}

هل يلتقي المؤلف شخصياته في الواقع؟

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 26 نوفمبر 2020
آراء هل يلتقي المؤلف شخصياته في الواقع؟
فرانس كافكا ( 1883-1924) بريشة الرسام ماثيو لاكا (كندا)

لا أعرف إنْ كان أحدٌ من كتّاب العالم قد التقى بشخصية من شخصياته الروائية ذات يوم بالمصادفة؛ كأن يكون ذلك في مقهى مثلًا أو دائرة حكومية، في قطارٍ أو طائرةٍ أو مطارٍ أو رصيفٍ أو محل حلاقة أو عيادة طبيب أو سوق شعبية، وأجرى لقاءً وتعارفًا ومحادثة طويلة أم قصيرة؛ ثم تواصل معها في أيام تالية بعيدًا عن روايته أو كتابه. وبالتالي تصبح هذه الشخصية صديقًا له، بعد إنجاز الكتاب وبعيدًا عنه!
هذا خيال طبيعي ليس غريبًا تمامًا، وفرضية من شأنها أن تعزز العلاقة بين المؤلف ومجتمعه. وليس هذا بكثير على كاتب يغور ويغوص حتى القاع ليستخلص الكثير مما لا يراه القرّاء. فمثل هذا اللقاء المقترَح هو تضمين لعلاقة ممكنة وجميلة لو حدثت بالفعل. وبالتالي سيكون الخيال جزءًا من رصيد الواقع؛ فالخيال هو الواقع مكثّفًا بتعبير كافكا.
لو حدث ذلك لكانت مفارقة سردية ممتعة تعني الكثير. وفيما تعنيه أن المؤلف (وهنا الروائي على وجه التخصيص) عبرَ الواقع إلى الخيال السردي. وهو الخيال الفائق كما يسميه النقاد الذي يعيد (صناعة) الواقع ويؤهله إلى غير ما كان عليه. فيتحول إلى ما هو غريب ومجرد وعجائبي وفنطازي لا يحفل كثيرًا بالواقع الأساسي، كما عند أغلب كتّاب أميركا اللاتينية، فالشخصيات الروائية هي شخصيات اجتماعية بالنتيجة مهما تنوعت واختلفت وتقاطعت مع النسق الجمعي العام. وبالضرورة هي إنتاج واقعي لأي مجتمع ينتمي اليه الكاتب. لها ما لها وعليها ما عليها برصيد إنساني مشترك. وبالتالي فإنّ مصادفة مثل هذه ممكنة جدًا، لكن في مجتمعات يكبر الوعي بها وتكبر به وتدرك بأن الكتابة ضمير عام يتخطى فردانية المؤلف. وهذه احتمالية في تطابق شخصية واقعية مع شخصية ورقية مرتّبة بحروف وسطور ونقاط وفوارز ووصف خارجي وداخلي. فمثل هذه الشخصيات هي التي تُدوّر السرد كأداة تجنح لأن تكون ممثلة لوعي الكاتب وقدرته الفنية في رسمها. ومن ثم فهي التي تخلق النص وتمرر أفكار الكاتب عبرها، لتكون رافدة لبنية الشكل وإحدى عناصر وظيفة السرد المهمة التي لا يتخلى الكاتب عنها. ولهذا لا نجد إطلاقًا روايات من دون شخصيات، ولا سردًا لا تتحكم فيه هذه الكيانات الاجتماعية المختلفة. فالإرسال السردي هنا إرسال عام، لكن الاستقبال فردي في الغالب، والعام من الإرسال يكون ورقيًا في العادة. أما الاستقبال فهو متباين فرديًا في المجتمعات وبشكل واقعي. وإذا كانت حياة النص متخيلة في الكثير من الكتابات، فرصيدها الواقعي كبير ومتسع. ولهذا نقول متسائلين: هل يمكن أن نلتقي ككتّاب بشخصياتنا الورقية المتخيلة في الواقع؟



عندما يتطابق الواقع والخيال
الظرافة في هذا أن الحقيقيين من الشخصيات الروائية هم إنتاج الخيال، لكنهم موجودون في الواقع. وهذا الواقع ينتج المعنى السردي المطلوب، عبر الشخصيات المتخيلة التي تتكاثر في الواقع وتؤسس خريطة وجودها زمنيًا ومكانيًا.

من اليمين: وليد سيف وأمين معلوف وياسمينة خضرا  

















غير أن السرد قد يبتعد أو يقترب بمقادير معينة عن هذين العنصرين؛ طبقًا للثيمة المتاحة الداخلة في البناء الفني، والتي تعوّل كثيرًا على أدوار الشخصيات في رسم الواقعة أو الوقائع السردية، سواء كانت معروفة في المجتمعات أم هي نتاج الخيال حسب. فلكل شخصية روائية طريقتها في الأداء الفني؛ امرأةً كانت أم رجلًا؛ وفي أي مستوى ثقافي، فهي بالنتيجة تمثل بيئتها وواقعها وظروفها الشخصية التي خرجت من الظروف العامة، واتجهت إلى السرد لتمارس ذات الدور الاجتماعي أو الحياتي اليومي بشكل تفصيلي أو جزئي؛ لكن من خلال موشور حساس هو وعي المؤلف وتفهمه لموضوعاته وأهميتها في رسم صورة موسعة من خلال شخصية واحدة أو أكثر. لذا نرى تنوعًا في الشخصيات الروائية من حيث طاقاتها السلبية والإيجابية، لأنها ستُظهر الجوانب الخفية في العلاقات السردية من داخل البنية الاجتماعية وما فيها من مشكلات سياسية وإيديولوجية وفكرية وثقافية عامة.

الظاهر من النصوص السردية ليس هو باطنها. والشخصيات الأساسية والهامشية في المنجز الروائي عادة تظهر بأدوار محددة ومرسومة بدقة بالنسبة للكاتب
الماهر؛ ماركيز ويوسا ودوستويفسكي ونجيب محفوظ وعبد الرحمن
منيف وكافكا وكونديرا وجبرا إبراهيم جبرا وربيع جابر.. كأمثلة



وهكذا يتوخى الكاتب أن يكون معنيًا بشكل أساسي في رسم وبناء شخصياته ويتعايش معها على مدار الكتابة الطويلة. بل ويعرفها تمامًا عندما تقترب منه أو تبتعد في توافقات فنية لا يعرفها إلا هو. وبالتالي علينا أن نعرف أن المؤلف يجتهد في تقديم وصفي لشخصياته الأساسية والهامشية ومدى قدرتها على المضي إلى نهاية السرد، وأنه يكون معنيًا برسم الأبعاد السيكولوجية من داخل الشخصية، لإظهارها أمام القارئ حتى يبرر تصرفاتها داخل المتن السردي، كما يبرر حضورها الهامشي أو الكلي تبعًا لوظيفتها الجمالية والفنية. لأن الشخصيات كائنات حية تتحرك بمجسات المؤلف في كيفية فهمه الفلسفي للشخصية وبنائها الوظيفي الذي يقود السرد إلى نهايته.



عندما تطير الشخصيات الروائية
الشخصيات متنوعة ومختلفة. هامشية ورئيسية. متحركة وساكنة. مثقفة وبائسة. غنية وفقيرة ويائسة. متعلمة وجاهلة. مشاكسة ومجرمة. عاهرة وشريفة ودينية متطرفة. معرفية وأمية. متناقضة وإشكالية. فلسفية وإيديولوجية وسياسية. صغيرة وكبيرة.. تمتهن شتى الحرف والوظائف. وتنظر إلى الحياة بمنظورها الشخصي، لا بمنظور المؤلف. فالمؤلف وسيلة تحويرية واستعادية لتلك الشخصيات المتعددة. بل وخيالية أيضًا ولابد أن تكون كذلك. فالفن لا يطابق الواقع كثيرًا. وهو أكثر منه إمتاعًا وألمعية. على أساس أن الواقع هو كما حدث. والفن هو ما حدث وما لم يحدث وسيحدث. أي هو إعادة ضبط الواقع وتخليقه من جديد بمستوى يوازيه ويتفوق عليه جماليًا مهما كان وتحت أي ظرف.

مثل هذه الشخصيات الواقعية الكثيرة، المختلفة، المتنوعة، لا بد وأن يُعاد تأهيلها فنيًا   بمبضع ماهر لجراحة المجتمع؛ وهو مبضع المؤلف؛ عبر شخصياته المشار إلى معظمها. والمبضع هو الوعي الكامل للحدث الاجتماعي، المتفرع منه التاريخي والسياسي وغيرهما؛ لهذا من البداية تساءلت عن إمكانية اللقاء مع هذه الشخصيات الروائية - وليس الواقعية- على أساس كونها مُعادة الخلق والتصنيع الفني، فالشخصيات الاجتماعية كما هي متوفرة كمعين دائم الجريان للمؤلفين. غير أن الشخصيات المُعاد تخليقها هي النادرة في الواقع، بوصفها مُصفّاة من الداخل. وفيها جزء ما من المثالية السردية التي يحرص المؤلفون على إسباغها عليها.


لا أعرف إنْ كان أحدٌ من كتّاب العالم قد التقى بشخصية من شخصياته الروائية ذات يوم بالمصادفة؛ كأن يكون ذلك في مقهى مثلًا أو دائرة حكومية، في قطارٍ أو طائرةٍ
أو مطارٍ أو رصيفٍ أو محل حلاقة أو عيادة طبيب أو سوق شعبية،
وأجرى لقاءً وتعارفًا ومحادثة طويلة أم قصيرة؛ ثم تواصل
معها في أيام تالية بعيدًا عن روايته أو كتابه



الظاهر من النصوص السردية ليس هو باطنها. والشخصيات الأساسية والهامشية في المنجز الروائي عادة تظهر بأدوار محددة ومرسومة بدقة بالنسبة للكاتب الماهر؛ ماركيز ويوسا ودوستويفسكي ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وكافكا وكونديرا وجبرا إبراهيم جبرا وربيع جابر.. كأمثلة؛ بما يعني أن بعض خطط الكتّاب قد تستكملها لحظات الكتابة ومفاجآتها الثرية التي لا تخطر حتى على بال المؤلف. وهذا ما تتحكم به الشخصيات الثانوية والرئيسية وأدوارها في تتبع الأثر السردي. وعلى سبيل المثال الغريب جدًا في (مائة عام من العزلة) ترتفع ريميديوس الجميلة إلى السماء بشكل غير متوقع ومن دون تمهيد سردي مسبق. وعندما سُئل ماركيز عن هذه اللحظة السردية الغريبة والمفاجئة قال بما معناه أن شخصية ريميديوس شغلت مساحة من السرد ولا بد أن ينتهي دورها، لهذا (طارت) مع الرياح القوية أعلى السطح وهي تنشر ثياب الغسيل.
هذه حيلة عجائبية مركزة جدًا في التعامل مع الشخصيات الروائية. ومع أن الرواية لم تأت فيما بعد على ذكر ريميديوس، إلا أنها بقيت شخصية ذات حضور مميز في ذهن القارئ. فهل سيلتقي ماركيز بريميديوس بعد أن طارت في السماء؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.