}

الكوفية كرمز للحرية: نقوش فلسطينية في التاريخ والثقافة والفنون

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 13 يونيو 2024
آراء الكوفية كرمز للحرية: نقوش فلسطينية في التاريخ والثقافة والفنون
طلاب بجامعة واشنطن يضعون كوفية على تمثال جورج واشنطن(Getty)


I

ها هي فلسطين اليوم تستعيدُ حضورَها الآسر، لكنه حضورٌ مكلّل بالدم ومجلّل بالموت والخراب. إنها أمجاد كبيرة وآلام عظيمة في الوقت نفسه. فالبقاء في المكان، على الرغم من هذه الأهوال، هو معجزة الفلسطينيين، وهو تذكير يومي بأن الشعب الفلسطيني لم يُهزم، وهو ما برح يمثل الخطر الدائم على إسرائيل وعلى الوجود الصهيوني في فلسطين المحتل، وهو مثل أعشاب الجنائن؛ كلما جززتُه نما أكثر. ومن مفارقات تاريخنا المعاصر أن فلسطين ذات الأغلبية الإسلامية وقعت في سنة 1917 تحت استعمار "دولة مسيحية" هي بريطانيا التي عملت بقوة على إنشاء دولة يهودية فيها. ومنذ ذلك الوقت لم يترك الفلسطينيون وسيلة إلا استعملوها للعودة إلى وطنهم؛ انخرطوا في الأحزاب القومية العربية التي كانت تتبنى تحرير فلسطين مثل البعث ثم الناصرية، والتحق بعضهم بالأخوان المسلمين وأسّسوا حزب التحرير الاسلامي، ثم أسّسوا حركتين كان لهما شأن كبير في تاريخ المشرق العربي، وأقصد هنا حركة القوميين العرب وحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح. وقاتلوا الاحتلال الإسرائيلي عبر الحدود العربية، وصعدوا إليه من البحر (عمليتا سافوي وكمال عدوان – دلال المغربي)، وهبطوا عليه من الجو (عملية الطائرة الشراعية – خالد أكرم الحلبي). وأشعلوا انتفاضات هادرة (يوم الأرض 1976 وانتفاضة الحجارة 1987 وانتفاضة الأقصى 2000 وغيرها كثير)، وخطفوا الطائرات ونفذوا العمليات الخاصة، وجرّبوا التفاوض السري والعلني. أخطأوا هنا وأصابوا هناك، لكنهم لم يهدأوا إطلاقًا منذ أن أطلقت حركة فتح الرصاصة الأولى في 1/1/1965. ومع ذلك ما زالت قضية فلسطين بلا حل، كأن الفلسطينيين هم سيزيف العصر الحديث، أي حامل الصخرة التي يدحرجها من أسفل الجبل إلى أعلاه، وكلما اقترب من القمة تعود الصخرة إلى الأسفل. وسيزيف الفلسطيني في تأويلنا يعني النضال الذي لا يستكين ضد الهزيمة. وها هي صورة الفلسطيني اليوم، كما تشاهدها عيون العالم، مثل كيس الملاكمة؛ كلما وجّهوا إليه الضربات ارتد عليهم بالقوة نفسها. 

II

لم ينجُ أحد من التجربة الفلسطينية في جميع بقاع المشرق العربي. وها هي التراجيديا الفلسطينية تغمر العالم كله بقدرتها التعبيرية الهائلة. ففلسطين تضفي ذاتها على الصور والأشياء وتغمرها بألوانها، وتحوّلها إلى وعي جديد وإلى فكرة حية ذات أبعاد شتى. وعلى سبيل المثال الأغاني الشعبية والتراثية مثل "وين عَ رام الله" و "يا ظريف الطول" والتراويد الجميلة مثل "يا طالعين الجبل". فأغنية "وين عَ رام الله" (غناء سلوى، أي نوال العجاوي، وتلحين جميل العاص، وكلمات رشيد زيد الكيلاني) هي أغنية عاطفية انطلقت، أول ما انطلقت، من الإذاعة الأردنية: فتاة تخاطب حبيبها وتعاتبه لأنه سيسافر إلى رام الله ويتركها وحيدة. لكن هذه الأغنية العاطفية الجميلة صارت بعد وقوع رام الله تحت الاحتلال الإسرائيلي في عام 1967 أغنية وطنية ذائعة الصيت. وكذلك الأغنية الفلكلورية "يا ظريف الطول" التي تُغنّى في بلاد الشام  من جنوب غزة إلى  شمالي حلب؛ فهي أغنية عاطفية في الأساس، إذ إن الفتاة تخاطب حبيبها المكنى "ظريف الطول" بعبارة "وقف لقولك. رايح عَ الغربة وبلادك أحسنلك. خايف يا ظريف تروح وتتملك وتعاشر الغير وتنساني أنا". إن عبارة "بلادك أحسنلك" جعلت المطلع يتشرب معنى وطنيًا. أما الترويدة فهي ضرب من الغناء الصعب الذي يحتاج إلى تدريب طويل لاتقان غنائها. مثلًا: شمالي يا هوا الديرة شمالي/ على إلّي بوابهم تفتح شمالي/ ونا الليلة لبعث مع الريح الشمالي [سلامي] يوصل ويدوِّر عَ الحباب.

هذه الترويدة تُغنى هكذا:

شمالي لالي يا هوا ليلي

لديرة شمالي لالي ويا رويلو لوه

عَ لالي للبْواب هولو

ونا ليلي لبعث مع الشمالي لالي ويا رويلو لوه.

هذه التراويد كانت تغنيها الصبايا وفيها شيفرة ملغزة للحبيب. ويعتقد بعضهم، وهو اعتقاد ضعيف في أي حال، أن النسوة كنّ يُغنينها في بعض الحالات للثوار المسجونين بحيث لا يفهمها حرس الزنازين من الجنود البريطانيين. وهذا يعني إشراب معانٍ وطنية لنصوص غرامية.

الزيتون الذي زرعه أجدادهم قبل مئات السنين وقطّعه الصهيونيون منذ أكثر من خمسين سنة، عاد إلى النمو، وراح يشق الصنوبر الإسرائيلي (الصورة من الضفة الغربية-Getty)


لنتذكر أن أكلة الشاكرية (لبن وأرز ولحم) المشهورة في بلاد الشام كلها صارت في فلسطين تُسمى "لبن إمو"، لأن اليهود لا يخلطون اللحم باللبن التزامًا بالتوراة التي تقول: جديًا بلبن أمه لا تأكل. وهنا عمد مسيحيو فلسطين إلى تغيير الاسم إلى "لبن إمو" نكاية باليهود. أما الكوفية فقد باتت اليوم رمزًا للحرية في بقاع الأرض كلها، ونراها في كل مكان تُزين أعناق الشبان المتظاهرين في مدن أوروبا وأميركا. والحقيقة أن أصل الكوفية من الأهوار العراقية وبالتحديد من الكوفة، والخطوط والعقد فيها عبارة عن شبكة صيد السمك مع تزيين في الخطوط الجانبية التي تصور تموجات الماء... وحتى اليوم يرتدي أهل الكوفة ونواحٍ كثيرة في العراق كوفية تختلف عن الكوفية الفلسطينية بكثرة السواد فيها. وغطاء الرأس في فلسطين لم يكن الكوفية، بل الحطة والعقال، أو القضاضة والعقال (تغني سميرة توفيق يا بو قضاضة بيضا). وفي ثورة 1936 كانت الشرطة البريطانية تعتقل الفلاحين الثوار ممن يعتمرون الحطة والعقال، ولا تتعرّض، على الأعم الأغلب، لمعتمري الطربوش من أفندية المدن. لذلك أصدرت قيادة الثورة آنذاك تعميمًا للجميع بضرورة ارتداء الحطة والعقال وإنزال الطربوش عن الهامات لإحداث مزيد من الإرباك للشرطة البريطانية التي لا تستطيع اعتقال جميع الناس. ولأن البعض لم يلتزم قرار قيادة الثورة راح الباعة والفتيان الصغار يرددون: الحطة بخمس قروش والعرص بيلبس طربوش. أو "حطة وعقال بسبع قروش وعرص إللي بيلبس طربوش". أما الكوفية التي كانت قليلة الانتشار في فلسطين قبل ثورة 1936، فقد زاد انتشارها في حرب 1947 – 1948، ثم صارت ساترًا لوجوه الفدائيين المتلثمين في قواعد الثورة الفلسطينية المعاصرة، وتحولت الخطوط إلى أسلاك شائكة، والكوفية إلى غطاء لرأس الشهيد ياسر عرفات لازمه طوال عمره. وفي القاهرة مثلًا، في خان الخليلي، كان السياح يسألون البائعين عما تعنيه الكوفية، فيجيب البائعون: عرفات، عرفات. 

III

على دروب الحرية لا يبقى في نهاية المطاف غير حجارة الوادي؛ وحجارة الوادي في فلسطين هي شعبها الصخري الصامد في مواجهة أي طوفان. أما التراب الفلسطيني فيقدّم لنا في كل يوم أمثولة للمجد وللتاريخ وللمستقبل. فالإسرائيليون حاولوا منذ أكثر من خمسين سنة أن يطمسوا هوية المكان، فجاءوا بالصنوبر الأوروبي، وغرسوه فوق تربة القرى الفلسطينية المدمرة. وقد لاحظ سكان بعض قرى الجليل الذين كانوا يزورون قراهم المدمرة كلما سنحت لهم الفرصة أو سمحت لهم السلطات الإسرائيلية أن الزيتون الذي زرعه أجدادهم قبل مئات السنين وقطّعه الصهيونيون منذ أكثر من خمسين سنة، عاد إلى النمو، وراح يشق الصنوبر الإسرائيلي صاعدًا نحو الأعلى. هكذا هو الشعب الفلسطيني في تاريخه وفي محنته الراهنة يشق اليوم دعائم الكيان الإسرائيلي ويثقبها استعدادًا لحريته غدًا. لقد فشلت الصنوبريات الغريبة في التكيّف مع التربة، وستفتك الأمراض بالمجتمع الإسرائيلي كما تفتك بأشجاره المستعارة، ولن تنقف الأرض غير الأزاهير التي لها جذور في التراب. وسلامًا للزيتون الفلسطيني وللأيدي التي تتعهده وتحميه.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.