}

كورونا وتحولات الممارسة الدينية.. ما بين الإيمان وغريزة البقاء

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 6 أبريل 2020
آراء كورونا وتحولات الممارسة الدينية.. ما بين الإيمان وغريزة البقاء
الفضاء الرقمي يتيح للمؤمنين مزيداً من الحرية الفردية (CNN)
يعيش سكّان الأرض جميعهم حدثا واحدا، منذ أن اجتاح وباء covid-19 مجتمعات وثقافات متنوعة، تشابهت استجاباتها في مواجهة الوباء تارة واختلفت تارة أخرى. بحث البعض عن حلول غيبية، وآخرون، في دائرة تخصصية أضيق، بحثوا عن حلول علمية، بينما لم يحرك البعض ساكناً في انتظار ما سيتضح لهم من مستقبل غامض، بينما أمسك غيرهم بمشرط التشريح النظري محاولاً القبض على التحولات القادمة في عالمهم ما بعد كورونا.
أثار تفشي الوباء أسئلة وجودية كبرى، وأسس لتحولات في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، ودفعت الأزمة الراهنة العديد من الزعماء الدينيين إلى مناشدة أتباعهم، ليس فقط لاتخاذ احتياطات السلامة، ولكن أيضاً لتوظيف إيمانهم للمساعدة في مواجهة التحديات الصحية والاجتماعية والاقتصادية المقبلة. وقامت السلطات الدينية والدنيوية بإغلاق أماكن العبادة أو تقييد التجمعات العامة، وغيّر العديد من المؤمنين عاداتهم الدينية لتجنب انتشار الفيروس.
وامتدت آثار كورونا إلى الممارسات الدينية لدى مئات الملايين من الناس محدثا فيها تغيرات عميقة، لكن ذلك لم يخل من صراع احتدّ بين غريزة البقاء وما يتصل بها من خوف، وبين الإيمان، ليتبادل فيها طرفا الصراع المواقع من حيث الانتصارات والهزائم في معركة الاستحواذ على سلوكنا الاجتماعي واستجابتنا أفرادا وجماعات لتفشي الوباء. تلك المعركة التي لم تحسم بعد.

أثار تفشي الوباء أسئلة وجودية كبرى، وأسس لتحولات في الاجتماع والسياسة والاقتصاد (NBC News)

















العلاقة بين الخوف والإيمان
هل يسير الخوف المتأتي عن غريزة البقاء والايمان جنبا إلى جنب، أم ينفي حضور أحدهما وجود الآخر؟
الإجابات في الأديان تبدو متضاربة، فيذهب الكتاب المقدس إلى أن الإيمان والخوف يمثلان طرفي نقيض، وما الخوف إلا دليل على ضعف الإيمان؛ فبعد أن قضى المسيح يوما طويلا في الكرازة والوعظ وإتيان المعجزات، انصرفت الجموع، وركب مع تلاميذه السفينة لتعبر بهم إلى الضفة الأخرى. نام المسيح من شدة التعب، وفي تلك الأثناء هبّت عاصفة قوية "فكانت الأمواج تضرب السفينة حتى صارت تمتلئ" (مرقص، 4:37). استشعر التلاميذ الخطر، فذهبوا ليوقظوا المسيح وقالوا له "يا معلم! أما يهمك أننا نهلك؟" (مرقص، 4:38). ويخبرنا الكتاب المقدس أيضا عن بطرس الذي استطاع أن يمشى مع الرب فوق الماء، ناسياً كل قوانين الجاذبية، فلما تذكّرها وخاف، سقط، فوبخه الرب قائلاً "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟" (متى 14:31).

للقرآن الكريم رأي آخر، إذ يربط بين الإيمان والخوف، ما أن يزول الثاني حتى يزول الأول: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"... وحين زالت العاصفة وزال معها خوفهم... "فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ" (العنكبوت 65). فالاطمئنان يقود إلى الكفر على عكس الخوف الذي يقود إلى الإيمان؛ "وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُوراً" (الإسراء :67)
قد يفقدنا الخوف الثقة واليقين، ويدفعنا إلى التردّد والشك، مما يهدد الإيمان، ويستدعي سلوكا وقائيا ممثلا في الأنانية والعدوان تجاه الآخر، بينما يبدو الإيمان، وما يرافقه من طقوس العبادة، إجابة شافية عن الكثير من الأسئلة الوجودية، لا سيما في الحالات التي يبدو فيها هذا الوجود مهددا أمام كوارث يصعب تفسيرها. ومهما بدا أن الخوف في حالات المرض والهلع من الأوبئة أقوى من الطمأنينة النفسية التي يوفرها الإيمان، فعلينا ألا ننسى أن المحرك الأساسي للإيمان هو الخوف من الموت، هنا تبقى الفرصة متاحة لالتقاء الإيمان بغريزة البقاء.



العقيدة والمعتقد الشعبي
يتمسّك الناس بالمعتقدات الشعبيّة، أكثر من تمسكهم بالعقيدة الدينية الأصلية، وقد تختلط تلك المعتقدات بالعقيدة فيصعب التمييز بينهما. وعموما، يتعلق الناس بالمعتقد الشعبي أكثر من تعلقهم بالتعليم الديني الشرعي الذي قد لا يكون متاحا إلا لدارسيه أو المتعمّقين فيه، أضف إلى أن هذا الإطار العقائدي المجرد، ثابت لا يزيد ولا ينقص بحسب أهواء الناس وعواطفهم، بينما يميل عامة الناس إلى ما هو عاطفي وبشري وملموس، فيتعاملون معه من خلال حواسهم وبطريقة عملية دون تكلّف عناء مزيد من التأمل النظري. لذا يفضّل كثير من المؤمنين التخفّف من الإطار العقائدي الراسخ، وما يتصل به من براهين جدلية. أما بالنسبة لزعماء دينيين فإنهم يتمسّكون بالعقل طالما كان يخدمهم، وسرعان ما يتخلون عنه حين يخذلهم، ليعلنوا في لحظة معينة أن المسألة "مسالة إيمان تتجاوز العقل".

وحين يطغى الخوف على العقل، يشعر الناس أنهم بحاجة أكبر إلى اليقين المريح الذي يمنحه الإيمان المطلق، والتفسيرات غير المعقّدة للعالم التي يقدمها الزعماء الدينيون؛ مصورين كافة المشكلات على أنها مظاهر للصراع الأزلي بين الخير والشر. هذه التفسيرات، إضافة إلى الموروث الشعبي، تشكّل عدة أساسية في مواجهة الوباء وتفسيره. يتحلى هذا التفسير بمرونة عالية، ويبقى قابلا للشط والمط بما يتناسب وتغيرات الحالة المفسّرة.
لذلك، لم يكن مستغربا أن يرى مؤمنون مسلمون في تفشي الوباء في الصين انتقاما إلهيا، وعقابا لها على اضطهادها مسلمي الإيغور. ولكن ما أن وصل الوباء إلى ديار المسلمين حتى تم تصويره على أنه ابتلاء من الله طال مجتمعات المسلمين بعد أن تزعزع إيمانها، وتراخت في تطبيق شرعه. حاول آخرون استثمار الحدث لتأكيد فكرتهم حول الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية، ليبدو الحجر الصحي إعجازا علميا سبق النبي في الدعوة إلى تطبيقه، مستندين إلى أحاديث نهى فيها عن الدخول والخروج من الأرض التي اجتاحها الطاعون. البعض رأى في انتشار الوباء إحدى علامات الساعة أو مقدمة لظهور المهدي المنتظر، وبشر أحد الحريديم، وهو وزير الصحة الإسرائيلي يعقوب ليتسمان (حزب "يهدوت هتوراه")، الخاضع للحجر الصحي بسبب إصابته بفيروس كورونا، بأن المسيح المنتظر سيأتي في عيد الفصح ويخلص اليهود، وربط حاخام يهودي آخر بين انتشار العدوى بالفيروس وبين مسيرات المثليين في إسرائيل. واعتقد مسيحيون في لبنان أن تُراب مرقد القديس مار شربل له قدرات علاجية ضد الوباء، وتداولت وسائل إعلام خبرا مفاده أن مشفى بيروت استلم أول حفنة من ذلك التراب لبدء العلاج. وخرجت في الإسكندرية مسيرات بشرية تهتف وتكبر لإزاحة كورونا. وبينما وجد الهندوس في بول البقر علاجاً للمرض، أعلن قس مسيحي أن علم الوقاية من كورونا هو من علوم الشيطان.
هكذا انتعشت التفسيرات الشعبية الغيبية، وتنوعت بانوراما الوصفات العلاجية السحرية. لكن الخوف الذي طغى على العقل لم يسيطر فقط على المؤمنين، فغير المؤمنين ليسوا منطقيين دائما، وهم أيضا يصدقون أفكارا سحرية، أو يتعلقون بالطب البديل، أو غيرها من فنون الطاقة والباراسيكولوجي التي ينسبونها إلى العلم ومناهجه.



حصانة الإيمان
اعتقد مؤمنون هنا وهناك، أنهم محصنون ضدّ المرض، وأن إيمانهم كفيل بتجنيبهم العدوى، فلاذوا به وبطقوسهم الدينية، وداوموا على دور العبادة. لم يمض وقت طويل حتى تأكد هؤلاء أن إيمانهم وحده لم ولن يحّصنهم، وأن covid-19 كغيره من الأمراض يصيب المؤمنين وغير المؤمنين، وكل أولئك الذين اكتفوا بالواقي الروحي دون تدابير وقائية عملية، وثبت أن التجمّعات الدينية كانت من الأسباب المبكرة لانتشار العدوى في العديد من البلدان.

اجتماع لكنيسة شينشيونجي في كوريا الجنوبية، وتجمع لجماعة تابليغي في الهند، والعبادة الإنجيلية التي استمرت خمسة أيام في فرنسا، كانت بؤر الانتشار المبكر للفيروس في تلك البلدان. وتم فرض الحجر الصحي على 40.000 شخص في 20 قرية في ولاية البنجاب بعد أن تسبب واعظ سيخي، عاد من رحلة إلى إيطاليا وألمانيا، في تفشي الفيروس، حين تجاهل النصائح المتعلقة بالحجر الذاتي، وزار تجمعاً كبيراً للاحتفال بعيد ديني. ونقل الوباء إلى قطاع غزة 3 من الدعاة الإسلاميين عادوا حديثا من باكستان يحملون الفيروس بعد حضورهم مؤتمرا دينيا. ومن قُم المقدسة انتقلت العدوى الى بلدان مجاورة، وتفشى المرض في إسرائيل انطلاقا من مدارس الحريديم الدينية وغيرها من مجتمعات اليهود الأرثوذكس، الذين يشكلون 12% من مجموع السكان، وشكلوا أكثر من 50% من مجموع المصابين بالفيروس. وفي ماليزيا ارتفع عدد الإصابات بفيروس كورونا بعد أن أقام أحد المساجد في كوالالمبور احتفالا دينيا لمدة 4 أيام، في شباط/فبراير الماضي، حضره حوالي 16 ألف شخص. وقعت معظم هذه الأحداث عندما كانت الحكومات لا تزال مترددة في فرض الحظر الصحي خشية فوضى قد تتسبب بها ردود أفعال المؤمنين السلبية على ما يرونه خدشا من قبل الحكومة لعواطفهم الدينية.
مع تعاظم الخطر، طعنت الإجراءات الحكومية المتعلقة بالحظر الصحي وجدان المؤمنين من مختلف الطوائف والأديان، حين فرضت إغلاقا للكنس والكنائس والمساجد، وألغت طقوسا ومناسبات دينية جماعية؛ يومية وأسبوعية وموسمية. وبدا أن فيروس كورونا قد يغيّر طريقة أداء الناس لطقوسهم الدينية الجماعية في المستقبل المنظور.
هناك مرجعيات دينية ساندت الإجراءات الحكومية، فنشرت بطريركية اللاتين في القدس إرشادات لنظام العبادة داخل القدّاس الإلهي عن بعد، تحت عنوان "ليتورجيا خاصة في زمن كورونا" شملت مواد ليتورجية (طقسية) ونصوصا للعائلات لمتابعة الاحتفالات الليتورجية لآحاد الصوم، ودرب الصليب، وعيد البشارة، وغيرها.

وقدّم رجال دين مسلمون عذراً شرعياً للمتخلفين عن أداء الفرائض الدينية الجماعية، بدعوى أن التخلّف عنها أفضل من تحمّل المسؤولية عن مرض أعداد كبيرة من المصلّين، وهو ما يعدّ أيضاً إثماً عبر التسبّب بالأذى للناس، ورأى هؤلاء أنه في حال التعارض بين قيمة حفظ الشعائر، وقيمة حفظ الحياة، فإن حفظ الحياة مقدم على حفظ الشعائر، موضحين أن هذا الإجراء يتعلق بسياقات تنزيل الأحكام في الواقع ولا يعني إلغاء الحكم التكليفي. الكنيسة القبطية في مصر علّقت معظم النشاطات، وبدلا من عقد قداس كبير، قررت عقد أكثر من واحد صغير بعدد محدود من المشاركين. أما الكنيسة المارونية في لبنان، فأمرت القساوسة بمنح المصلين رقائق بسكويت بدلا من وضعها على ألسنتهم، وتم استبدال الماء المقدس بالمُطَهِّر. أغلق المسجد الأقصى، وخلا الحائط الغربي في القدس من المصلين اليهود، ودعا الحاخامات اليهود لتجنب تقبيل حجارته. وفي مكة، وهي المركز الروحي للعالم الإسلامي، علقت السلطات قبل حوالي شهر أداء مناسك العمرة، وبدت ساحة الطواف خالية تماما من المعتمرين.



الطقس: عاطفة جياشة عبر تقنية التحكم بالزمن
لا يستقيم نظام الدين، أي دين، دون طقوس عبادة جماعية، تضمن الخضوع والطاعة، فجاء في القرآن "وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" (الأحزاب 33). وفي الكتاب المقدس نقرأ "عندما يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، أكون من بينهم" (متى 20:18). ولكن في أزمة الصحة العامة كالتي يطرحها حالياً COVID-19، كلما اجتمع مؤمنان أو أكثر لمشاركة الصلوات أو القربان أو غيرها، يمكن أن يكون هناك أيضاً فيروس كورونا. هل نحن مجددا أمام التعارض بين الإيمان وبين غريزة حفظ البقاء؟

يحقق الانخراط في الطقوس الجماعية عموما، والدينية منها خصوصا، لأولئك المنخرطين فيها، إشباعات رمزية متعدّدة لحاجاتهم المتغيرة باستمرار، تعيد إحياء واقعة مضت، فتضفي عليها صفة القداسة، وتسترجع أحداثها برموز تلهم الذاكرة الجمعية بدلالات ومعاني تبرز بوصفها قيما عليا. المنخرطون في الطقس يعيشون زمنين في آن واحد؛ أحدهما أسطوري متخيل، وآخر حقيقي فعلي. وحين يلتقيان في الطقس يلغي الزمن المتخيل الزمن الفعلي، وتنشط آلية التكرار والاسترجاع المميزة للطقس الذي عليه العمل على إحياء الأصول، أو بتعبير مرسيا إلياد "العود الأبدي" إليها. امتلاك تقنيات التحكم بالزمن عبر الطقس يوفر طمأنينة، ويتفادى أوجاعاً قد تواجهها الجماعة خلال صدمات التغيّر الاجتماعي السريع. الطقوس ليست هدفا في ذاتها بل تنبع قيمتها من التجييش العاطفي الملازم للفعل الجماعي الطقسي. ويركز إميل دوركهايم (في كتابه "الأشكال الأولية للحياة الدينية") على حضور الفرد في الجماعة الذي يولد لديه، ولدى شركائه في هذا الحضور، شعورا جمعيا جياشا لا يُدرَك في حالتهم الفردية، فينتشلهم من اللامبالاة بالعالم وبالآخرين، ومن استسلام للفراغ والرتابة اليومية. هكذا يبدو أن الطقس الجماعي يعيد الفرد ليعيش في الكون ويشعر بالزمن والفضاء بشكل يختلف عما يشعر به في حال فرديته، ويُحيِي فيه قوّة خلاقة تجعله يتجاوز حدود فرديته. 


حالة الطمأنينة التي يوفرها الانتماء للجماعة عبر المشاركة في طقوسهم، والعاطفة الدينية، الجياشة، إضافة إلى مصالح رجال الدين، لا تستسلم بسهولة، لذلك حطّمت جموع في إيران بوابة مرقد مقدس في قُم، بعد إغلاقه بأمر من السلطات الحكومية، وتوسلوا به من أجل الشفاء، وكسر اليهود الحريديم تعليمات وزارة الصحة الإسرائيلية، فتجمهروا ورفعوا شعار "التوراة تحمينا"، وتصادموا غير مرة مع قوات الشرطة الإسرائيلية، ولم تستطع الحكومة الإسرائيلية فرض الإغلاق على أكبر تجمعاتهم في "بني براك" إلا بعد فتاوى من كبار حاخاماتهم تؤيد الإجراءات الحكومية، لا سيما بعد إصابة وزير الصحة الإسرائيلي الحريدي ليتسمان نفسه بالفيروس.

يلتزم المؤمنون بالتعاليم أو الفتاوى الصادرة عن المرجعيات الدينية، لكنّ انتشار فيروس كورونا ترافق مع أشكال حادّة من التعبير عن التشبّث بالإيمان والمفاخرة بالعبادة الجماعيّة. فالإيمان بقدرة الإله على الحماية والشفاء أقوى من أي تحذير، حتى إن صدر عن جهة يعتقد المؤمنون، عادةً، أنّ لها القول الفصل في تشريع وتنظيم العلاقة بالخالق. قد تأمر المرجعيات الدينية بوقف الطقوس والمناسك وإغلاق دور العبادة، دون أن يمتثل الأتباع لهذه القرارات، المسألة هنا تتعلق بالعاطفة الدينية الجياشة التي تولدها الطقوس الدينية، والتي تسببت في بلدة عجلتون (في كسروان اللبنانية) بوقف قداس، نتيجة احتجاج المصلين على تغيير طريقة الصلاة، لتتناسب مع الوقاية من الوباء.
بالنسبة لمعظم الناس، فإنّ الإيمان والعبادة والطقوس الدينية إجابة شافية عن الكثير من الأسئلة الوجودية، وخاصة في وجه الأزمنة الصعبة، والمظاهر التي يصعب تفسيرها. لكن ألم يغيّر كورونا المعادلة لتتفوق غريزة حفظ البقاء، ممثلة بالهلع من المرض، على الطمأنينة النفسية التي توفرها الطقوس الدينية وما يرتبط بها من عاطف جياشة؟ لم يكسر المؤمنون الحجر الذي فرضته السلطات الروحية والزمنية في أماكن عدة إلا بشكل محدود، بينما لاذ غالبية المؤمنين بغريزة حفظ البقاء، حتى أولئك الذين اعتقدوا بنهاية العالم وأملوا أن تكون نهايتهم معتمرين أمام الكعبة. فما أن وصل الوباء إلى مكة حتى خلت الكعبة من المعتمرين، ولم يكن ذلك فقط استجابة لأوامر السلطة في مكان يحتل موقع القداسة المطلقة بالنسبة للمسلمين، وقادر على تجييش كل عاطفة دينية ممكنة.




كورونا المستجد.. أنماط تديّن جديدة
تهدف العبادات إلى السمو بأخلاق الإنسان والترابط الاجتماعي، ويؤكد علماء الاجتماع أن الأشخاص المؤمنين يعتمدون على قادتهم الدينيين لتأطير مواقفهم حول المعلومات العلمية.  المتعلمون منهم بشكل جيد يطلبون من هؤلاء القادة المساعدة في قراراتهم الأخلاقية من أجل تطهير ضمائرهم، والأقل تعليما، أصحاب النظرة التقليدية، ينظرون إلى القادة الدينيين بوصفهم مصدرا رئيسيا للمعرفة العلمية. من هنا حساسية موقع هؤلاء القادة ومسؤوليتهم الأخلاقية في إقناع أتباعهم بتقديم غريزة حفظ البقاء على طقوس العبادة، وأن يتخلى البعض عن جهله ليكون أكثر معرفة وعلما بقضايا الصحة العامة، وأكثر مسؤولية في كلماتهم وخياراتهم، متحاشين صراعا غير ضروري بين العلم والإيمان. وعلى صنّاع السياسات أن يبدو مزيدا من التقدير للاضطرابات غير المسبوقة التي تسببت بها الأزمة الحالية وتأثيرها على المؤمنين وممارساتهم الدينية.

لقد وجدت الأديان طرقاً بديلة لتقديم الدعم الروحي، والإرشاد الديني، لأتباعها من خلال نظام الاتصال الرقمي، هناك تغيرات جوهرية مسّت الممارسات الدينية بسبب كورونا قد لا يكون هناك رجعة عنها، على رأسها إضعاف الدين المؤسسي لصالح المبادرات الفردية. صحيح أن البعض سيستمر في غسل أدمغة الضعفاء والاتجار بالدين وبالعقول، متحوّلين إلى مبشرين رقميين، لكن الفضاء الرقمي يتيح للمؤمنين مزيدا من الحرية الفردية، وفرصة للبحث عن الإله عبر التأمل الشخصي. ورغم القلق بسبب عدم الوضوح بشأن نهاية حظر التجول، وحالات الإغلاق، والتباعد الاجتماعي، فإن العزلة الناجمة عن هذه الإجراءات توفّر فرصة إضافية للصمت والتأمل.
يبدو أن مستقبل العقيدة قد يكمن في روحانية قائمة على التأمل، وليس الطقوس الجماعية وحدها. وخصوصا إن طال أمد الحجر الصحي والعزلة بشكل يكفي لتحويل التأمل الشخصي إلى نهج يفكك التقاليد الدينية المؤسسية غير العقلانية، التي بدأت تستشعر فقدانها لأتباعها بسبب الحظر على طقوسها الجماعية، وسخرية الناس من تفسيراتها غير العلمية. وقد تستمر فقط تلك الأديان المستعدة لتهيئة أتباعها للروحانية الفردية على أساس التأمل الشخصي، والتكامل بين العلم والإيمان، وتعطي لأتباعها المعنى الحقيقي والدعم النفسي على حساب تقديم حلول غيبية ساذجة. لدينا اليوم مراقب يفرض حضوره بشدّة، إنه غريزة حفظ البقاء، ولم يعد بالإمكان تجاهله.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.