بعد نهاية القرن العشرين، ومع بداية الألفية الثالثة، تَعَالتْ أصوات تنادي بـ"موت الأدب"، أو "أفول الأدب"، أو "احتضار الأدب"، وهي كلّها تسميّات تزيد من الشعور بوجود أزمة في الأدب، وفي وظيفته وفي تَلَقِّيه. والواقع أن هذه الأصوات المُنَبِّهَة لـ"موت الأدب" ليست مخصوصةً بالأدب فحسب، وإنما ثَمَّةَ حديث هنا وهناك عن "موت الأخلاق"، و"موت الإنسان"، و"موت القيم"، و"موت الفن"، وغيرها من الأطروحات التي قَلَبَت حياة النَّاس رأسًا على عقب، وحَوَّلَت طريقة تفكيرهم وفهمهم إلى درجة أنّها فصلتهم عن الوضع الاعتباري للأدب.
إن هذه الكتابات المتواترة بخصوص موت الأدب والإعلان عن حقبة جديدة في تاريخ البشرية، تؤكد بالملموس مدى ملازمة الأدب للإنسان، ومعه نطرح السؤال الآتي: هل فعلًا أن "الأدب في خطر"، كما تَنَبَّهَ إلى ذلك الناقد الفرنسي ــ البلغاري تزفيتان تودوروف؟ فمن المعلوم أن القرن العشرين هو قرن النهايات، غير أن راهنيّة الأدب تفرض إعادة التفكير في مساراته ووضعياته وسياقاته، فأدب اليوم يختلف كليًّا عن أدب الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وكل مرحلة من تاريخ الأدب الإنساني هي بمثابة مرحلة لها خصوصياتها وإشكالاتها. ومن المؤكد أن كل مرحلة لها نهاية حتمية ومحتملة، لأنها واقعةٌ تحت قوى ضاغطة، غير أنه، ومن زاوية أخرى، يُمكن النظر إلى الأمر بنوعٍ من المرونة والتَّبَصُّر، ذلك أن الأدب سيرورة أفكار، وَتَمَوُّج للتاريخ، وحلقة مترابطة تنطلق من الإنسان في اتّجاه الإنسان، لذلك، فأفول الأدب في خطابات الألفية الثالثة وما بعدها ليس مفصولًا عن السياق العام لسيرورة الأدب، وإنما هو هاجس يسكن التفكير البشري ويُلازمه باعتباره يَتَعَيَّنُ قلقًا وجوديًّا، أو سؤالًا في الكينونة، أو مظهرًا من مظهر الهوس الفكري.
في ضوء هذه الخطابات المُسْتَجَدَّة بخصوص مسار الأدب ووظيفته، لا بد من الإشارة إلى أن حقبة الألفية الثالثة قد شَهِدَت ثورة كبرى في مختلف الوسائط الرقمية والإلكترونية، فَعَمَّقَتِ الفجوة بين الإنسان والأدب، ففي وقت قريبٍ، كان الإنسان في أوقات فراغه، يَنْصَرف إلى قراءة الشعر والقصص والروايات طلبًا للمتعة ونشدانًا للمعرفة والثقافة بدل الجلوس ساعات طويلة أمام شاشات السينما والتلفزيون من دون أي فائدة تُذْكَر... هكذا تَحَوَّلَت المعرفة من كُتُبِ الأدب إلى معرفة أخرى أساسها الصورة وعبورها في مُتَخَيَّل الإنسان، ومن ثم، أضحى الأدب ضَحِيَّةً للثورة الرقميّة إيذانًا بـ"موت الأدب"، أو هكذا يَتَصَوَّرُ عدد من الكُتَّاب والفلاسفة والأدباء. وبتأمُّل العناوين الآتية: "الأدب في خطر" لتزفيتان تودوروف، و"لم يصلح الأدب" لأنطوان كومبانيون، و"ضدًا على سانتبروست، أو نهاية الأدب" لدومينيك مانغونو، إضافة إلى فكرتي "موت الإنسان" التي انتشرت في الأوساط الثقافية مع فورة البنيوية، و"موت المؤلف" التي نادى بها الناقد الفرنسي رولان بارت، سنلمس رغم الاختلاف في الرؤى والتّصورات أن هذه الأطروحات تتنافذ كلها وتتقاطع عند نقطة هامة، وهي نزع هالة الحياة عن الأدب، والتبشير بأفوله.
غير أن هذا المعطى الذي يربط موت الأدب بالثورة الرقميّة لا يُبَرِّرُ وجود هذه الأزمة التي يعرفها الأدب في وقتنا الراهن، وازدياد الشعور بالخوف في قيمته ووظيفته ودوره في حياة الإنسان. إن الأدب لا يموت، ولن يموت، فهو مرتبط أيَّما ارتباط بالإنسان، وإنما هي أطروحات تَتَغَذَّى من إرهاصات فكر معطوب، وتاريخ مرتهن لِتَوَحُّشِ العولمة، ونزوع الإنسان نفسه نحو فضاءات أخرى ضاغطة وأكثر استلابًا لحياة الإنسان، كالتقنيّة، والفضاء الرقمي، والغُلُوّ في الفردانية، والميل نحو العوالم المغرقة في التجريد والاستيهام، ومن ثم، تَجَدَّدَ خطاب النهايات، وتَعَمَّقَ أكثر في الدراسات والأبحاث، بل ساهم في تَبَدُّل حياة الناس وطريقة تفكيرهم وعيشهم، لكن، ألا يمكن للثورة الرقمية أن تكون رافعةً للأدب؟ بمعنى آخر، في إمكان الفضاء الرقمي أن يُسهم في انتشار الأدب، وبثِّ الحياة فيه، بدل أن يكون كالسم في الدسم، وإتاحة الفرص أمام الأدب بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، أن يقتحم العالم الافتراضي، ويُقيم بين ثناياه إيجابًا لا سلبًا، تفاعلًا لا انفعالًا، حياةً لا موتًا، وبذلك، تنتفي شروط الموت والأفول والاحتضار نحو الإقبال على الحياة والتّفاعل مع إيقاع الحياة السريع.
إن استقلالية الأدب وحياته هي تعبير عن وجود الإنسان في عنق إشكالات العصر وديناميته التي لا تنتهي بمجرد صيحات تُسْمَعُ هنا وهناك، فالإقرار بجدوى الأدب ومشروعيته لا يحتاج منِّا كل هذا "التبيين والتبين"، بل هي مسألة واقعة في صميم التفكير البشري، وما نفور الناس من المقروء والمكتوب إلا ضرورة حضارية أملتها التّحولات العميقة التي يعرفها العالم منذ التسعينيات إلى وقتنا الراهن، بيد أننا بنظرة عجلى مُتَبَصِّرَة للواقع الثقافي والأدبي، سنلاحظ أن ثمة نقطة ضوء وسط مساحات كبيرة من العتمة، لكن، في إمكان تلك النقطة الوحيدة أن تُلامس مساحات أخرى، وتكشف نداءات الحياة بدل تعاليم الموت، وقد تكون مِحَكّا لقدرة الإنسان على صوغ ذاته إزاء الضوء المنتشر في العالم، ويُحارب العمى المُستفحل، ثم يَتَوَجَّه إلى إدراك الجواب عن السؤال المؤرق: ماذا يعني لك الأدب؟ ومن الطبيعي أن تكون هنالك إرادة مشتركة بين الذات والضوء، وبين الموت والحياة، إذاك، يُمكننا القول وبصوتٍ عالٍ: إن الأدب باقٍ يَتَمَدَّد...