الشاعر هو مَن يكتب الشعر. الروائي هو من يصوغ الروايات. القاص هو من ينشئ القصص. الممثل هو من يؤدي الأدوار التمثيلية في السينما أو المسرح. والمسرحي هو مَن يؤلّف المسرحيات. والمخرج هو مَن يُخرج الأفلام أو المسرحيات أو المسلسلات. والرسام هو مَن يرسم ويشكّل، والمثّال هو من يصنع التماثيل. والنحات هو مَن ينحت الحجر أو المعدن أو الخشب. والناقد هو من ينقد ذلك كله. وعلى هذا القياس كنتُ أعتقد أن الأديب هو مَن يكتب الأدب. لكن، ما هو الأدب؟ وماذا تعني كلمة "أديب"؟ أَيكون المقصود إليه هو تلك الكتابة النثرية التي لا يمكن تصنيفها شعرًا أو قصة أو مسرحية أو رواية؟ هل هي النصوص النثرية المكتوبة بلغة الشعر مثلًا، وإن لم تكن شعرًا؟
يلوح لي أن كلمة "أديب" لزجة ومراوِغة، أي أن في الإمكان مدّها لتشمل كل كتابة إبداعية، أو شدّها لتقتصر على ضرب محدد من ضروب الكتابة التي تتضمن النثر الفني والتعبير الوجداني والتأمل، وإشراب ذلك بالأفكار والأخلاقيات وحتى المواقف السياسية على غرار نصوص المويلحي والمنفلوطي وأمين نخلة وخليل تقي الدين ومارون عبود وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران ومي زيادة وغادة السمان وكوليت خوري ومحمود المسعدي وغيرهم. لكن هذا النوع من الكتابة اندثر أو يكاد يندثر، الأمر الذي ربما يشير إلى أنّ حرفة الأدب تكاد تندثر بدورها، لأن الكتابة اليوم تتضمن التعبير المباشر من دون زخارف، فيتم التعبير عن الموقف السياسي بالمقالة الاستقرائية والتحليلية، وعن الأفكار بالمقالات المعمّقة أو بالدراسات الفكرية... وهكذا.
كنتُ أظن أن الأديب هو كائن عظيم، وأن الأدب إبداع لا يدانيه أي إبداع، خصوصًا إذا كان ميدانه الرواية والشعر. لكن حين عرفت أن الروائية البريطانية باربرا كارتلاند كتبت 721 رواية بوليسية، وأن الباكستاني اشتياق أحمد كتب 800 رواية عاطفية، وأن الروائي الروسي إسحق أسيموف كتب 500 رواية من روايات الخيال العلمي، حزنت لمصير أغاثا كريستي التي لم تتمكن من كتابة غير 80 رواية بوليسية فقط. لكن شغفي بالروايات العاطفية والخيال العلمي هبط إلى أدنى مستوى بعد تلك الاحصاءات. ثم انهالت عليّ عناوين لم تستسغها ذائقتي الأدبية قط مثل مجموعة صديقي الراحل رسمي أبو علي "قط مقصوص الشاربين إسمه ريس" (1980)، ومثل المجموعة القصصية لمازن معروف الموسومة بعنوان "الجرذان التي لحست أُذنَي بطل الكاراتيه" (2017)، ومثل ديوان صديقنا سامر أبو هوّاش "ليس هكذا تُصنع البيتزا" (2017).
أغباني لمفرش المائدة
ما عدتُ مغرمًا بالأدب والأدباء في ما عدا قلة منهم، لأن معظمهم مثل نسيج الأغباني الشامي مطرّز على الوجهين، ويُستخدم مفارش للموائد، أي أن له وجهين، وله وظيفة امتصاص زيوت المائدة ونثارها. وكثير من الأدباء، ومعهم جمهور من المفكرين والقادة، يعتقدون أنهم عباقرة حقًا، فلا يتورعون عن توجيه رسائل إلى الأجيال القادمة، ويختمونها أحيانًا بعبارة "اللهم إشهد أنني بلّغت". والحقيقة أن تلك الرسائل لن تصل أبدًا إلى الأجيال القادمة لأنها سقيمة ولا تتضمن أي عبرة أو خبرة. ويزداد الأمر امتعاضًا حين يستخدم بعض "الأدباء" لغة ملتوية وعبارات مغلقة ومصطلحات خالية من أي مضمون. وفي هذه الحال، من الأفضل أن يعيش المجتمع بلا أدباء إذا كانوا من هذا الطراز، أو من الذين لا تحتوي نصوصهم إلا مغص الكلمات.
لنقرأ فقرة من نص طويل لأحد "النقاد" السوريين عن شعر العُماني الصديق سيف الرحبي. يقول الناقد: "لا نريد بهذا التمهيد استخلاصًا مؤطرًا بقدر ما ندفعه إلى الانفتاح على بساتين دلالية تحيط بطرف استبصاري لفاعلية الشعر وسياسة شعريته في إقامة وجودها بالتأثير الفاعل الناضج بملكوت فنية جمالية مجودة تعاير أدوات الشاعر" (جريدة "تشرين" – دمشق، 2/8/2003). ويقول "الناقد" ما غيرو عن ديوان "أسفار موسى" لموسى حوامدة ما يلي: "هكذا يستحلم موسى حوامدة المأثور ويستأرخها شعريًا، شاحنًا فيه إشراقة قهره الحياشة، فتنجز نبوءتها المعرفية في الفن الشعري الجديد الذي يوقفه على محيط انتمائه الوجودي وقضاياه الإنسانية الذاتية والموضوعية المحايثة شعريًا لآنية الفصل الجمالي الذي لا يفتعل انفصامًا بنيويًا في حدثه الصانع جسدًا يحتكم إلى عضوية جدلية في حديه الصورة والمادية مما ينتهك المعنى القطبي للجمال والمنفعة" (نُشرت المقالة في ثلاث صحف: تشرين (25/2/2006)، والقدس العربي (9/3/2006) وفي أخبار الأدب (16/4/2006). أما عن زكريا تامر فيقول "الناقد": "تتمظهر صورة المغاير للمقابلات المكانية في قصص زكريا تامر بؤرة تحولية إبداعية لوظيفة المكان في البناء القصصي حيث تتحد في استراتيج فني مع فورة اختراقية مع تحولية تبني معادلات جديدة مبتكرة للمكان تحقق انسجامًا حيويًا لبناء معادل جمالي فني فكري للمكان. المكان القصصي يمتلك متعة الإدهاش الذي ينطوي عليه فنه المضاء بأنوار غرائبية وسريالية تسرد سياسة رؤيته للكون والكائن والمكان في بنيته معادلة جديدة منتجة السرد شديد الخصوبة والابتكار، مما يجعل هذا الابتكار في بناء المكان موازنًا لابتكار القص لديه وفق سلسلة تحولات تنطوي على مطية دلالية جامحة التعبير المتوهج بألقه الفني" (جريدة "السياسة" الكويتية، 28/7/2004).
الفقرات الثلاث موّقعة باسم خالد زغريت الذي يبدو أن جملته أطول من سعفص، وكتاباته على غرار كثير من النقاد مجرد طاحونة كلام بلا أفكار أو معانٍ، وأمثاله كثر ممن امتهنوا اللغو (توتولوجيا)، فراحت الكلمات تتوالد بين أصابعهم على نحو شريطي لا ينقطع. وهؤلاء لا نحبهم ولا نسبّهم في أي حال، ولندع عباراتهم تنط وتحط مثل بغال الزط، فالبعض يستسيغ ذلك.
خواتم وأزقة
ليس لديّ أي تفسير لتختّم بعض الأدباء، ومعهم كُتّاب وصحافيون، بالخواتم ثقيلة الوزن، ذهبية أَكانت أم فضية أم مصنوعة من العقيق. وما زلت أعجبُ، أيما عجب، كيف يطيق هؤلاء وضع الخواتم في أصابع الكفين، وكيف يمكنهم أن يكتبوا وسوار معدني يحوط أكثر من إصبع، ويُثقل وزنُه اليدَ الكاتبة! غير أن الكتابة اليوم تطورت بصورة خيالية حتى وصلنا إلى ما يُسمى "الذباب الإلكتروني"، وهؤلاء الذباب هم كُتّاب في الأصل، يرافقهم صحافيون وإعلاميون وتقنيون وخبراء في التواصل وأجهزته، لكنهم موظفون لخدمة غايات غير نبيلة في الأعم الأغلب. إنهم دود إلكتروني إذًا. ومع أنني أجهل طرائق عمل "الذباب" هذا، إلا أنني أدرك أن إطلاق الكلاب على البقر ليس شجاعة البتة. فلا عجب بعد ذلك أن نسمع أنين الثقافة في كل صوب ومن كل ناحية، لأن ثمة "كُتّابًا" و "نقادًا" يكتبون، بحسب الطلب، وفي أي حقل، من علم الجراثيم إلى الاقتصاد الصيني، ومن نيترات الأمونيوم إلى اقتصاديات النفط، ومن الاستراتيجيات المتغيرة إلى علوم البحار والمناخ، وخلاصة ذلك كله خبال خالص على غرار ما رواه أحد مخبولي بغداد فقال: "كنتُ أمرّ في أزقة بغداد، فوطئتُ شيئًا حارًا، فمسستُه فإذا هو ليّن، فشممتُه فإذا هو منتنٌ، فذقتُه فإذا هو مرّ، نظرتُ إليه في ضوء السراج فإذا هو أصفر، أريتُه أخي أبو موسى فقال لي إنه خر...". وعلى منوال هذا المخبول نشاهد في التلفزة، ونقرأ في المواقع الإلكترونية عشرات "الأدباء" و "الكتاب" العرب وهم يتناولون الوقائع الجارية بتحليلاتهم الساذجة والهذيانية كأن ذلك البغدادي قليل الأدب ما انفك يتناسل في شاشات العالم العربي.