}

حرب الإبادة على غزة: حتى لا نعتاد المشهد

أحمد طمليه 24 أغسطس 2024
آراء حرب الإبادة على غزة: حتى لا نعتاد المشهد
(Getty)

فور اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، صدرت دعوات من قبل عدد من المثقفين والمهتمين تدعو إلى ضرورة أن لا نعتاد المشهد، وأن لا يتحوّل الموت المعلن في غزة إلى خلفية لحياتنا، أي أن نعيش حياتنا على النحو المتعارف عليه، ونتابع عبر الشاشة ما يحدث في غزة، من دون رد فعل يوازي هول ما يحدث. وقد يصل الأمر بنا، إذا طال الأمر، أن لا نتابع ما يجري، وننصرف إلى شؤوننا، مكتفين بما نسمعه من أخبار مبتورة من هنا وهناك.
وبدت هذه الدعوة في محلها بالنظر إلى التجارب السابقة، فالقضية الفلسطينية ليست وليدة اللحظة، فقد مرّ عليها ما يزيد عن سبعة عقود، تخللت هذه العقود أحداث، ومجازر صهيونية تقشعر لها الأبدان، وكانت الناس تتابع، بداية، ما يجري بحرارة عالية، ثم تدريجيًّا تخفت هذه الحرارة، إلى أن تنطفئ، ويترك الشعب الفلسطيني وحده يلاقي مصيره.
قلت إن هناك الكثير من الأحداث الجسام التي واجهت الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكانت نتيجة تضامن الناس في البداية، ثم سرعان ما يتم اعتياد المشهد، وفقدانه تأثيره المطلوب في وجدان الشعوب العربية.
من أوضح الأمثلة على ذلك الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينيات، التي كانت بمثابة صرخة شعبية سلمية، ليس في وجه المحتل فقط، بل نحو كل عربي حر شريف بأن يتحمل مسؤوليته إزاء ما يجري. وقد بدأت الشعوب بالتضامن المطلق مع أحداث الانتفاضة، والمتابعة الحثيثة، ثم ما لبثوا أن اعتادوا المشهد، وعادوا أدراجهم إلى روتين حياتهم العادية، وترك أمر الشعب الفلسطيني إلى مصيره، وهو تجاهل مطالبه، وعدم الأخذ بالتضحيات الجسيمة التي يتكبدها.
ولم يقتصر الأمر على اعتياد المشهد، بل راح يأخذ منحنيات خطيرة وعجيبة، إذ شاع، آنذاك، شعار (دعم الانتفاضة) أي نشاط تقوم به جهة ما ينسب إلى أنه يقام دعمًا للانتفاضة، من دون أن توجد صلة مباشرة ما بين النشاط المقام والانتفاضة: أمسية شعرية دعمًا للانتفاضة، جلسة عصف ذهني دعمًا للانتفاضة، محاضرة ما دعمًا للانتفاضة، عشاء تقشفي دعمًا للانتفاضة. لقد حضرت إحدى هذه الدعوات لعشاء تقشفي، ولاحظت أنه مقام في فندق خمس نجوم، حضرته الطبقة المخملية، ذات الدخل المرتفع، وكانت الأجواء احتفالية، لا تقترب من نبض معاناة الانتفاضة، وأهل الانتفاضة، وما يصيبهم من ويلات نتيجة انتفاضتهم السلمية، أبطالها أطفال يواجهون الدبابات بمجرد حجارة. وقد زاد الأمر عن حده كثيرًا لدرجة بات مبعث سخرية بالنسبة إلى كثيرين، بل إن كاتبًا ساخرًا كتب في صحيفة رسمية يومية مقالًا سماه (الامتعاضة) يشكو فيه من هذه الأساليب التي تتم دعمًا للانتفاضة، كأنه يقول لهم: اخجلوا على دمكم، فالانتفاضة لا تحتاج مثل هذا الدعم، بل تحتاج إلى تضامن من نوع مختلف يدعم الانتفاضة حقًا. وإن مثل هذه الأنشطة لا يفهم منها إلا أنها محاولة أن تبرئ كل جهة ذمتها، وتدعي أنها تفعل ما عليها.
أذكر، في حينه، تشكلت اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة، وقد قامت هذه اللجنة بابتكار فكرة لجعل الانتفاضة حية في وجدان الناس، وذلك بإنشاء "صفحة الانتفاضة" وهي صفحة أسبوعية، يشرف عليها د. أسعد عبد الرحمن بمشاركة لجنة من خيرة الكتاب والمثقفين. وتم الترتيب مع عشرين صحيفة عربية لنشر هذه الصفحة فيها، وقد رحبت هذه الصحف بالفكرة. وقد عملت سكرتير تحرير لهذه الصفحة، التي راحت تستقطب أبرز الكتاب العرب للكتابة فيها.




في البداية، كانت الصفحة تظهر في عشرين صحيفة عربية، وبعد وقت ليس طويلًا، راح عدد الصحف الملتزمة بنشر الصفحة يتقلص، إلى أن وصل إلى رقم الصفر، ولم تعد أي صحيفة ملتزمة بنشر ما يرسل إليها، فكان أن توقفت هذه الصفحة. لا أعرف سبب حماسة الصحف، في البداية، إلى الفكرة، ثم عزوفها عنها. لكن لا أستبعد أن يكون السبب اعتياد الناس على مشاهد الانتفاضة اليومية، وبالتالي رؤيتهم أن لا جديد في الاستمرار في نشر الصفحة.
لقد شعرت، حينها، بالأسف على توقف الصفحة، رغم بعض التحفظات لدي عليها، إذ كنت أرى أنها تخاطب الرأي العام العربي، لتقول له ما يجب أن يكون على وعي مطلق به، من حيث حق الشعب الفلسطيني بالنضال من أجل تحقيق مطالبه المشروعة، أو صعيد تأكيد مدى همجية الاحتلال، وتجاهله المطلق للحق الفلسطيني. كما كانت لي ملاحظة على ما يكتب في الصفحة، فهو يمجد الانتفاضة إلى حد مبالغ به، الأمر الذي كان له انعكاسه الخطير على القارئ العربي، الذي وجد فيما يكتب ما يريح باله، ويجعله ينام ليله الطويل، كأن الحجر سوف يحرر فلسطين من احتلال غاشم، ربما لم يشهد التاريخ مثيلًا له. وكانت النتيجة أن انعكس الأمر على حال الفلسطيني، الذي كتب عليه أن يبقى وحده، وأن يترك أمر استثمار منجزاته إلى ساسة، قد لا يمتلكون سعة الأفق اللازمة، حيث انتهى الأمر بالانتفاضة ومنجزاتها إلى "اتفاقية أوسلو" التي نرى جميعًا اليوم أنها كانت مجرد حبر على ورق.
أعود إلى ما بدأت به مقالي حول السابع من أكتوبر، والعدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، والدعوات من قبل البعض إلى ضرورة أن لا نعتاد المشهد، وأقول إن الناس لم تعتد المشهد، وما يحدث في غزة يتصدر اهتمامات الأردنيين، لكنه عدم اعتياد سلبي، ناجم، بالدرجة الأولى، عن كون المشهد ليس عاديًّا حقًا فكيف يمكن اعتياده. وأقصد بالسلبي أنه دفع الكثيرين نحو الشعور بالإحباط والألم، والتحسر على الحال التي وصل لها أهلنا في غزة. وأعتقد أن أصحاب دعوة عدم اعتياد المشهد، لم يقصدوا هذا النوع من عدم الاعتياد، بل قصدوا التعامل بإيجابية مع المشهد، عبر مبادرات شعبية تدعم فعلًا، وليس قولًا المشهد الفلسطيني الراهن.
قبل أيام ذهبت إلى صالون حلاقة قريب لحلاقة شعري، وجدت الحلاق مثبت جهاز التلفاز على قناة الجزيرة، التي تواصل بث أخبار غزة. قال، من دون أن أسأله: أنا حريص على إبقاء التلفزيون مثبتًا على غزة وأخبارها، رغم أن البعض راح يمتعض من رؤية هذه المشاهد، بحجة إنها باتت توجع قلوبهم. وتابع، من دون أن أطلب منه ذلك: واجبي أن نبقى على تماس مع ما يحدث في غزة، فهذا أقل واجب يمكن أن نقدمه.

فلسطينيون من قطاع غزّة ينتقلون بسبب القصف الإسرائيلي الهمجي غير المسبوق (Getty)


لاحظت في أثناء حديثه وجود فتى يافع، لم يرتسم الشارب على وجهه بعد، يتابع باهتمام ودقة ما يقوم به الحلاق في أثناء قص شعري. سألته: من هذا الفتى؟ قال: إنه ابني، جعلته يترك المدرسة ليتفرغ لتعلم المهنة مني. تساءلت، في سري: كيف يمكن أن ينصر مثل هذا الحلاق فلسطين، وهو عاجز عن نصرة ابنه، دافعا به إلى ترك المدرسة، والتفرغ لتعلم مهنة الحلاقة، إنه بذلك يسهم في تجهيل جيل، في حين أن فلسطين تحتاج إلى التعليم، والوعي، ذلك أنها أمام احتلال لن يصده إلا الوعي العربي، وخاصة على الصعيد الشعبي، وليس مقصات حلاقة تبحث عن فتات رزقها.
ومن باب شعوري بضرورة رفع معنويات الناس، كتبت على صفحتي: "لن تستمر الأمور في غزة على هذا النحو، صدقوني لن تستمر، ثمة تحول سوف يحدث من حيث لا تتوقعون، وفي قريب عاجل، أقرب مما تتصورون"، لأجد تفاعلا لافتا مع ما كتبت، كأن الناس تحتاج هذا النوع من الكتابة حتى ترتفع معنوياتها، ووجدت من يسألني عن الحيثيات التي استند إليها، كأنني منجم أعلم ما في الغيب، ولدي من المعلومات ما يخفى على غيري، علما أنني لست منجما، وليس لدي بنك معلومات، اللهم هذا يقيني: لا يمكن للحال أن تستمر طويلا على هذا النحو، لا يمكن أبدا، لأن ذلك يتنافى مع أبسط أبجديات الإنسانية، إذا كان  في الدنيا خير.
أكثر ما استوقفني في التفاعلات، والتساؤلات، أن الكثيرين ينتظرون حلا يأتيهم من السماء، علما أن الحل لا يمكن أن يأتي إلا من الأرض، وعلى الأرض، وهذا ما على الناس أن تدركه، وهذه مهمة المثقف العربي في هذه المرحلة، أن يرفع من معنويات الناس، فهذا وحده ما يمكن أن يثمر، ويفيد في حرب الإبادة الصهيونية المستعرة ضد غزة، وكل فلسطين. ولا أعني بذلك الكتابات التضليلية، بل الكتابات التنويرية التي تحتفي بالجوانب المضيئة مهما قل شأنها، كما هو حال الكاتب معن البياري، حين وجه في إحدى كتاباته التحية إلى المسرحيين في غزة، الذين يقدمون مسرحا يشكرون عليه لأهلنا المنكوبين هناك، وكما يفعل الكاتب زياد بركات، خبرة عشرين عاما في العمل بقناة الجزيرة، في كتاباته المهنية التي يدعو فيها إلى كيفية نقل الخبر فنيا، حتى يصل الخبر إلى مداه، وكما يفعل الكاتب علي سعادة في تركيزه على منجزات المقاومة الفلسطينية، مستمدا ومعطيا أملا ما. وهناك الكثير من الكتاب الذين ينحازون إلى خيار إنارة شمعة خير من لعن الظلام. والأمثلة كثيرة، لا تعد ولا تحصى حول ما يمكن أن يكتب في ظل حرب الإبادة الجارية على قدم وساق في غزة، مما قد يسهم في تكريس ثبات لدى القراء، وعدم  الانهيار، وتحويل عدم اعتياد المشهد من بعده السلبي إلى بعد إيجابي.
أقول هذا وأنا مدرك صعوبته، فالمصاب أليم... أليم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.