كان الفلاسفة والمفكرون والمصلحون والشعراء الملهمون يتطلعون إلى تحويل الجحيم البشري جنة، بينما أراد الأنبياء أن يسلك المرء مسلكًا متطابقًا مع الإيمان الذي دعوا إليه، ومع الأخلاق التي أشاعوها، وجزاؤهم أن ينتظروا يوم القيامة ليذهبوا إما إلى الجنة، أو الى الجحيم، بحسب إخلاصهم لمعتقدهم. لكن، يا للهول، ها هي جهنم نفسها تأتي إلى الناس قبل يوم القيامة خلافًا لمقولات الأنبياء وتبشيرهم.
الحيوان علّم الإنسان
كي لا نخطئ في دلالة العبارة، فإن الإنسان حيوان بحسب علم التشريح: فَعِلْمُ الأحياء قسمان: علم النبات Botany، وعلم الحيوان Biology، لا غير. إذًا، ليس هناك علم للإنسان، ولا
يُعترف به على أنه من الكائنات الحية القائمة بذاتها. أما الأنثروبولوجيا فهي علم الإناسة، لا الإنسان. أي أننا والحيوان واحد في التشريح، ويتساوى كلانا في وظائف الأعضاء. والإنسان والحيوان، بحسب تشارلز بلونت، في رسالة "النفس البشرية" (1679)، متشابهان، حتى أن الإنسان، في رأي بلونت، ليس إلا قردًا مصقولًا. فبماذا نختلف، إذًا؟ نختلف بالدماغ وحده. فالإنسان يمتلك ثلاثة أدمغة: الغريزي والانفعالي والمعرفي. ويشترك الإنسان والحيوان في الدماغين الأولَين، أما الدماغ الثالث فينفرد به الإنسان وحده، وهو الدماغ الذي ينشئ المفاهيم، ويقوم بعملية التجريد، وهذا ما يقوله العلماء العارفون. لكنني أصبحت مقتنعًا، بعد هذه الأهوال التي راحت تحل بنا من كل جانب، بأن طفرة بيولوجية ما، أو حدثًا كونيًا خارقًا قد وقع في مرحلة زمنية سحيقة جعلت الإنسان يفترق عن أخيه الحيوان، لتسير الحياة لدى الحيوان الأصلي بطريقة أفضل وأرقى مما سار عليه الإنسان. فالحيوان علّم الإنسان كيف يستخدم أدوات التحضّر، والإنسان تعلّم من الكلب كيف يختزن طعامه حين رآه يخزّن عظمة فاضت عن حاجته. وتعلم الأمر نفسه من السنجاب الذي يُخبيء حبة بندق إلى وقت الحاجة. وتعلم من النمل الذي يجمع الطعام في الصيف لاستهلاكه في الشتاء. وتعلم من النحل التعاونَ على تطفيف الخلية بالعسل في الربيع والصيف لاغتذائها في الشتاء. أَليسَ ادخار القوت كان بداية التحضر كما يقول الأنثروبولوجيون وعلماء التاريخ؟ ومع ذلك، وعلى الرغم من نظام الثلاث وجبات، أو حتى نظام الوجبتين، فإن الإنسان ظل، حتى اليوم، على غرار أسلافه من الأقوام الهمجية، إما التخمة، أو الجوع؛ إما وليمة، أو مجاعة.
الحيوان لا يأكل أكثر من حد الشبع، فيما الإنسان لا حد لنهمه. والحياة الجنسية عند الحيوان أكثر رقيًا، فمعظمها تجري على نظام العائلة والزوجة الواحدة التي تُعنى بالذرية عناية مميزة كما تشهد على ذلك غوريلا الأورانج في بورنيو، أو إنسان الغاب. والجماعات الحيوانية لا تعرف الاغتصاب، أو الاختطاف، أو إرغام الأنثى على ما لا تريده، في ما عدا بعض أنواع العناكب (العناكب حشرات لا حيوانات، الأمر الذي يؤكد أن الإنسان هو عقرب الكائنات الحية). أما في أصقاعنا العربية، والإسلامية، فما برحت الفتاة لا تختار زوجها، بل يختاره والدها، أو أخوها، أو عمها. ولأن الحمار هو الذي علّم الإنسان شق الطرقات، فقد جحد الإنسان ذلك الفضل، وانتقم من أستاذه المهندس بإنزال الإهانة والمهانة عليه، وصار المثل الذي يدور على لسانه: مثل الحمير والدواب أولها للشقاء والعذاب وآخرتها للكلاب والذئاب. وهذا الكلام ليس فيه من النُبل أي نسرة، لأن النُبل مثل الألماس لا يمكن صنعه، بل يجب السعي للعثور عليه.
معارك ولحوم
الأميركي يحب لحم العجول، والهندوسي يحرّم ذبح العجول. والصيني يقرف من حليب البقر، فيما الأوروبي يتلذذ به. والفيليبيني يحب لحم الكلاب، بينما الأوروبي يذعر من هذا الطعام. والعربي يأكل لحم الأرنب الذي لا يختلف عن لحم القطط والكلاب، ويأكل لحم الجمل الذي لا يختلف عن لحم الحمير. واللبناني يأكل البزاق وكروش الغنم ومصارينها (غمة وفوارغ)، وهي مستودع البراز، ويأنف من أكل الجراد والضب (وما الفارق؟). والأوروبي والصيني
يستسيغان لحم الخنزير، أما المسلمون، واليهود أيضًا، فيكرهونه كراهية شديدة، لأنه نجس يتمرغ في روثه، ويأكل منه. بيد أن الأبقار بدورها تتمرغ في البراز والبول، وكذلك الخراف، وعلى غرارها يأكل الدجاج سَلْحه، ثم نأكله نحن. والمشكلة لا تكمن هنا البتة، فما ذكرناه إنما هو عادات الشعوب في طعامها؛ المشكلة هي التالية: كلما ذبح المسلمون في الهند العجول تنشب معارك يسقط فيها عشرات الضحايا من البشر المهابيل. وكلما جر هندوسي خنزيرًا ليطلقه في حي من أحياء المسلمين وقعت معركة يذهب فيها عشرات المساطيل. مهابيل ومساطيل؟ نعم، لأنهم ما زالوا يتقاتلون على الأبقار والخنازير التي هي أرقى منهم بلا شك. حتى الاحتفال بالأعياد في بعض البقاع العربية يصبح تظاهرة طائفية لنكاية الطائفة الأخرى.
كان سبينوزا يقول: ليس من الحكمة التفكير في الموت، الحكمة هي التفكير في الحياة. لكن "إنسان" هذه الأزمان لا يتورع عن التقرب من الله بالدم، كأنه ما زال في مرحلة القرابين البدائية. والجميع يستخدم الله في تجارته، أو سياسته، أو في معاركه. فأحد الضباط الحوثيين قال إن صواريخه أصابت أهدافها بفضل الله، كأن الله يعمل لديه مصححًا للرماية. وأحد التجار المصريين أكد أنه حقق أرباحًا أكثر مما كان يتوقع، على الرغم من الكورونا، وذلك كله بعون الله، كأن الله يعمل لديه مروّجًا للمبيعات. وسياسي لبناني فازت لائحته الانتخابية كلها تقريبًا بفضل الله، كأن الله يعمل لديه مديرًا لحملته الانتخابية. وقائد حزبي عراقي من جماعة الميليشيات الطائفية نجا من محاولة اغتيال مزعومة بفضل الله، كأن الله يعمل حارسًا لحضرته.
هل المطلوب في هذا الزمان المكروب الموت في سبيل الله، أم الحياة في سبيله؟ اتعظوا أيها الأشقياء، واخرجوا من أقماطكم، ومن الحيوان تعلّموا.