}

التعدد الثقافي.. شروخ الثقافة وجراح اللغة والجسد

فريد الزاهي 26 نوفمبر 2021
آراء التعدد الثقافي.. شروخ الثقافة وجراح اللغة والجسد
(غيلان الصفدي)

 

كم نحس بالغبن في ظل ثقافة وطنية متعددة اللغات والأعراق حين نجد أنفسنا سجيني لغة واحدة ولا نستطيع أن نعانق الاختلافات التي تجمعنا وتفرقنا ببني بلدنا الواحد! تلكم حالتنا بالمغرب الكبير والمغرب الأقصى منه بالأخص الذي يحتضن ثلاث لغات (أو لهجات) أمازيغية، ناهيك عن العربية والعربية الدارجة، حتى لا نتحدث عن لغتي الاستعمار الفرنسي في وسط البلاد والاستعمار الإسباني في شمال البلاد وجنوبه. إننا ونحن ننصت لأغنية أمازيغية، مثلًا، لنَحس بالإعاقة التامة لعجزنا الكامل (إلى هذا الحدّ أو ذاك) عن امتلاك معانيها، وهي أقرب إلى حساسيتنا الفنية من حبل الوريد.

حين تمّ ترسيم اللغة الأمازيغية من بضع سنوات، كان الأمر يتطلب مجموعة من الآليات التي تمكّن من جهة، من الحفاظ على الهوية اللغوية للناطقين بها، وفي الآن نفسه من التواصل مع غير الناطقين بها. وأنا هنا حين أتذكر عبارة "العربية لغير الناطقين بها"، والتي تصف الدروس المخصصة للأجانب، أجد أن صيغة العبارة تنطبق علينا نحن العاربين لأننا غير ناطقين بلغة (أو لغات) شعب نعايشه وسبقنا للوجود لغة وثقافة في هذه البلاد المشتركة. أليس الأمر مأساويا بقدر ما هو مفرح؟

غنى التعدد الثقافي وجراحه

التعدد العرقي والثقافي واللغوي في بلدان المغرب الكبير منّة تاريخية وثراء اجتماعي وثقافي يتطلب بالمقابل تدبيرًا ثقافيًا موافقًا له. فحين نتحدث عن المثاقفة، لا يتعلق الأمر في المقام الأول كما عودتنا على ذلك الأدبيات الفرنكفونية منذ الستينيات، بالتثاقف مع الآخر الغربي. فـ"نحن" لسنا ذاتًا ثقافية موحدة بالرغم من الحدود الترابية الواحدة. المثاقفة لا تعني تملكنا للغة الفرنسية أو الإسبانية، ثم الإنكليزية، فقط؛ إنها سيرورة مركبة نعيشها يوميًا، هنا والآن، مع آخرنا الذي نعيش معه وبين ظهرانيه؛ ذلك الآخر الذي نعاشره يوميًا جسدًا وثقافة. بل هي مسألة نعيشها في شكلها الاستبطاني بعد أن تمثلنا الثقافتين الفرنسية والإسبانية قبل أن نعيشها معهما خارج حدود البلاد. إنها فضاء نعيشها في ذواتنا بشروخها المتعددة، بتعاسة أحيانًا، كما عبر عن ذلك كتاب مغاربيون من قبيل كاتب ياسين وعبد اللطيف اللعبي ورشيد بوجدرة؛ وبشكل مرح كما عبر عن الأمر عبد الكبير الخطيبي.    

أما التمازج الثقافي، الذي باتت الإشادة به من قبيل الشعار الما بعد ثقافي والما بعد كولونيالي، فإنه لا يبدّد الاختلاف الثقافي وتنوعه بقدر ما يمنحه صيغًا جديدة ليست بالضرورة تركيبية. فهو قد يكون شكلًا من أشكال الهيمنة الثقافية إذا هو لم يُمارس وفقًا لسيرورة "عفوية" تفرضها الحركيات الاجتماعية والثقافية. فالتمازج والتلاقح في صيغته الثقافية قد يعضد حظوظ لغة معينة في الاستمرار وقد يضعفها. إنه يسري في جسد الآخر ولغته ويخترقها بتفاعل متنامٍ. يخفف التمازج ذاك من صراع اللغات والثقافات ويلطف من حدة التباعد والتنافر والإنكار؛ كما ينسّب من الأحكام المسبقة والمتخيلات النزاعية المبنية على الأحادية وعقيدة القبيلة أو الجماعة أو العرق. لكن التمازج هذا ينتج في نهاية المطاف هُجْنة تخلق كيانات ثقافية جديدة تعمل حركيتها الباطنة على استعادة مكونات لسانية وثقافية منسية أو هامشية أو متباعدة.

من ناحية أخرى، بات التعدد العرقي والثقافي واللغوي يواجه مشكلات جديدة من قبيل الصحوات التطرفية التي تنظر إليه باعتباره خطرًا محدقًا بأحادية العرق أو الثقافة واللغة. والحقيقة أن هذه النظرات والتوجهات النابعة من تاريخ الانحباس والتهميش الذي عاشته "الأقليات" (وهو مفهوم مقيت لأنه ذو طابع سياسي) تكون عبارة عن ردة فعل على التهميش وتمتح مشروعيتها الأساس من وجودها التاريخي. إنها سعي إلى تأكيد الهوية في انغلاقها المتوحش على ذاتها. والحال أن الحقوق الثقافية واللغوية والدفاع عنها ليس أمرًا مخصوصًا بهذه الثقافات المهمشة بقدر ما هو مهمة كل المثقفين والفاعلين والسياسيين الواعين بالطابع المتعدد لبلادهم.

تصبح وطأة التاريخ هنا في هذا السياق قوية، فيغدو حصان طروادة الذي من خلاله تتسلل التوجهات المتطرفة نحو الأصول، والنقاء الاجتماعي والتميز والفرادة الثقافية. وإذا كانت ميزة هذه الهوية المتوحشة (كما قال الخطيبي) هي الدفاع عن الثقافات واللغات المغمورة، وإبراز وجودها، فإنها من ناحية أخرى تحصر نظرتها في الجانب السياسي، الذي يمنح نفسه طابعًا تحريريًا، ويخلق من ثم حراكات لا نميز فيها أحيانا بين السياسي والثقافي والاجتماعي.

من التعدد إلى التواصل المتعدد

تحتاج كل ثقافة إلى عيانية visibility تمنحها وجودها، في لغتها كما في اللغات والثقافات الأخرى. وهذه العيانية تكون أكثر استعجالًا وملحاحية حين يتعلق الأمر بالثقافات التعددية المتعايشة في بلد واحد وتحت راية واحدة. هل يكفي أن تخصص الدولة مثلًا للثقافة الأمازيغية بتفرعاتها معهدًا وطنيًا؟ أو تعمد إلى ترسيم اللغة الأمازيغية وإدراجها في التعليم؟ إنها سيرورة أساسية لا يمكن الاستهانة بفاعليتها. بيد أن المهمة الأساس للباحثين تكمن في الكشف عن مكنونات هذه الثقافة، ومن ثم السعي إلى نزع الطابع الفولكلوري عنها. وهو طابع أرسته النظرة الكولونيالية واستشرى في المجتمع وفي صلب النظرة الثقافية العامة. يفترض البحث في هذه الثقافات توثيقًا متواترًا لمخزونها الثقافي الشفهي، باللغة والصورة. كما يستوجب تضافرًا للعلوم الاجتماعية، من علم الاجتماع إلى الأنثربولوجيا والأنثربولوجيا الثقافية، مرورًا بالبحوث الثقافية. ذلك أن الكشف عن خصوصياتها لا يتم إلا من خلال الاعتراف بتاريخيتها واختلافها.

وحتى نأتي إلى بيت القصيد، تكون الترجمة هنا وسيطًا فاعلًا وناجعًا في "تضميد" جراح الجسد الثقافي المتعدد، وعبورًا حرًا من ثقافة إلى أخرى. الترجمة متنفس من الاحتباس الثقافي الذي يجعل مكونًا لغويًا وثقافيًا محصورًا بين أبنائه، يتداولونه بحرص كأنه كنز ثمين لا ينبغي أن تقع عليه عين الآخر. لا تسمح الترجمة فقط بالتواصل الثقافي بين مكونات الثقافة المتعددة لبلد ما، وإنما أيضًا بشد الانتباه لثرائها وخصوصياتها كما لعناصر فرادتها. إنها أيضًا تمنح العيانية الممكنة لما هو محلي كي يغدو وطنيًا وعالميًا.

تعيش كافة اللغات المحلية في الممارسات التواصلية لأبنائها بالمغرب، كما بالمغرب الكبير، عملية الترجمة الخفية، التي تشكل بمعنى ما ضرورة للتفاعل والحياة، خاصة وأن الدولة ومرافقها ولقرون عديدة، ظلت تستعمل العربية والعربية الدارجة، ثم الفرنسية والإسبانية. لذلك ليس من المدهش أن أبناء هذه اللغات ظلوا من القديم، الأكثر مثاقفة والأكثر ممارسة للتعدد اللغوي. والعلماء منهم والفقهاء كما المتصوفة عبر التاريخ تركوا لنا آثارًا بالعربية لعل أضخمها كتاب المعسول (في عشرين جزءًا) للفقيه الأمازيغي المختار السوسي... بالمقابل، ونظرًا للشفهية الطويلة لهذه اللغات المحلية، يندر أن تجد بين العرب من يتقن لغة أمازيغية، وحين يتقنها فذلك لعيشه بين ظهرانيْ الناطقين بها، أو لضرورات البحث الإثنوغرافي، كما كان حال بعض الباحثين المستشرقين في المرحلة الاستعمارية. وقد قام بعضهم بوضع كتب لتعليمها، قبل أن يتم ترسيم حرف تيفيناغ.

هذه الترجمة الخفية تستوجب مع ذلك مأسسة ترجمة مآثر هذه اللغات المحلية، قصد خلق تواصل ثقافي تفاعلي يسمح بالندّية اللسانية والثقافية. فالهيمنة اللغوية تؤدي دومًا للهيمنة الثقافية. وهي في علاقتها بالسلطة السياسية تمنح لنفسها حقوقا أكثر تعضد أحادية اللغة والثقافة. طبعًا، لا تحل الترجمة الإشكاليات السياسية للعلاقة بين الأعراق والثقافات، غير أنها توسع من إمكانية الحوار والتواصل الثقافي ومعرفة الآخر، وتشكل تعبيرًا ثقافيًا عن الحوار المتوازن، ذلك الذي يكون مدخلًا لرسم معالم المستقبل.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.