}

هل البشرية عمياء؟

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 8 سبتمبر 2020
آراء هل البشرية عمياء؟
تماثيل آهو تونغاريكي في جزيرة إيستر/ فالبارايسو/ تشيلي (Getty)
منذ نحو عشرة آلاف سنة، بدأت الحضارات الإنسانية بالظهور التدريجي، وتكاملت شيئًا فشيئًا في القرون المتعاقبة، فنشأت الحضارة السومرية قبل ستة آلاف سنة، ثم تبعتها الآشورية قبل خمسة آلاف سنة، فالأوغاريتية بعدها، والآرامية... وهكذا. وفي جوارنا، كانت تتألق الحضارة المصرية العظيمة، والحضارات الإغريقية والرومانية والفارسية والحبشية، فضلًا عن الحضارة الصينية، وغيرها. وجميع تلك الحضارات الزاهية لم تجعل البشرية مؤنسنة ومتحضرة على الإطلاق. ثم ظهر الأنبياء هنا وهناك، من الهند إلى فلسطين؛ وهؤلاء حاولوا تأسيس مجتمعات جديدة على أسس أخلاقية مطابقة. ومنذ ذلك الزمن، أي منذ ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة، ما برحت البشرية تزداد توحشًا، بما في ذلك الجماعات التي اعتنقت مبادئ الأديان. ومنذ انبلاج عصر الأديان، بل قبل ذلك، ظهر مئات الفلاسفة، وآلاف المفكرين والمبدعين، الذين طمحوا إلى تأسيس مدائنهم الفاضلة ومجتمعاتهم المنعمة والمفعمة بالحرية والجمال والمتعة والهناء. ولعل أرسطو في "الأورغانون"، وأفلاطون في "الجمهورية"، وتوماس مور في "يوتوبيا"، وفرنسيس بيكون في "أطلانطس الجديدة"، والقديس أوغسطين في "مدينة الله"، كانوا علامات في طريق طويل نحو رقي البشرية. وفي خضم تلك التحولات والأفكار والعقائد وجد الدينُ
الحلّ في الجنة، فوعد المؤمنين بها. وبشّر الفارابي الفيلسوف بما بشّر به أستاذه أفلاطون، فكتب "آراء أهل المدينة الفاضلة". ورأى كارل ماركس أن الحل الختامي ستأتي به الشيوعية، وسيكون خاتمة الأحزان. ودعا باكونين إلى عالم بلا جمهورية، ولا دولة، ولا دين، وكان شعاره "لا دولة، ولا إله". وها هي الجماعات التكفيرية الجديدة، مثل القديمة، ما فتئت تحيك مناديلها، وترسم عليها شعار "دولة الخلافة". وفي غمرة الألم الإنساني الممتد بلا نهاية على ما يبدو، ظهر زعماء كثيرون جدًا رغبوا جميعهم في إقامة الجنة على الأرض، أو تأسيس الجمهورية الفاضلة، أو المجتمع المثالي، أو أطلانطس الجديدة، أو "مدينة الله"، ومع ذلك كله ما زال الإنسان يسير في مسالك متنافرة خلافًا لما دعا إليه الفلاسفة والمفكرون والأنبياء والقادة التاريخيون، وما زال حيوانًا متوحشًا.
كان الفلاسفة والمفكرون والمصلحون والشعراء الملهمون يتطلعون إلى تحويل الجحيم البشري جنة، بينما أراد الأنبياء أن يسلك المرء مسلكًا متطابقًا مع الإيمان الذي دعوا إليه، ومع الأخلاق التي أشاعوها، وجزاؤهم أن ينتظروا يوم القيامة ليذهبوا إما إلى الجنة، أو الى الجحيم، بحسب إخلاصهم لمعتقدهم. لكن، يا للهول، ها هي جهنم نفسها تأتي إلى الناس قبل يوم القيامة خلافًا لمقولات الأنبياء وتبشيرهم.

 

الحيوان علّم الإنسان
كي لا نخطئ في دلالة العبارة، فإن الإنسان حيوان بحسب علم التشريح: فَعِلْمُ الأحياء قسمان: علم النبات Botany، وعلم الحيوان Biology، لا غير. إذًا، ليس هناك علم للإنسان، ولا

يُعترف به على أنه من الكائنات الحية القائمة بذاتها. أما الأنثروبولوجيا فهي علم الإناسة، لا الإنسان. أي أننا والحيوان واحد في التشريح، ويتساوى كلانا في وظائف الأعضاء. والإنسان والحيوان، بحسب تشارلز بلونت، في رسالة "النفس البشرية" (1679)، متشابهان، حتى أن الإنسان، في رأي بلونت، ليس إلا قردًا مصقولًا. فبماذا نختلف، إذًا؟ نختلف بالدماغ وحده. فالإنسان يمتلك ثلاثة أدمغة: الغريزي والانفعالي والمعرفي. ويشترك الإنسان والحيوان في الدماغين الأولَين، أما الدماغ الثالث فينفرد به الإنسان وحده، وهو الدماغ الذي ينشئ المفاهيم، ويقوم بعملية التجريد، وهذا ما يقوله العلماء العارفون. لكنني أصبحت مقتنعًا، بعد هذه الأهوال التي راحت تحل بنا من كل جانب، بأن طفرة بيولوجية ما، أو حدثًا كونيًا خارقًا قد وقع في مرحلة زمنية سحيقة جعلت الإنسان يفترق عن أخيه الحيوان، لتسير الحياة لدى الحيوان الأصلي بطريقة أفضل وأرقى مما سار عليه الإنسان. فالحيوان علّم الإنسان كيف يستخدم أدوات التحضّر، والإنسان تعلّم من الكلب كيف يختزن طعامه حين رآه يخزّن عظمة فاضت عن حاجته. وتعلم الأمر نفسه من السنجاب الذي يُخبيء حبة بندق إلى وقت الحاجة. وتعلم من النمل الذي يجمع الطعام في الصيف لاستهلاكه في الشتاء. وتعلم من النحل التعاونَ على تطفيف الخلية بالعسل في الربيع والصيف لاغتذائها في الشتاء. أَليسَ ادخار القوت كان بداية التحضر كما يقول الأنثروبولوجيون وعلماء التاريخ؟ ومع ذلك، وعلى الرغم من نظام الثلاث وجبات، أو حتى نظام الوجبتين، فإن الإنسان ظل، حتى اليوم، على غرار أسلافه من الأقوام الهمجية، إما التخمة، أو الجوع؛ إما وليمة، أو مجاعة.
الحيوان لا يأكل أكثر من حد الشبع، فيما الإنسان لا حد لنهمه. والحياة الجنسية عند الحيوان أكثر رقيًا، فمعظمها تجري على نظام العائلة والزوجة الواحدة التي تُعنى بالذرية عناية مميزة كما تشهد على ذلك غوريلا الأورانج في بورنيو، أو إنسان الغاب. والجماعات الحيوانية لا تعرف الاغتصاب، أو الاختطاف، أو إرغام الأنثى على ما لا تريده، في ما عدا بعض أنواع العناكب (العناكب حشرات لا حيوانات، الأمر الذي يؤكد أن الإنسان هو عقرب الكائنات الحية). أما في أصقاعنا العربية، والإسلامية، فما برحت الفتاة لا تختار زوجها، بل يختاره والدها، أو أخوها، أو عمها. ولأن الحمار هو الذي علّم الإنسان شق الطرقات، فقد جحد الإنسان ذلك الفضل، وانتقم من أستاذه المهندس بإنزال الإهانة والمهانة عليه، وصار المثل الذي يدور على لسانه: مثل الحمير والدواب أولها للشقاء والعذاب وآخرتها للكلاب والذئاب. وهذا الكلام ليس فيه من النُبل أي نسرة، لأن النُبل مثل الألماس لا يمكن صنعه، بل يجب السعي للعثور عليه.

 

معارك ولحوم
الأميركي يحب لحم العجول، والهندوسي يحرّم ذبح العجول. والصيني يقرف من حليب البقر، فيما الأوروبي يتلذذ به. والفيليبيني يحب لحم الكلاب، بينما الأوروبي يذعر من هذا الطعام. والعربي يأكل لحم الأرنب الذي لا يختلف عن لحم القطط والكلاب، ويأكل لحم الجمل الذي لا يختلف عن لحم الحمير. واللبناني يأكل البزاق وكروش الغنم ومصارينها (غمة وفوارغ)، وهي مستودع البراز، ويأنف من أكل الجراد والضب (وما الفارق؟). والأوروبي والصيني

يستسيغان لحم الخنزير، أما المسلمون، واليهود أيضًا، فيكرهونه كراهية شديدة، لأنه نجس يتمرغ في روثه، ويأكل منه. بيد أن الأبقار بدورها تتمرغ في البراز والبول، وكذلك الخراف، وعلى غرارها يأكل الدجاج سَلْحه، ثم نأكله نحن. والمشكلة لا تكمن هنا البتة، فما ذكرناه إنما هو عادات الشعوب في طعامها؛ المشكلة هي التالية: كلما ذبح المسلمون في الهند العجول تنشب معارك يسقط فيها عشرات الضحايا من البشر المهابيل. وكلما جر هندوسي خنزيرًا ليطلقه في حي من أحياء المسلمين وقعت معركة يذهب فيها عشرات المساطيل. مهابيل ومساطيل؟ نعم، لأنهم ما زالوا يتقاتلون على الأبقار والخنازير التي هي أرقى منهم بلا شك. حتى الاحتفال بالأعياد في بعض البقاع العربية يصبح تظاهرة طائفية لنكاية الطائفة الأخرى.
كان سبينوزا يقول: ليس من الحكمة التفكير في الموت، الحكمة هي التفكير في الحياة. لكن "إنسان" هذه الأزمان لا يتورع عن التقرب من الله بالدم، كأنه ما زال في مرحلة القرابين البدائية. والجميع يستخدم الله في تجارته، أو سياسته، أو في معاركه. فأحد الضباط الحوثيين قال إن صواريخه أصابت أهدافها بفضل الله، كأن الله يعمل لديه مصححًا للرماية. وأحد التجار المصريين أكد أنه حقق أرباحًا أكثر مما كان يتوقع، على الرغم من الكورونا، وذلك كله بعون الله، كأن الله يعمل لديه مروّجًا للمبيعات. وسياسي لبناني فازت لائحته الانتخابية كلها تقريبًا بفضل الله، كأن الله يعمل لديه مديرًا لحملته الانتخابية. وقائد حزبي عراقي من جماعة الميليشيات الطائفية نجا من محاولة اغتيال مزعومة بفضل الله، كأن الله يعمل حارسًا لحضرته.
هل المطلوب في هذا الزمان المكروب الموت في سبيل الله، أم الحياة في سبيله؟ اتعظوا أيها الأشقياء، واخرجوا من أقماطكم، ومن الحيوان تعلّموا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.