}

"خرافة الزمن الجميل": حول تفكيك شبكة مخدّرات ذهنية

أحمد طمليه 4 سبتمبر 2024
استعادات "خرافة الزمن الجميل": حول تفكيك شبكة مخدّرات ذهنية
د. غسان عبد الخالق وكتابه "خرافة الزمن الجميل..."

عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في عمّان، صدر للسارد والناقد والأكاديمي الأردني د.غسان عبد الخالق كتابه الثالث والثلاثون "خرافة الزمن الجميل: نحو ثقافة تنويرية جديدة" في مائة وأربعين صفحة من القطع الكبير.
اشتمل الكتاب على خمس وأربعين مقاربة في الأدب والنقد والسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والفن، من منظور ثقافي تفكيكي يهدف إلى إعادة النظر في كثير من البديهيات والمسلّمات السارية، جرّاء استسهال الركون إلى التفسيرات المريحة. وقد مثّل تقويض فكرة الزمن الجميل في هذا الكتاب المركز المحوري له، انطلاقًا من قناعة الكاتب بأن هذه الفكرة ليست أكثر من إعادة إنتاج لفكرة الوقوف على الطلل، واستدعاء طيف المحبوب، وظلال الزمن المواتي.
ومن أبرز المفردات/ العناوين التي اشتبك الكاتب من خلالها مع مفاصل الواقع الثقافي والفكري والسياسي الراهن: الثنائيات المزيّفة في الثقافة العربية، لماذا أخفق الفيلسوف العربي؟ ما العمل بخصوص التفاهة والتافهين؟ لماذا يتهاوى تقدير الأكاديمي العربي لذاته؟ أخلاقيات العصر السائل، كيف تنبّأ أورويل بما حدث ويحدث؟ من المسؤول عن اغتيال الرجل العاشر في الوطن العربي؟ ولم يدخر الكاتب من خلالها وسعًا للتواصل مع القارئ والمثقف العام، على نحو حواري ونقدي يهدف إلى إحلال عدد من القيم الأخلاقية والمنهجية والجمالية التنويرية.
ومما جاء في مقدمة المؤلف للكتاب: إن مصطلح (الزمن الجميل) يمثّل أبرز المجازات الثقافية والفنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحياة العربية. ولن أُبالغ إذا قلت أيضًا: إن هذا المجاز يمثّل أخطر أنواع المخدّرات الذهنية؛ لما ينطوي عليه من خداع مقصود، أو غير مقصود، للذات الفردية والجمعية، على حد سواء، ولما يتدثّر به من غلالات الرومانسية المفرطة، التي لا تعدو كونها طبقة سميكة من الحنين المَرَضي الجارف إلى الماضي، على حساب التعايش مع استحقاقات الحاضر والمستقبل بشجاعة وإقدام.




وبلغة خبراء علم النفس؛ فإنني أزعم أن (الزمن الجميل) هو الاستعارة التي أطلقها المخيال العربي المعاصر على (منطقة الراحة) التي برعت المجتمعات العربية المعاصرة في التمترس خلفها، لتسويغ خوفها الشديد من الإقدام على ما ينبغي الإقدام عليه ــ فرديًا أو جمعيًا ــ من تحديث ومواكبة ومبادرة وابتكار. وهي التي تضخّم مخاطر الاتجاه إلى الديمقراطية السياسية والحرية الفكرية والتنوّع الثقافي على الصعيد الجمعي، كما تضاعف شعورنا بالذنب كلّما امتلكنا الرغبة في مساءَلة الماضي القريب، أو البعيد، وتدفعنا إلى الاكتفاء بالثناء على (فردوسنا المفقود) الذي لو أننا امتلكنا الجرأة الكافية لأدركنا أنه لم يكن مثاليًا تمامًا، أو خاليًا من العيوب، كما نتوهم، ولأدركنا أيضًا أن حاضرنا ــ بدوره ــ سيغدو لمن يأتي بعدنا زمنا جميلًا ومنطقة مريحة.
ويستدرك المؤلف قائلًا: ما تقدّم لا يعني أننا ملزمون بمقاطعة الماضي، بل يعني أننا ملزمون بتعشيبه وتطهيره من الأعشاب الضارة التي حجبت أشجاره المثمرة الباسقة. وما تقدّم لا يعني أيضًا أننا ذاهبون في هذا الكتاب باتجاه سلسلة من المواعظ الاجتماعية، بل نحن ذاهبون باتجاه طائفة من المقاربات الثقافية المتنوّعة قصدًا، لنجرّب الإطلال على كثير من القضايا والظواهر والمسائل الراهنة على نحو صادم للقارئ الكسول، وعلى نحو يهدف إلى إخراج القارئ من شِباك الزمن الجميل وأسرِ منطقة الراحة، والإلقاء به في حمأة الأدب والنقد الأدبي تارة، وحومة الفكر والفلسفة تارة، والاقتصاد والاجتماع تارة، وساحة الفن تارة.




وكان الدكتور نبيل حداد قد قدم للكتاب، ملخصًا أهم ما تتميز به كتابات د. عبد الخالق من حيث فرادة الفكرة، سلاسة العرض مع عمق المعنى، الحجم المتوسط المطلوب، وضوح الفكرة، التشويق، إزالة الحواجز مع القارئ.
سألت د. غسان:

(*) تصف الزمن الجميل بالخرافة، رغم إنك في أغلب كتاباتك تعود إلى أزمنة سابقة، وما ندر أن تكتب عما هو راهن. هل تفسر الأمر؟
- حتى لو وافقتك بخصوص أن أغلب جهودي تعود إلى أزمنة سابقة؛ فإنني أحسب أن كل جهودي منصبّة على محاورة الحاضر والعمل على استشراف المستقبل، من خلال تفكيك الماضي وتشخيصه بكل صوره؛ من منظور عقلاني. أي أن ما يحكم علاقتي بالماضي هو النقد من أجل البناء وليس الحنين المرضي المبتذل. فعلت ذلك على سبيل المثال لا الحصر، في كتابي "الدولة والمذهب"، الذي طبع ثلاث مرات، بحكم راهنيته الشديدة، وانطلاقًا من حقيقة أن صراع السلطة والسلطة الموازية كان وما زال (وربما سيظل) مقتل الوجود السياسي العربي، ما دام ينحو نحوًا استئصاليًا.

(*) أليس من المبالغة القول إن الزمن الراهن قد يصبح جميلًا في وقت لاحق، رغم ما فيه من انحدار ربما لم يشهد له مثيلًا؟
- حسنًا؛ أعطني مثالًا واحدًا في الأربعينيات أو الخمسينيات أو.. أو؛ يمكن الانطلاق منه للزعم بأننا عشنا زمنًا جميلًا في القرن العشرين. الأوضاع الصحية والاجتماعية والتعليمية والسياسية، كانت على درجة كبيرة من الرثاثة، ومع ذلك؛ فما زلنا نستعيد القرن العشرين على نحو تمجيدي، بل إننا نستمتع باستعادة معاناتنا الشخصية، على صعيد الأكل والشرب والملبس، بوصفها الفردوس المفقود. ولا حاجة بي للتذكير بحقيقة ضياع فلسطين، وتبخر مشروع الوحدة العربية، والإجهاز على كل صيغ المجتمع المدني العربي. المسألة، إذًا، لا تتجاوز كونها شكلًا من أشكال الدفاع النفسي الفردي والجمعي، نهرب من بشاعة الحاضر عبر إسباغ هالة من القدسية على الماضي. نحن فعلنا ذلك، ومن يأتون بعدنا سوف يفعلون ذلك بالتأكيد.

(*) كتبت الرواية، حدثنا عن تجربتك معها؟
- كتبت الرواية من أجل متعتي الشخصية في المقام الأول، وتأكيدًا لحقيقة أن الرواية تحديدًا يمكن أن تكون مختبرًا إنسانيًا وتاريخيًا وفكريًا رفيعًا، إذا اعتنينا فعلًا بما تتطلبه من جماليات عالية. الرواية، بهذا المعنى، ليست مغامرة تجريبية لذات التجريب، لأن التجريب الشكلاني ليس أكثر من ألعاب لغوية بائسة.

(*) ما دمنا نتحدث عن الأزمنة، كيف تصف المشهد العربي الراهن؟
- هو الأكثر جدارة بمسمّى الكوميديا السوداء من دون منازع. وإذا كنت تقصد المشهد الثقافي؛ فهو رهين الإعلام والتسويق والعلاقات العامة من جهة، ورهين وسائل التواصل الاجتماعي من جهة ثانية. الشعبوية بأسوأ صورها تتربّع على قمة هرم آليات الكتابة والتلقّي. والمثقف العربي بوجه عام، في حالة استسلام لهذه الشعبوية، ومشارك نشيط في إنتاجها، بالصورة والكلمة المسموعة والمكتوبة.

يذكر أن د.غسان عبد الخالق (الزرقاء 1962) حاز درجة الدكتوراه في النقد من الجامعة الأردنية. يعمل حاليا أستاذًا للغة العربية وآدابها في جامعة فيلادلفيا الأردنية. شغل في جامعته عددًا من المواقع الإدارية، منها عميد كلية الآداب والفنون، ورئيس تحرير مجلة "فيلادلفيا" الثقافية، وعميد شؤون الطلبة، وعميد كلية الآداب والعلوم التربوية. كما تولى رئاسة جمعية النقاد الأردنيين لدورتين متتاليتين، وعمل مستشارًا لمؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية، ورئيس هيئة تحرير مجلة "أفكار"، التي تصدر عن وزارة الثقافة الأردنية. تدور مؤلفاته في حقول السرد والفكر والنقد والحوار. وكان آخر إصدارته كتاب "بلاغة السلطة"، بعد أن سبقه بكتاب "بلاغة الشارع".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.