نكسة 1967. أكتب عن نوع نادر من الجدات، شاء القدر أن يعشن كثيرا، لتكون الواحدة منهن شاهدة على عصر بأكمله.
أكتب عن الجدة التي حافظت طوال حياتها على الإرث الفلسطيني، سواء الثوب الذي التزمت به، وكل ثوب يدل على المدينة أو البلدة التي تهجرت منها، أو على صعيد اللهجة، ففي فلسطين لكل بلدة لهجتها الخاصة، أو على صعيد العادات والتقاليد التي ظلت متشبثة بها. لقد أنجبت أم يوسف بناتا، أصبحن، لاحقًا، جدات. لكن، شتان بين جدة وجدة، فالجدات الحديثات نالهن ما نالهن من أنماط الحياة الحديثة: تغيرت لهجتهن، ملابسهن، حتى العادات والتقاليد، على عكس الجدات العتيقات.
من الصعب تحديد العمر الذي ماتت به الحاجة أم يوسف، فهي لا تملك شهادة ميلاد، كيف يمكن لها أن تملك مثل هذه الشهادة وقد تهجرت بالملابس التي عليها، على أرضية أنها عائدة بعد أيام بالكثير. وبالتالي، لا يمكن احتساب عمرها إلا وفق الأحداث التي مرت بها، ففي بلدتها الأصلية عنابة، قضاء الرملة، حين تهجرت منها عقب النكبة، كانت طفلة لم تصل سن البلوغ بعد، وفي أريحا حيث مكان هجرتها الأولى، وصلت سن البلوغ، وتزوجت، وقد أنجبت في أريحا ثلاثة أبناء، قبل أن تأتي النكسة، وتدفعها مع أسرتها إلى الهجرة إلى عمان، إلى حي نزال، الذي استقرت فيه إلى أن وافتها المنية. ربما تكون هي من جيل الجدة التي رأيناها عبر شاشات التلفزيون في فلسطين وهي  تحتضن شجرة بذراعيها حتى لا تقتلعها جرافات الاحتلال الإسرائيلي: المسكينة كانت تظن أن جنود الإحتلال يمكن أن يعيروا لحياتها اهتماما، إذا ما أرادوا جرف الشجرة التي تحاول أن تحميها.
رغم أن الحاجة أم يوسف أنجبت الكثير من الأبناء، إلا إنها عاشت أيامها الأخيرة وحدها، وحين يدعوها أحد الأبناء لأن تأتي للإقامة معه، كانت ترفض، وتكرر عبارة: "من خرج من داره يقل مقداره". ولا أدري إذا كان هذا القول يحمل بعدا سياسيا، أم أنه تعبير عن عزة نفس ما، أو هو ناجم عن ترسبات كثرة التهجير، التي جعلت أصحابها يتشبثون بالمكان الذي يستقرون فيه، فقد انهكهم الشتات.
تعلمت زوجتي من أمها الكثير، مما تعلمته أن لا تبخس العيد حقه، خاصة ما يتصل بفرحة الأطفال. كأنها كانت توصيها أن تفعل المستحيل من أجل أن يأتي العيد بكامل بهجته، ولا بهجة توازي فرحة الأطفال في العيد، ولا شيء يفرح الأطفال أكثر من ملابس جديدة، رائحة الملابس الجديدة، مشاكل الملابس الجديدة: هذا يحتاج إلى تقصير. الفستان تناسبه قصة شعر معينة. العيد بالتفاصيل الصغيرة الكثيرة التي تسبقه.
لم يكن لدي مشكلة مع ملابس عيد الأضحى، فالأولاد يكبرون على أية حال، والملابس الجديدة حق مكتسب، بحكم الحاجة إليها، إضافة إلى فرحة الأولاد بها. لكن في عيد الأضحى هذا العام كنت أدعو إلى عدم المجازفة بالكثير، فملابس عيد الفطر ما زالت "على طويتها"، لكن زوجتي تصر أن لا عيد من دون ملابس جديدة.
في هذا "الأضحى" اكتشفت أن زوجتي كانت تكذب فيما يتصل بإصرارها على ملابس جديدة لكون الأولاد كبروا، والملابس الجديدة مبعث فرحة، إذ لاحظت أن مبعث الإصرار، والدفع بالتي هي أحسن، لا علاقة له بفرحة الأولاد، بل بضمان رضى الأم حين تزورها  مع الأولاد صباح يوم العيد.
غريب إصرار أم يوسف على فرحة الأولاد في العيد، ولا تكتمل الفرحة إلا بملابس جديدة، كأنها كانت تعبر عن الحسرة الماثلة في صدرها، منذ أعياد كثيرة مرت عليها بعدم وجود فرحة لأي عيد. كأنها تلخص تجربتها مع قسوة الحياة، بالدعوة إلى الفرح. هذا الفرح الذي كان مستحيلا في حياتها.




بالمناسبة، لم يقتلها مرض، بل الوهن. قتلها التقدم كثيرا في العمر: العمر يخطف روح صاحبه إذا زاد عن حده، وكل شيء له حد، حتى حياة المرء لها حد ما لا يمكن تجاوزه، وإذا تم تجاوزه يصبح الموت أرحم.
أذكر أن الوهن أصابها كلها إلا الذهن، فقد بقيت حاضرة الذهن، تعرف الجميع ، هذ ابن من، وهذا حفيد من. مرة سألتها عن هجرتها، وكيف طاوعها قلبها أن تترك كل شيء وتهاجر؟ ردت بما يعني أن الناس كانت بسيطة، تصدق ما يقال لها. شعرت، في حديثها، أن الوعي الفلسطيني الآن، لم يكن متاحا آنذاك، لقد هاجروا بالملابس التي عليهم، اللهم مفتاح البيت الذي ظل معلقا على صدورهم حتى الممات. هربوا فرادى، حتى على مستوى الأسرة الواحدة، إذ كان التهجر عشوائيا، وكان الخوف، والغبش، وعدم وضوح الرؤية، مسيطرا على الجميع.
لم تكن تثق بخبز المخابز، وتصر على أن تعجن عجينها، وتخبزه بيديها. كانت تجلس على الأرض. تفرّج قدميها لتضع وعاء العجين بينهما، بما يساعدها على التحكم بالعجين بقدميها ويديها. ثم تصب الماء. صب الماء يتم تدريجيا، أي خطأ في صب الماء، زيادة أو نقصانا، يمكن أن يتسبب بإفساد العجين، وبالتالي خراب الخبز. في أثناء صب الماء تضع الخميرة، وتبدأ تعجن فيه. تظل تعجنه، تقلبه بيديها. إلى أن تكتفي منه. تغطيه، وتضعه جانبا حتى يستريح. يجب أن يستريح العجين قبل خبزه. إذا لم يسترح يفسد.
كنت أشعر، في أثناء مراقبتي لها، أن صب الماء على العجين مهمة ليست سهلة. يجب أن يصب بهدوء. قطرة... قطرة. كان جميلا مشهد الطحين حين يتحول إلى عجين، والأجمل مشهد العجين حين يخرج من الفرن على شكل أرغفة طازجة. لقد واظبت على هذا الأمر إلى أن هدها الوهن، فلجأت مجبرة، وليست مخيرة، إلى خبز المخابز الحديثة، والذي ماتت وهي تقول: ليس له طعم.
في أيامها الأخيرة، أصبحن بناتها يتناوبن على خدمتها، لكنها حين لفظت أنفاسها الأخيرة كانت وحدها تماما.
يقول الجيران: لقد أثقلتها الوحدة - تجلس على عتبة بيتها بالساعات، وهي تراقب الذاهب والقادم، وتفتعل كلاما مع مارق الطريق. لكن النهار لم يكن يمضي عليها إلا بطلوع الروح. طويل نهارها، يذهب رجال الحي إلى أعمالهم، والطلاب إلى مدارسهم، وتنشغل ربات البيوت في شؤون بيوتهم، وهي جالسة على عتبة دارها تراقب الذاهب والقادم.
يقولون: تصرفاتها غريبة في أيامها الأخيرة، تزور الجيران منتصف الليل، لا تطلب شيئا، فقط تجلس. تريد أن تسمع صوتا، أن تستأنس. صارت تخاف من عتمة الليل، تنام والباب مفتوح. يقولون إنها لا تنام، تبقى مبحلقة في السقف حتى يؤذن. تصلي، وتقرأ القرآن بصوت مرتفع، وما أن ينشق ضوء النهار، تخرج للجلوس على عتبة البيت.
وإذا كانت الحاجة أم يوسف قد عاشت أيامها الأخيرة وحيدة، فلم تكن هذه حالها قبل سنوات معدودات، بين جاراتها، ممن هن في سنها تقريبا. كانت تملأ الحي حضورا. دائما لديها ما تفعله. صاحبة واجب، كما يقولون، لا تتوانى عن المشاركة في أية مناسبة، فإذا كانت الحال عزاء تذهب للقيام بالواجب حتى لو كان في محافظة أخرى. لا تقصر في الأفراح والأتراح، منطلقة بذلك من إحساسها العميق بأهمية قيامها بالواجب. لم يكن يعيقها ما بات متداولا: الناحية النفسية، المزاج، وغير ذلك من أمراض العصر، فالواجب واجب بالنسبة لها، ولا يجوز عدم القيام به،  فذلك يصنف ضمن سلوك العيب، هذه السمة التي ترفض أم يوسف أن تلصق بها مهما كلف الأمر.
أرجو أن لا يفهم من كلامي أن أم يوسف كانت تفعل ما تفعل من قبيل حب الحياة، بل من قبيل الواجب الدفين داخلها بأن تعيش الحياة، فلا يجوز، في عرفها، أن تكون عابرا، بل يجب أن تكون حاضرا، ومؤثرا. جيل مختلف من الجدات الفلسطينيات. جيل عاش الحياة بطولها وعرضها، وحين نال منه الوهن اختار العزلة على الشكوى والأنين، واختار الصمت على الثرثرة، البعض كان يعتقد أن صمت هذا الجيل يعود إلى قناعته أن الشكوى لغير الله مذلة. لكني كنت أرى الأمر أبعد من ذلك، كنت أراه كأنه صمت مبعثه الترفع عن مجاراة تفاصيلنا، وعدم الرغبة بمشاركتنا انشغالاتنا الفارغة.
عاشت أيامها الأخيرة صامتة، تستطيع أن تقضي الليل بطوله وهي في حالة صمت،  كأنه شكل من أشكال رفض الانشغال بما هو راهن.
لقد أقيم لها بيت عزاء في جمعية عنابة الخيرية، وهي جمعية أقامها أهالي بلدة عنابة في عمان، وتكاد تقتصر مهماتها على استضافة بيوت العزاء لأهالي عنابة المتوفين، في مقابل رسم اشتراك سنوي بسيط، تدفعه كل أسرة تعود إلى بلدة عنابة قضاء الرملة. حضر العزاء كثيرون جدا، كانوا يسمونها "عمتي" وليس جدتي، كأنها أخت الرجال جميعا، وهذه مسألة لها دلالة في العرف الاجتماعي، فلفظ أخت الرجال يدل على القوة، في حين يمكن أن يدل لفظ جدة على الوهن والضعف، وقلة الحيلة.
ماتت الحاجة أم يوسف، ولا أستبعد أن تكون آخر الجدات الفلسطينيات، ابنة جيل قبض كثيرا على الجمر، من دون أن ينال ذلك من معنوياته العالية. جيل سوف نفتقده، لن يعود له وجود بيننا. جيل ذهبي أنجب أجيالا يصل صوتها اليوم إلى السماء... 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.