لطالما شَكَّلَ انتقاد الواقع وتعرية طبقاته أحد أهم خصوصيّات الرواية المغربية، ويكفي أن نستحضر ها هنا نموذجين لِعَلَمين بارزين في عالم الرواية، وهما: محمد شكري، خاصّةً في روايته الشهيرة "الخبز الحافي"، ومحمد زفزاف في مُجمل أعماله الروائية والقصصية، فقد استطاعت مجموعة من الأعمال السّرديّة أن تُقدِّم لنا تضاريس الواقع السريّ والمعلن وأن تغوص عميقًا في تركيبة المجتمع المغربي المعقّدة، راسمةً بمستوياتها التّعبيرية والفنيّة والجماليّة ملامح هذا المجتمع في علاقته بالناس قصد النّهوض بأحلامهم وتصوّراتهم وهمومهم، لكن، مع مطلع الألفيّة الثالثة وقبلها بقليل، بدأت الرواية المغربية في التّحرر من ما يُسمِّيه الباحث المغربي إدريس الخضرواي بـ"الهامش الاجتماعي" والتّوجه بالنّص الروائيّ نحو دهاليز التاريخ الدّاجيّة ومساءلته وتمثيل أسئلته الهادرة والحارقة في الآن نفسه.
إن أهميّة تخييل التاريخ تكمن في العَمَل على مساءلة الذّاكرة والحفر والخفر في طبقاتها المُعتمة. هذه الذاكرة التي تختزن قلقَ الوجود وهواجس الذات وسرديات مُفعمة بتفاصيل التّجربة الإنسانيّة، ولا غرو أن البحث والتّأمل في مسارات الرواية المغربية، يَتَعَيَّنُ بوصفه انشغالًا بتحوُلاتها وأهم القضايا التي تطرقها، وسواء أتعلّق الأمر بنصوص الواقعيّة الانتقادية أو التّخيليية التاريخية، فإن مسارها يستلهم رؤى وتصوُرات المجتمع وما تُتيحه من إمكانات لفهم أسئلتها الجديدة والحرص على استبطان أسرارها ودلالاتها. في هذا السِياق، يكتبُ الخضراوي: "اقترن مفهوم الكتابة بأسئلة الواقع بأبعاده المركبة ودينامياته المختلفة التي اجتهد الروائي في تمثيلها، سواء من خلال الارتكاز على ما تستبطنه الذات من تجارب أو خبرات شخصية تأخذ شكل الوثيقة رغم ارتباطها بما هو حميم وخاص، أو من خلال التخييل الذي يحتفي احتفاء كبيرا بما هو مرجعي من خلال تكثيف القرائن والعلامات الدالة على ارتباط الكتابة بزمنها المختلف"(1)، ومن هذا المنظور، تبدو الرواية المغربية أكثر التصاقًا بالواقع المنفلت وهموم الإنسان المغربي في مجابهة خطابات الإذعان والامتثال والتّسلُّط.
1. الرواية باعتبارها تشخيصًا للواقع
يحضر الإنسان المنسيّ والمقموع في الأعمال الروائيّة المغربية بصيغٍ شتّى، ووفق منظورات كاتب الروايّة، وهذا الحضور المأساوي للإنسان يُرسّخ رؤى متعددة للواقع المعيش، في مسعى لكتابة نصوص مُطابقة لما يمور به الواقع من متغيّرات وتحوّلات. إن البقاء بجانب نبض الإنسان هو بقاء بالقرب من العالم، حيث الإنسان جزء لا يتجزّأ من هذا العالم، بما ينطوي عليه من تناقضات اجتماعية وسياسية وتاريخية، وعليه، فإن وظيفة الرواية، ليست في تشخيص هذا الواقع ومحاولة نقله إلى قرّاء مفترضين فحسب، وإنّما من جانبٍ آخر الإحالة على سؤال التخييل وقدرته على الاشتباك مع الشخوص واللغة والحواريّة والفضاء الاجتماعي الذي تَشَكَّلت فيه بذرة السرد الأولى، من هنا، يَتَبَيّنُ أن الواقع الاجتماعي بقدر ما هو مادة للتخييل والتحبيك بقدر ما هو فضاء متعدد وممتد في لعبة الزّمن والأفق للكتابة.
بهذا المعنى من المطابقة بين المادّة السردية والواقع، تكتسبُ الرواية هذه الخصوصيّة، وتبقى قريبة، متفاعلة مع السياقات الاجتماعية، ولا نعني بذلك، استنساخ الواقع ونقله إلى الجمهور بطريقة آلية وبرؤية ضيقة، لا تحمل بين ثناياها أيّ دلالة ثقافيّة أو اجتماعيّة، بل يتم تقديمها للقارئ على أنّها تجربة خرساء ومجال فارغ من القيم والدلالات، فـ"الشكل الأدبي سلوك اجتماعي يعكسُ تحولًا وثقافة مجتمعية، ويستجيبُ تبعًا لذلك لهذا التّحول بهدفِ احتوائه والتعبير عنه في أدق تفاصيله"(2)، وها هنا، تكمن فنيّة المتخيّل السّردي، في قدرته على استكشاف الذات وأدق تفاصيلها الملتهبة، وفي طرْقِ مواضيع غير ملتفت إليها وغير مُفكّرٍ فيها. إن سرّ انجذابنا للرواية، خصوصًا في الألفيّة الثالثة، لا يكمن في أنّها أضحتْ أكثر التحامًا بذائقة التّلقي فحسب، وإنما، إلى جانب ذلك، تقوم "بموضعة الذات داخل الوجود الإنساني"(3)، وإعادة تشكيل خطاب سردي تخييلي يضعنا في تماسٍ مع التّجربة الإنسانيّة ككل.
إنّ الانشغال بتأويليّة الواقع ومادّة السرد ما هو إلا إحالة على صورة الذات المبدعة الساردة ونبض الحياة فيها، لأن "الحياة ما هي بحث عن سرد، لأنها تُجاهد من أجل اكتشاف صيغة للتغلب على تجربة الرعب والفوضى"(4)، بهذا المعنى من التّوسط في تشخيص الواقع ونقله سرديًا إلى القارئ، يَتَبَيّنُ أن الخيال السّردي يسمح بتجاوز معضلات الواقع الاجتماعي إلى الاهتمام بالرؤية الرّحبة لفنّ الرواية، وكذا النّهوض بالمادة السّردية حتّى تبقى قريبة من نبض الإنسان والعالم، وعلى ضوء هذه الصلة الوثيقة بين الإنسان والعالم، تتحدّد ملامح الفاعليّة السّرديّة في زمنٍ مفتوح على ديناميات كثيرة، ومشدوهٍ إلى روح التّغيير والتّطور، مما يتطلّبُ البقاء في صلب انشغالاتها وما تطرحه من أسئلة عميقة.
2. التّخييل والسّجل التّاريخي: سردٌ برؤيةٍ مُختلفة
لقد شكّل الانتقال من الواقعيّة الانتقادية إلى استلهام التاريخ والعمل على إعادة إنتاجه وتخييله في ظلّ التّحولات الجذرية التي عرفتها الرواية المغربية مع إشراقات الألفية الثالثة، محطّة مِفصليّة لفهم مساراتها وإبدالاتها الجماليّة والفنيّة والبنائيّة، ولا شك في أنّ هذه التّحولات على مستوى الشكل والمضمون، قد أسّست لسردٍ برؤيةٍ مغايرة ومختلفة، يجدُ سنده الأساس في بلورة وعي جديد على قدرة الرواية على صوغ أسئلة جديدة، وبالتالي، الرّهان على السّجل التاريخي في وضع مرجعيات للكتابة ومعرفة حياة الإنسان في ضوء الإنصات لصوت الماضي، القمين بإخراج الإنسان من جبّة الهامش الاجتماعي والانتقال به إلى مستويات أخرى، حيث المجال الرّحب لنسج خيوط السرد والانفتاح على التّاريخ.
إن لعبة السّرد وهي تمضي حافرةً تحوّلاتها في أرض الإبداع، تؤشِّر على تغيّر في الكتابة والرؤية والتّلقي والبناء، خاصة "التّحولات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي شهدها المغرب بعد حصوله على الاستقلال، واستجلاء العلاقة الملتبسة بين الواقعي والخيالي، وبين السياسي والعاطفي، وبين الجماعي والشخصي"(5)، فهذه الارتجاجات أسهمتْ في تبدُل الوعي ورسم آفاق جديدة للسرد المغربي وتوسيع مساراته. ومن اللافت للنظر، أن عددًا من الأعمال الروائيّة التي حرصتْ على استدعاء رموز تاريخية، سواء أتعلّق الأمر بشخصيات طبعت التاريخ العربي أو أمكنة أو أحداث.. تجد ضالّتها في ربط ذلك بالواقع المعيش، وكأن الأمر يتعلّق بنوعٍ من الامتداد بين الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، ويكفي أن نذكر في هذا الصّدد، مجموعةً من الأعمال الروائيّة التي جعلتْ من المادة التاريخيّة فضاءً للسرد والرّهان الفنيّ: "أبو حيّان في طنجة" لبهاء الدين الطود (2008)، "هذا الأندلسي" لبنسالم حميش (2008)، "رباط المتنبي" لحسن أوريد (2019)، "جارات أبي موسى" لأحمد التوفيق (1997)، وغيرها من الأعمال، ومن المهم التّشديد، ها هنا، على أن تماهي السّرد مع المادة التاريخيّة، يُعطي للنص حيوات أخرى.. مسارات أخرى تُقرِّبُ التّجربة الإنسانيّة من كشوفات السَّجل التاريخي، وما ينطوي عليه من فاعليّة تتأسّس على التعالقات التناصيّة. وفي هذا السيّاق، من التّغير في أنماط ورؤى السّرد، تتبدّى هذه القدرة على تمثيل الواقع المغربي، من خلال إعادة إنتاجه على خلفيّة تاريخية، "وبهذا المعنى، تصبح وظيفة الرواية كامنة في تقوية الذاكرة الجماعية من خلال التمثيل السّردي لمجموعةٍ من الأحداث والوقائع والرموز التاريخية التي ترتبط بها الجماعة في الحاضر والمستقبل"(6).
إن القراءة العميقة للتاريخ والإفصاح عن كوامنه من خلال السّرد، أخرجت الرواية المغربية من شرنقة "الهامش المنفلت" ومحكيات الواقع الاجتماعي، من حيث هو دالٌّ على الأحلام الوردية التي تتلاشى بفعل القمع والتّسلط ووهم الآمال الخادعة، نحو استعادة أنماط السرد التراثيّة ومحاولات إحيائها من جديد، وهكذا، فإن الرواية المغربية تتذرّى بوصفها أفقًا خصبًا للتجريب وخلخلة الكتابة والابتعاد عن النّسقيّة، وفي ذلك غنى وتنويع للمتن الروائيّ، كما أنّها تفتح الباب أمام تأويلات عديدة وفق مقتضيات كتابيّة وتخييلية تستبطنُ وعيًا مهمًا بقيمة المغايرة والاختلاف.
الهوامش:
(1) إدريس الخضراوي، سرديات الأمة، تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، أفريقيا الشرق، ط 1، 2017، ص: 51.
(2) عبد الرزاق هيضراني، جداول الكتابة وأوفاقها الثقافية في القصة القصيرة العربية المعاصرة، منشورات دائرة الثقافة بالشارقة، ط 1، 2017، ص: 14.
(3) عبد الخالق عمراوي، السرد وتصوير العوالم السفلية في رواية "أهل البياض" لمبارك ربيع، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، العدد 12، خريف/ شتاء 2018، ص: 31.
(4) بول ريكور، الذاكرة والسرد: حوارات، ترجمة وتقديم: سمير مندي، دار كنوز، الأردن، ط 1، 2016، ص: 30.
(5) محمد الداهي، ضمن مقال: "محمد برادة.. مفرد بصيغة الجمع"، البحث عن الذات بين جيلين- جماعة من الباحثين- تنسيق وإعداد: محمد الداهي، منشورات دار الأمان، الرباط، ط 1، 2017، ص: 9.
(6) إدريس الخضراوي، سرديات الأمة، م. س، ص: 145.