}

قطار أينشتاين وفيل أبو حيان التوحيدي

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 24 يوليه 2024

I

كثيرًا ما كان ابني البكر، وهو في المرحلة الابتدائية، يسألني: من أين يأتي الهواء؟ وكنت أروغ وأزوغ حتى أعثر على جواب يلائم سنّه؛ فالجواب العلمي الصحيح كان، بحسب اعتقادي آنذاك، عصيًا على إدراكه في تلك المرحلة العمرية. وتذكرتُ والدتي حين سألتني في إحدى المرات عن حكاية "النسبية" تبع أينشتاين بعدما سمعتنا، أنا وأقراني، نتجادل ونتناقش في تلك النظرية. وكانت، على ما يبدو، تتنصت على أحاديثنا عن قطار أينشتاين، وكيف أن ذلك القطار سيختفي بركابه إذا انطلق بسرعة الضوء، ويصبح طوله مساويًا الصفر، أي أنه يتلاشى. حينذاك، وكنتُ في المرحلة المتوسطة التعليمية، لم أتمكن من شرح القليل القليل مما كنا نعرفه عن النظرية النسبية الخاصة Special theory of relativity، لأن والدتي لم تكن تمتلك من المعارف والعلوم شروى نقير، وكانت تظن أننا مهابيل حين كانت تسترق السمع إلى هذياناتنا تلك. أما إبني فلم يتوقف عن إحراجي ببدهياته حتى عندما انتقل إلى المرحلة الثانوية، ولم يكف عن "إفحامه" إياي بمساخره المنطقية فيسألني: إن معجون البندورة (دبس البندورة أو رب البندورة أو الكاتشاب) يُصنع من البندورة (الطماطم أو القوطة)، أَليس كذلك؟ فأجيب: نعم. فيتابع: لماذا إذًا لا يُصنع معجون الأسنان من الأسنان؟ ويضيف: إن البشر جميعًا يتشاجرون، فلماذا الشجر وحده لا يتباشر؟ وكنتُ أضحك طويلًا من تلك العبارات التي لا تفتقر إلى الذكاء والتفكهة. وعلى هذا المنوال كنتُ أتعرض لأسئلة ساخرة مثل: لماذا صار للنمر جلد مرقّط؟ ومن حفر نهر النيل؟ والإجابات هنا بسيطة، لكن السؤال بصيغته تلك يتضمن الفكاهة، والجواب عنه يورث الحيرة في الوقت نفسه.

تروي حكاية شعبية أن امرأة كانت تخبز ليلًا في تنورها، وقد تسلل ابنها الرضيع إليها حتى وصل إلى جانب المعجن. واكتشفت أن الرضيع "فعلها" في حفاظه. وبدلًا من أن تقوم لتغسل الطفل وتترك الخَبْزَ موقتًا، ولخشيتها من أن تنطفئ نار الموقد، مدت يدها إلى المعجن واقتطعت منه قطعة مَسَحتْ بها عجيزة الطفل. ولما كان الخبز مقدسًا (داغون هو إله القمح، والقربان هو تقدمة الخبز المقدس، والمسيح هو خبز الحياة وهو نفسه القربان الإلهي) فقد عاقبها الله فورًا، فانطبق الصاج على ظهرها، وانقلب طبق الخبز على بطنها، وتحولت إلى سلحفاة.

حين حكيتُ هذه الخرافة لابني، راح يتضاحك هازئًا ويسأل: ما قصة الجمل إذًا؟ وماذا فعل حتى عوقب بوضع سنام على ظهره؟ وهنا تذكرت السفسطائيين والأرأيتيين وغيرهم.


II

كنتُ، في أحد أطوار حياتي، مغرمًا بالسفسطائيين الذين سخروا من المنطق الأرسطي باستخدام منطقهم الرياضي العجيب، وبرهنوا رياضيًا أن السلحفاة أسرع من أخيل بطل الإغريق، وأن أخيل لا يستطيع أن يجتاز ملعبًا أولمبيًا. وهذا ما برهنه زينون الرواقي بقوله إن الحركة من الموضع أ إلى الموضع ب يجب أن تمر بجميع نقاط الخط أب. لكن كل مسافة على الخط أب يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية من الأجزاء. ولاجتياز المسافة من أ إلى ب يجب قطع تلك الأجزاء اللامتناهية بالتدريج. وفي هذه الحال لا يستطيع أخيل الانتقال من نقطة إلى أخرى إلا بعد العودة المتقهقرة إلى الأجزاء غير المتناهية، أي أن حركته من أ إلى ب تصبح من المحال، ويبقى أخيل في مكانه غير قادر على اجتياز الملعب. وبسبب تلك القضايا الغرائبية شُغفت بالمسائل الرياضية المستحيلة، وكنتُ أفتش عنها في الكتب. وبقيتْ في ذاكرتي من تلك الفترة مسألتان: الأولى في الجبر Algebra وهي تبرهن أن الواحد يساوي الاثنين، والثانية في الهندسة Geometry وهي تبرهن أن جميع المثلثات (المتساوي الساقين Isosceles Triangle والقائم الزاوية Triangle Right angle والمثلث العادي Any Triangle) هي مثلثات متساوية الأضلاع Equileteral Triangles. وعلمتُ أن السفسطائيين كانوا حقًا معلمي الحكمة، واستعملوا "المغالطات المنطقية"، أو القياس المبني على فرضيات خادعة، ليهزأوا بالمنطق ومقدماته ونتائجه، وغايتهم كانت إفحام الخصم. ومن أَعلامهم المشهورين بروتاغوراس وهيبياس.

أما في تاريخنا العربي فقد اشتُهرت جماعة من الناس (ثم اندثرت) كانت تنحو نحوَ السفسطائيين شكلًا، لكنها بعيدة عنهم بُعد الثرى عن الثريا مضمونًا، هي "الأرأيتيون" الذين دوّخوا الفقهاء بأمثلتهم المسليّة. فكانوا لا يترددون في عرض الأسئلة المحيرة على الفقهاء والمشايخ، ويبدأونها بعبارة "أَرأيت أن". وعلى سبيل المثال: أَرأيت لو أن القيامة لم تقم أبدًا، ماذا سيكون مصير الذين ماتوا؟ أو: أَرأيتَ لو أن السماء انطبقت على الأرض، فهل سيكون ذرّ النمل من بين الضحايا؟ أو: أَرأيتَ لو أن امرأة حملت من قرد وأنجبتْ غلامًا، ثم مات الغلام، فهل للقرد حق في الميراث؟ أو: أَرأيت لو أن رجلًا صلّى وعلى ظهره كيس من الفساء، فهل تجوز صلاته؟ فإن قال لا تجوز قالوا له: هاتِ برهانك الشرعي، لأن الكيس المقفل لا ينقض الوضوء، ولا نصّ شرعيًا يمنع المصلّي من أن يحمل مثل ذلك الكيس على ظهره. وإن قال تجوز ضحكوا منه لصغر عقله. هؤلاء تعدّوا الممكن إلى المحال، وتركوا الحقائق إلى الخيال، وبرهنوا أن العلم الذي لا ينفع مثل الجهل الذي لا يضرّ، لكنه يسلّي أحيانًا.

بحسب كارل بوبر فإن أي حقيقة ليست حقيقة إلا أننا لم نتوصل إلى إثبات عكسها (Getty)


III

كان بروتاغوراس زعيمُ السفسطائيين، وهو من اللاأدريين فلسفيًا، يردد دائمًا أن في الإمكان إبداء رأيين مختلفين في شأن واحد. أما زينون الرواقي، مؤسس علم الجدل، فقد أرسى علمه على قاعدةٍ منطقية هي التسليم بإحدى فرضيات الخصم، ثم استنباط نتيجتين متناقضتين منها، فيصبح في الإمكان البرهنة على بطلان المسألة المسلّم بها كلها. والمعروف لدى أرسطو أنْ ليس كل ما هو صحيح يكون صادقًا؛ فالصحيح هو ما طابقت مقدماته نتائجه. أما الصادق فهو ما طابَقَ الواقع. لكن، ما هو الواقع حقًا؟ الواقع بالتعريف هو كل ما له وجود، وتمكن معرفته مباشرة من خلال الحواس. وهذا تعريف بسيط وساذج ويلائم أَفهام التلاميذ، مع أن ديمقريطس كان يعتقد أن الحواس هي المصدر المباشر للمعرفة. لكن، ما الذي يبرهن أن المعرفة الحسية صادقة؟

لنتذكر اختبار أبو حيان التوحيدي المشهور والذي يتلخص في أن جماعة من الناس اختاروا بعض العميان، وأحضروا لهم فيلًا، وتركوهم يتلمسونه بأيديهم. ثم طلبوا من كل واحد من هؤلاء العميان أن يصف الفيل. فمن أمسك الخرطوم وصفه بطريقة مختلفة عمن أمسك ذَنَبَه. ومَن تحسس بطنه وصفه خلافًا لمن تحسس قوائمه. لذلك قال أبو حيان: إن الحق لم يُصِبْه جميع الناس بل أصاب كل واحد جهةً (انظر تطبيق ذلك على السياسات الفلسطينية في: صقر أبو فخر، هل فشلت إسرائيل في حربها الجارية؟ جريدة "العربي الجديد"، 17/7/2024). وقبل أبو حيان كان بروتاغوراس يُعلّم أن الحواس لا تقودنا إلى الحقيقة، وأن أي حقيقة لا يمكنها أن تعلوَ على العقل. لكنه، في الوقت نفسه، كان يعتقد أنْ لا وجود لأي شيء من دون الحواس أو خارجها. وإذا وُجد شيء خارج الحواس لكانت معرفته غير ممكنة، لأن المعرفة المباشرة تصلنا من خلال الحواس. ولو أن شيئًا خارج الحواس أمكنت معرفته، فإن تلك المعرفة لا يمكن نقلها من شخص إلى آخر إلا من طريق الحواس. لكن هذه المعرفة نسبية لأن الحواس نسبية ومتغيرة، وبالتالي فلا معيار ثابتًا للحقيقة أو الصواب أو الغلط لأن المعرفة نفسها تتعلق بـ "الذات العارفة". وعلى منواله كان بارمينيدس يعتقد أن الحواس لا تؤدي إلى الحقيقة. وعلى سبيل المثال، جميعنا يقول إن الشمس أشرقت إذا ظهرت في الصباح من الشرق، وغرُبت إذا نزلت في المساء إلى الغرب. والعين، بطبيعة الحال، وهي حاسة النظر، تراها دائمًا وهي تتحرك من المشرق إلى المغرب؛ فالمعرفة الحسية المباشرة هنا في هذا المثال خادعة، لأن الشمس لم تشرق ولم تغرب، إنما الأرض هي التي تدور حول محورها في دورتها الصغرى.

من البدهي أن ليس كل ما هو واقعي يمكن لمسه أو رؤيته. فكيف لي أن أعرف أن هذه الطاولة ما زالت موجودة في مكانها إذا خرجتُ من الغرفة وصرتُ غير قادر على رؤيتها؟ والنجوم التي يصلنا نورها الآن، والتي تبعد عنا نحو 500 مليون سنة ضوئية، ربما تكون قد تلاشت حين وصل نورها إلينا.

السفسطائيون والأرأيتيون (وابني معهم) جعلوا المعرفة المباشرة الحسية قاصرة وبلا قيمة إن لم تتجرد وتسمو إلى مصاف المفهوم العقلي. يقول هيراقليطس: "إن الحواس مرشد سيء ومضلل للوعي ما لم يرافق الإدراك الحسي عقل ذكي ينفذ من عالم الظواهر الحسية التي تتضمن الاختلاف والتضاد والتعدد ليكتشف المبدأ الجوهري الواحد أو اللوغوس (العقل) الذي يؤكد وحده الثنائيات المتضادة وتماثُل الأشياء التي تبدو مختلفة، وانسجام العناصر التي تبدو للحواس متصارعة ومتنافرة".

IV

لا توجد حقيقة مطلقة إلا لدى الديانات، والله لديها هو الحقيقة النهائية، وهو واجب الوجود. أما لدينا نحن الحائرين اللاأدريين الذين أصبحنا أضيع من سراج في الشمس، فثمة حقائق لا حقيقة. وحتى الحقائق العلمية تُعتبر نسبية معياريًا، وهي ليست صحيحة أو صادقة أو كاذبة، بل مقبولة باعتبارها أداة من الأدوات التفسيرية. والمعتزلة الذي حاولوا عقلنة الإيمان الديني قبل نحو 1200 سنة، وحوّلوا الدين من كونه تسليمًا وتعليمًا وقبولًا ليصبح تعليلًا وتساؤلًا، أمسى الله لديهم مفهومًا عقليًا. وفي عصرنا الراهن صارت "الحقيقة" مجرد مقولة من بين مقولات كثيرة. وبحسب كارل بوبر فإن أي حقيقة ليست حقيقة إلا أننا لم نتوصل إلى إثبات عكسها. لنتذكر قطار أينشتاين وفيل أبو حيان التوحيدي وسلحفاة أخيل ونغفو حتى شروق الشمس في الصباح، ونقيل حتى غروبها في المساء.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.