إن الرهان على الانتقال من معيار النَّموذج إلى القيمة الشعرية هو محاولة لإضفاء مفهوم جديد للشعرية العربية، لا سيما أن زوايا النظر إلى الذات والأشياء المُؤَطَّرَة "ببنية ثقافية محافظة وتقليدية كثيرًا ما تستبعد المغامرة الإبداعية، ولا تعترف في الغالب الأعم إلا بما يمجِّدُ التكرار، وينخرط في النماذج التي تَتَبَنَّاها الأطر المؤسسة الرسمية"(3). وعملية الانتقال هذا في غاية الأهمية، لأن النص الشعريّ يَتجدّد برؤى جديدة، ويُشَكِّلُ نظرة واضحة حول العالم وأسئلته الحارقة. والثابت لدينا أن الشعرية العربية المعاصرة قد مرَّت بتحولات مهمة قادتها إلى طَرْقِ عوالم جديدة "من دون أن تفرط في مكتسبات الشعرية العربية القديمة، فالشاعر المعاصر، ظل منشغلًا بسؤال الإبداع باحثًا في ما يجدد الحياة ويفك ألغازها، بل ماضيًا قدمًا في سبيل تحرير الإنسان من كل جمود أو ركود"(4). بهذا المعنى، تصيرُ الكتابة الشعرية مساءلة للذات... مساءلة للممكن والمستقبل، إنها بهذا الفهم رؤيا للعالم والأشياء، وتجاوز لهسيس اللغة إلى جانب الهجس الجمالي والفني في العوالم التي تحيط بالشاعر وتحتويه، حتى تُهْتَكُ الحجب وينبجس منها شعاع النور والكلمات.
ما يُستفاد من هذا الكلام أن الكتابة الشعرية حين تَتَخلَّى عن تخومها وتنفلت من حُبْسَةِ المعايير، آنذاك تستطيع أن تُحقق وعودها، وتتجاوز لحظة الانبثاق إلى لحظات أكثر إشراقًا، إنها بعبارة أخرى، شعرية جديدة تنشغل بأسئلة الذات وتجليات الكون، لكنها، ـ من زاوية أخرى ـ "في حاجة ماسة إلى نقد يعرف بها ويقترب من عوالمها المغايرة، نقد يمد جسور التواصل بين الشاعر وقارئه، ويقلص الهوة بين المنجز الحديث والذائقة الشعرية، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة والادعاءات المسبقة"(5)، فالنص الشعري مزيج من الأحلام والدهشة والكشف، ومنه تَتَوَلَّدُ رؤى العالم وتخييلات الذات في علاقاتها المتشابكة مع اللغة، ومن ثم، فإن هذه التحققات النصية الجديدة لا ترتهن في أفقها لإكراهات القصيدة ـ الهبة التي تَتَبَدَّى فعلًا وقولًا ووجودًا، وهي تَتَنَزَّلُ من شقوق اللغة والإيقاع العروضي.
لقد بدا واضحًا أن الشعرية العربية اختارت طرائق أخرى للبوح والتَّشَكُّلِ مُعْلِنَةً انخراطها في أسئلة الحداثة ووعودها المنفلتة، بعيدًا عن تشكيلات الإيقاع ومعيارية القول الشعري، كما نَظَّرَ لها القدامى وشومًا على الجسد الثقافي العربي طوال حقبه الشعرية، ومن ثم، فإن تَفَتُّقَ التجارب الشعرية الجديدة شكلًا وبناءً ومضمونًا وانفتاحها على مُمْكنات الكتابة، جَعَلَ الشعرية العربية تَخْتَبِرُ مجهولها وتنشغل أكثر من هُجنة الأجناس، ومن الإمكانات التي تُوفِّرُها حين تلتحم مع القول الشعري، أو متقاطعةً معه في كتابة نصيَّة مفتوحة "على مختلف التشكيلات الثقافية والخطابية، هيّأت أيضًا لمفهوم شعري جديد، يولد فيه الشكل من أنقاضه في الممارسة وتحولاتها"(6)، وضمن هذه الشروط المُؤطِّرَة للشعرية العربية وتحولاتها، يَتَوجَّهُ الخطاب الشعري نحو الأمام، مُحاولًا تحديث القصيدة العربية وتجاوز المقولات النقدية التقليدية وضوابطها، حيث الشعر الخلاّق الرؤيوي ينبثق "عن الشاعر باعتباره رائيًا وخلاقًا: من نظرته الجديدة للعالم، من إيقاعه الروحي الجديد، من توقه إلى الإبداع الحق، وأخيرًا من وعيه بهذا الإبداع ضرورة وخلقًا"(7)، وسيسمح بنقل جمرة الكتابة من دلالاتها المتحجبة إلى منازل أخرى، حيث تتغيّر المسارات وتتضاعف الإقامة في الشعر، وهو ما يُلغي تلك التخوم الوهمية التي فُرضَتْ قسرًا.
إن تحقق الوعد الشعري السامي يَتَطَلَّبُ التأمل في مسارات الشعرية العربية والتَّوقف عند أسئلتها المُتَشَعِّبَة والمربكة، وفي لحظات انبثاقها الحضارية والتاريخية والثقافية، لذلك فإن الحديث عن انتقال من سؤالٍ للكتابة إلى سؤالٍ آخر لا يُلغي هذه التماهيات مع كل ما كُتب وما تم التنظير له في سياقات معرفية معينة، وإلا سَقَطْنَا في شرك القطيعة والتّفكك والارتجاج، وهو مأزق من مآزق متعددة للنقد العربي. إن قوة الانفتاح هاته تَضَعُنَا تلقائيًا في خضم التّحولات الجذرية التي عاشتها الشعرية العربية، وهي تحولات لها صلة بالكتابة الشعرية في كونيتها واختلاف أجيالها وحساسياتها، وغير مرتهنة في أفق معين، بل هي تصوّر لفعل الكتابة مُنِبثِقًا من التوهج والعزلة البيضاء المنتجة والابتهال والانكباب على الكتابة ولا شيء غير الكتابة. ووفق هذا التصور من المجاورة والإقامة في الوعي الشعري، يأتي الدفق الدائم الأزليّ من روحية الكون ورحابته مُلْتحمًا مع الجملة الأولى، وهي تتلعثم مُخْتَرِقَةً كيمياء التحول في تشكله البدئي، وتنتهي مثل جمرة مشتعلة بين يدي الشعراء المبدعين، فهم "يعرفون كثيرًا من الأشياء ما تزال حكمتنا المدرسية غير قادرة على الحلم بها، لأنهم يعبون من ينابيع لم نجعلها بعد قابلة للإدراك"(8). وهكذا، فإن الوعي بالكتابة، بقيمة ما نكتبه بعيدًا عن النموذج المعياري الممتد على طول الأزمنة، فالذي تحقَقَ من تحولات أفقية على مستوى الشكل والمضمون، بالموازاة مع التحققات النقدية الموضوعية وتطور نظريات الأدب، يَدُّلُّ على وعي مضاعف بتجربة الكتابة في توقيعاتها السرية والمعلنة، لذلك تكون الشعرية بمثابة آثار جديدة، متجاوزة للحدود، وبيانًا للتنافذ بين الشعري والنثري في الكتابة الشعرية في شكلها الحديث والمعاصر.
الإحالات:
(1) أدونيس: فاتحة لنهايات القرن ـ بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة ـ دار العودة، بيروت، ط 1، 1980، ص: 338-339.
(2) عبد اللطيف الوراري: في راهن الشعر المغربي، من الجيل إلى الحساسية، منشورات دار التوحيدي، ط 1، 2014، ص: 33.
(3) محمد نور الدين أفاية: الحداثة المعلقة بخصوص الخيال في الثقافة المغربية، مجلة الثقافة المغربية، العدد 17، أكتوبر، 2000، ص: 20.
(4) أحمد زنيبر: الانحياز إلى القصيدة، قراءات في المتن الشعري الحديث بالمغرب، منشورات اتحاد كتاب المغرب، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ط 1، 2012، ص: 11.
(5) المرجع السابق، ص: 08.
(6) نبيل منصر: ضمن مقال: الإيروس وحلم التسمية في كتاب الشظايا، مجلة "البيت"، عدد خاص عن محمد الأشعري، منشورات بيت الشعر في المغرب، العدد 39، خريف 2021، ص: 18.
(7) علي جعفر العلاق: في حداثة النص الشعري، فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط 3، 2011، ص: 06.
(8) عبد الله سليم الرشيد: شعر الجن في التراث العربي، مظاهر وقضايا ودلالات، منشورات المجلة العربية، الرياض، عدد 425، ص: 79.