}

المثقفون السوريون والإرث التاريخي

رشا عمران رشا عمران 14 أكتوبر 2021
قبل وفاته بأربع سنوات أصيب والدي بفشل كلوي اضطره للسفر إلى الهند لإجراء عملية زرع كلية بديلة. سافر وعاد بكلية جديدة، ولكن أعضاء جسده لم تستطع التأقلم معها، فحدث الفشل الكلوي مجددًا وانتهى به إلى الرحيل باكرًا عام 1996. عملية زرع الكلية دُفعت تكاليفها من قبل الدولة السورية، أو بالتحديد بتكليف من حافظ الأسد، بعدها كتب والدي (محمد عمران) قصيدة عمودية، وهو الشاعر التفعيلي، اسمها (لنا الأرض)، غنتها بعد رحيله الراحلة ربا الجمال ولحنها الفنان صفوان بهلوان، والقصيدة عن الشام وفيها ذكر موارب لحافظ الأسد (حامل الأمانة). لم يكن والدي وحده من تحصّل على تلك (المنحة)، فسعد الله ونوس أيضًا الذي أصيب بالسرطان تم علاجه على نفقة الحكومة بتكليف من حافظ الأسد، ويتذكر الجميع يوم المسرح العالمي حين ألقى سعد الله كلمة يوم المسرح بتكليف من منظمة اليونسكو عام 1996 قبل رحيله بشهرين فقط، وهو في أوج مرضه وشكر فيها حافظ الأسد الذي جعله يستغني عن كل المبادرات الدولية لعلاجه، مع أن علاج أي مواطن مهما كان هو حق له وواجب على الدولة، لكن النظام السوري كان يستثمر حتى في مرض المبدعين لصالحه.

حين مات باسل الأسد عام 1994، وهو الابن الذي كان يتحضر لوراثة والده في الحكم، أرسل نزار قباني برقية عزاء إلى حافظ الأسد كانت العنوان الأول في الجرائد السورية الثلاث قال فيها بالحرف: (السيد الرئيس حافظ الأسد لم يكن باسل حبيبك وحدك وإنما حبيب كل ذرة من أرض الشام، وحبيب كل شجرة وكل نجمة وكل غيمة وكل حمامة وكل سنبلة قمح في حقول الوطن، لقد ذهب باسل إلى السماء لأنها كانت بحاجة إلى فارس جميل ونبيل وشجاع مثله، ولا قدرة لنا سيدي الرئيس على التدخل في خيارات السماء، أنحني أمام حزنك الكبير وجرحك الذي لا ضفاف له، وأعرف أن كل المراثي في الدنيا لا تكفي لرثاء وردة).

 لو لم يكن لدى زكريا تامر وطن آخر غير سورية يمكنه العودة إليه هل كان ليقول علنًا في دمشق ما قال في تأييد الثورة وهو في أكسفورد 



في أواخر سنوات حياته (رحل عام 2006) أنتجت مديرية المسارح في سورية مسرحية كتبها محمد الماغوط وأخرجها الممثل زهير عبد الكريم، والمسرحية قُدّمت بعد خروج الجيش السوري من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري وفيها تعرّض كبير لشخصية الحريري، كما لو أنها كتبت فقط للسخرية منه. يومها قيل إن المخرج تصرّف بالنص الذي لم يكن هكذا. المخرج زهير عبد الكريم لم ينكر، لكنه قال إن تغيير النص تم بموافقة الماغوط وتحت إشرافه. وفي زيارة للماغوط بمعيّة صديق إلى بيته في المزرعة سألناه إن كان يعرف عن التغييرات في النص، قال لنا بالحرف الواحد: نعم.. زهير أخذ موافقتي على ذلك. الماغوط كان يكتب مقالًا أسبوعيًا من 200 كلمة في جريدة "تشرين" مقابل مبلغ مادي ضخم يستحقه حقًا شاعر بحجمه، لكن من قرّر منحه هذا المبلغ لم يكن يعنيه أن الماغوط يستحق مبلغًا كهذا أم لا، بل ما يعنيه، هو أن الماغوط، تحديدًا، يكتب في جريدة رسمية، كي يتمكن من استثمار الاسم لصالحه.

بعد سنوات طويلة من حياته في أكسفورد عاد القاص السوري زكريا تامر إلى دمشق عام 2005، بعد زيارات متقطعة لها بدأت من 2002، وحين استقر في دمشق كتب سلسلة مقالات أسبوعية في جريدة "تشرين"، ثقافية وسياسية، كانت المقالات السياسية في أغلبها تتحدّث عن المؤامرة على سورية باتهامها باغتيال الحريري، والخروج (المشرف) للجيش السوري المقاوم والمناضل من لبنان، وتمجّد في حكمة القيادة السورية ومقاومة حزب الله وزعيمه حسن نصر الله. بعد انطلاقة الثورة عاد زكريا تامر إلى أكسفورد وأعلن موقفًا مؤيدًا للثورة، لكن تخيلوا لو أنه لم يكن لديه وطن آخر غير سورية يمكنه العودة إليه ويؤمن له الحماية حين يصرح عن موقفه السياسي، هل كان ليقول علنًا في دمشق ما قال في تأييد الثورة وهو في أكسفورد؟

يمكننا أيضًا سرد الكثير عن شخصيات ثقافية وفنية سورية، في زمن الأسدين، فمثلًا يذكر كثيرون موقفًا لممدوح عدوان (رحل عام 2004 إثر مرض عضال وكان أيضًا يعالج على نفقة الحكومة السورية) حين قال في أحد اجتماعات اتحاد الكتاب العرب: (إن الحكومة تكذب حتى في أخبار الطقس)، جيد جدًا، ولكن هل يختلف هذا الكلام عما كان يقوله دريد لحام ومحمد الماغوط في مسرحية "غربة" ومسرحية "ضيعة تشرين" وغيرهما؟ هذا النوع من الكلام الذي يوحي وكأن هامش الحرية مسموح ومفتوح، لكن الحقيقة أن الانتقاد كان يقف عند الحكومة فقط، أما سياسة النظام أو شخص الرئيس فهو ما كان الجميع يدركه: خط أحمر.

 لم يقل رفاعية كلمة واحدة عن الثورة ظل صامتًا، ومثله حنا مينة وغادة السمان 



توفي الروائي السوري ياسين رفاعية عام 2016 في بيروت، التي كان يعيش فيها منذ زمن بهدوء وصمت، يشبه صمته عن الحدث السوري وثورته العظيمة ومأساة السوريين غير المسبوقة. لم يقل رفاعية كلمة واحدة عن ذلك، ظل صامتًا حتى رحيله. من كان يمكنه أن يعرف ماذا كان يفكر أو ما هو رأيه بكل ما حدث؟ يمكن لكل طرف أن يجيّر صمته لصالحه، هذا عيب الصمت أساسًا، هو موقف مزدوج ميّز مثقفين سوريين ينتمون إلى نفس الجيل الثقافي الذي أوردت عنه أمثلة، أو إلى الجيل اللاحق وما زالوا على قيد الحياة، ويعيش معظمهم في سورية حتى اللحظة، أو حتى من منهم خارج سورية منذ زمن. من يعرف من السوريين ما هو موقف غادة السمان من الحدث السوري؟ لم تقل السمان كلمة واحدة لا ضد النظام ولا معه، كتبت مرة فقط أنها تتألم لهجرة السوريين وتشردهم بدون أن تذكر من كان السبب في ما أصابهم. مثلها حنا مينة الذي رحل عام 2018 في دمشق، لم يذكر كلمة واحدة عما يحدث في سورية وكأنه ما كان يعيش في نفس البلد الذي يحدث فيه ما حدث.

ولكن مهلًا، هل نطق كل من ذكرتهم وغيرهم من مثقفي سورية أي شيء عن مجزرة حماة التي حدثت عام 1982؟ في الحقيقة، وأنا أكاد أعرفهم جميعًا منذ طفولتي، لا أتذكر أن أحدهم تحدّث يومًا عن تلك المجزرة إلا بوصفها أزمة عصفت بسورية ومرّت بسلام، ولم يسعفني العم غوغل بأي حرف عن هذا الأمر، هل تحدث أحدهم ولم يتم تدوين موقفه أو رأيه؟ لا أعرف، كنت أظن أن الخوف مما حدث في حماة لجم ألسنة الجميع، حتى لو في قرارة أنفسهم كانوا يعرفون ما حدث لكن الخوف جعلهم يتواطؤون على الصمت، وينخرطون في قلب النظام الثقافي في سورية، كانوا جميعًا مسؤولين عن صفحات ثقافية، أو في مواقع مسؤولية في اتحاد الكتاب أو وزارتي الثقافة والإعلام، أو كانت مواقفهم السياسية الغاضبة لها طابع شخصي لا عام. من دفع الثمن هم المثقفون الذين انتموا فعليًا لأحزاب صنفت بأنها معادية للنظام وتم اعتقالهم لسنوات طويلة، انقسموا بعد الثورة، منهم من أيّد الثورة ومنهم من ساند النظام بكل ما يفعله، ومنهم من صمت تمامًا وكأن الطير فوق رأسه.

ينتمي هذا الجيل ومن تلاه إلى سنوات الهزائم العربية الكبرى، النكبة والنكسة واحتلال مدن وأراض عربية، معظمهم أبناء أرياف كبروا محمّلين بأحلام ثورية محمولة على روافع أحزاب أيديولوجية وقومية: البعث والقومي السوري والحزب الشيوعي، وكبروا أيضًا محمّلين بعقائد دينية ومذهبية معظمها يعتمد التقية كمبدأ أساسي. حتى أبناء المدن السورية لم يبتعدوا كثيرًا عن مبدأ التقية، فمنذ الاحتلال العثماني لبلاد الشام ولحواضرها، كان السوريون يظهرون عكس ما يخفون، جعلهم الخوف من بطش السلطنة يعتمدون التقية كمبدأ عام للحياة، كما أن التجارة التي امتهنها أبناء المدن السورية الكبرى كان يناسبها مبدأ كهذا كي يتجنب أصحابها الخسارة، ففي التجارة والسياسة معًا فإن الوضوح والصراحة سيدفع أصحابهما ثمنًا غاليًا، والتقية التي اعتمدتها بعض المذاهب الإسلامية أتت من الخوف من بطش السلاطين وأعوانهم، أي من منشأ سياسي تراكم مع الوقت ليصبح مبدأ عقائديًا دينيًا.

هل نطق كل من ذكرتهم وغيرهم من مثقفي سورية أي شيء عن مجزرة حماة التي حدثت عام 1982؟ 



والحال أنه لم تكن لدى هذه الأجيال الثقافية أية فرص لإثبات حضورها خارج النظام، فعدا الخوف التاريخي المتراكم في اللاوعي الشخصي والجمعي، هناك تقية المنفعة التي باتت جزءًا من الشخصية العربية التي لم تعرف سوى الهزائم الكبرى وآثارها المدمرة من تاريخ طويل، هذه المنفعة قد لا نعيها في أنفسنا، ولا نستطيع توصيفها، لكن هي أيضًا من الظواهر النفسية للمجتمع السوري التي كشفتها الثورات، مثلما كشفتها تقنيات التواصل الحديثة بما أتاحته من سهولة ويسر في اكتشاف المعلومة والحدث والأقوال والسير الشخصية، هل يمكن لأحد أن يفسّر السبب الكامن وراء برقية التعزية التي أرسلها نزار قباني لحافظ الأسد، وهو المقيم خارج سورية والمحمي بتاريخ وحضور شاهق يمكّنه من مواجهة أقوى ديكتاتوريات العصر الحديث؟

وأنت ذاهب باتجاه قرية (قصابين) في قرى مدينة جبلة سوف تجد لافتة قبل القرية مكتوب عليها: (الطريق إلى بيت أدونيس). سوف تتجه إلى اليمين في طريقك إليه حيث ستجد بيتًا جميلًا وبجواره مقبرة كانت ستكون المكان الذي سيدفن فيه الشاعر الكبير عندما يحين الوقت. يتصرف أدونيس هنا كما لو كان شيخ طريقة، محملًا بميراث له علاقة بطقس الموت والحضور لم يستطع التخلي عنه، وهو ما يفسر أيضًا أن أهم الشخصيات السورية السياسية والثقافية في العصر الحديث دفنت في أماكن مسقط رأسها، وليس في العاصمة دمشق على غرار الدول والمجتمعات الكبرى. لم يستطع السوريون يومًا التخلص من موروثهم الديني والإجتماعي، لا أبناء المدن ولا أبناء القرى، ولا أبناء الأقليات ولا الأكثرية، ولا حتى من عاش منهم لسنوات طويلة في مجتمعات منتهية من هذه الأمراض منذ زمن طويل، وفي ظني أن الأمر لا علاقة له بتأثير البيئة الديني فقط، بل بتاريخ طويل جدًا من الخوف والتقية لم تفلح حتى ثورة عظيمة من التخلص منه. وما يحصل حتى اليوم من اتهامات بالطائفية والاصطفافات المؤدلجة والصمت عن الجرائم أو محاولات إيجاد ذرائع لها، واستبدال زعيم بآخر، لا يقل استبدادًا عمن قامت الثورة ضده هو أحد تمظهرات ذلك التاريخ، فلم سيكون المثقفون السوريون مختلفين وهم أبناء هذا التاريخ بجدارة والأكثر تأثرًا به بحكم وعيهم له ووعيهم بتأثير التمرّد على حياتهم ومصالحهم. وتاريخ سورية المعاصر مليء بالشواهد على ذلك.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.