}

واقع مهزوم وأفكار مهزومة!

رشا عمران رشا عمران 23 ديسمبر 2021
آراء واقع مهزوم وأفكار مهزومة!
(علي فرزات/ سورية)

يكتب الكثير من السوريين ممن يعيشون خارج سورية على صفحاتهم في العالم الأزرق حول الثورة واستمرارها وبقائها، ذريعتهم في ذلك مقولة "الثورة فكرة والفكرة لا تموت"، ويواظبون على ذلك بطريقة شبه يومية، وكأنهم بهذا يؤكدون فكرتهم عن استمرار الثورة، أو ربما يؤكدون استمرار رغباتهم وأمنياتهم وأحلامهم، إذ لا شيء أكثر قهرًا من أن يفقد الإنسان أحلامه دفعة واحدة، أو يكتشف أن كل ما آمن به قد اختفى. يبدو الإصرار هنا أشبه بآلية دفاع محض شخصية وذاتية ضد ما يسببه هذا الفقد من آثار سلبية، رأينا جميعا نتائجها على ناشطي رعيل السنة الأولى من الثورة، الذين اضطروا للهرب من سورية بعد الاعتقال أو الترهيب، وثمة حالة مهولة من اليأس سيطرت على أغلبهم، تعرضوا إثرها لظواهر صحية ملفتة، مات بعضهم فجأة، أصيب آخرون بأمراض خطيرة أودت أو كادت تودي بحياتهم، وبعضهم دخل المصحات النفسية للعلاج من اضطرابات نفسية شديدة، وبعضهم اختفى تمامًا حتى عن العالم الأزرق، وتخلى عن كل ما يتعلق بالثورة، وبعضهم اكتشف أن ذلك الحماس الثوري الذي عاش فيه سنوات، مدافعًا فيها عن كل ما يتعلق بالثورة، حتى عن أخطائها القاتلة، لم يصب سوى في مصلحة النظام من جهة، وفي مصلحة الثورة المضادة التي ظهرت وسادت على يد الكتائب الجهادية مختفية الأسماء والتمويل، والتي فرضت على المناطق السورية المحتلة من قبلها، نمطًا من الحياة والتفكير، تحت اسم الالتزام الديني، لم يعرفه التاريخ منذ نشوء الإسلام، ناسفة بذلك كل أهداف الثورة عن التغيير الديمقراطي والتعددية والمستقبل المدني العلماني لسورية، فهذه الأهداف بالنسبة لتلك الكتائب، المدعومة من هيئات المعارضة السياسية للأسف، ليست سوى هرطقة وكفر، مما وضع من تبقى من الرعيل الأول على قيد الحياة بين خيارين: النظام أو الجهاديين، خصوصًا وأن الجهتين اعتقلا أو أخفيا مصائر كثر ممن رفضوا الخروج من سورية، وبقوا في الأماكن التي آمن معظمنا ذات يوم أنها (محررة) قبل اكتشاف الخديعة الكبرى خلف ظهور التسليح والأسلمة والدعم الهائل له ضد مدنية الثورة،  أما الخيار الثالث لمن استطاع الحفاظ على بعض التوازن في داخله، فهو رفض الخيارين، والاهتمام بالشأن الشخصي فقط، ومحاولة النجاة بالنفس من آثار اليأس وخيبة الأمل.

بيد أن الثورة انتهت، أو بالأصح: هزمت تمامًا، يجب الاعتراف بهذا من قبل الجميع، فلا وجود الائتلاف ولا مؤسساته، ولا تعيين (مفتي) للمعارضة تحت اسم (مفتي سورية)، ولا الزيارات التي يقوم بها أعضاء الائتلاف لمناطق الشمال، ولا تصريحاتهم المتكررة عن إجرام النظام وضرورة محاسبته، ولا كل ما يفعلونه يمكنه أن يغير من حقيقة أن الثورة قد هزمت، وأن ثمة محاولات حثيثة حاليًا لإعادة النظام إلى (القطيع) العربي في حال تم التوافق على ذلك بين الدول المعنية، ولعل هنا من المفيد التذكير أنه ما من خطوة كهذه يمكن أن تقوم بها دولة عربية بقرار منفرد، ولا بدون موافقة من المجتمع الدولي، وبالتالي فكل التصريحات الأميركية والأوروبية حول رفض التطبيع مع الأسد هي نوع من أنواع البروباغندا التي باتت مكشوفة وسمجة، فلطالما كان الحل للقضية السورية يلزمه قرار دولي واحد وحاسم وجريء: اجتثاث نظام الأسد، بيد أن أمرًا كهذا لم يكن يوما واردًا في أجندة المجتمع الدولي، رغم كل الحديث عن الأزمات التي يسببها بقاء الوضع السوري على ما هو عليه، خصوصًا ما يتعلق منها باللاجئين والهاربين والواصلين إلى أوروبا عبر الهجرات غير الشرعية، وتلك المتعلقة بأزمات إقتصادية داخلية وصراعات سياسية بين الحكومات واليمين الأوروبي الرافض للجوء، أو الأزمات التي تحكي عنها دول الجوار، التي تستقبل عددًا كبيرًا من اللاجئين السوريين، سواء في المخيمات التي تفتقر لأبسط مقومات الكرامة الإنسانية، أو الذين يعيشون داخل المجتمعات يعملون أو يدرسون، ويتلقون في الوقت ذاته كمًا كبيرًا من العنصرية تجاههم بوصفهم السبب في المشكلات والأزمات الإقتصادية التي تعاني منها الدول المضيفة، حيث أصبح اللاجئون السوريون عنصرًا أساسيًا في المهاترات السياسية في تلك الدول، يستخدم وجودهم لتبرير كل الفشل الحاصل بالسياسات الداخلية، أو وسيلة ضغط لفرض شروط على المجتمع الدولي.

علي فرزات 



طبعًا أصبح من النوافل الحديث عن تردي الأوضاع المعيشية والإجتماعية في الداخل السوري، وما يعانيه السوريون من القهر والحرمان من أبسط وسائل العيش اليومية كالكهرباء والوقود والخبز، فإن كان النظام يتحمل في المقام الأول المسؤولية الأولى عن كل ما حدث لسورية وللسوريين خلال السنوات العشر الماضية، فإنه يجب القول أيضًا إن ما اقترفته هيئات المعارضة من أخطاء قاتلة في حق الثورة كان له أيضًا دور مهم في الحال الكارثي الذي بتنا فيه كسوريين جميعًا، أما الحديث عن أن من في الداخل عليهم تحمل ما يحدث بسبب رفضهم الانضمام للثورة منذ البداية فهو لا يقل بؤسًا وفحشًا عن الحديث أن اللاجئين والمنفيين هم السبب في تدمير البلد بسبب الثورة، هذه الكراهية المتبادلة بين متطرفين سوريين، مؤيدين للنظام ومعارضين له، يجب أن تتوقف، إن كان ثمة من يملك بعض الأمل في ترميم الشرخ الكبير في المجتمع السوري، فمن غادروا ما زالوا سوريين مهما طال غيابهم عن البلد، ومن بقوا سيبقون سوريين مهما تعرضت البلد لاحتلالات مختلفة تحاول تغيير الهوية المجتمعية السورية.

وإن كان شأن المعتقلين والمختفين في السجون والمعتقلات السورية لدى النظام والفصائل الراديكالية الأخرى، سواء منها الدينية أو القومية، هو من القضايا الأساسية المتبقية من الثورة التي يجب أن تكون في البند الأول في مخاطبة المجتمع الدولي، فإن قضايا اللاجئين في المخيمات، وتحديدًا الأطفال، الذين يتعرض ملايين منهم للتسريب من التعليم ولسوء التغذية ولحرمانهم من طفولتهم ولتربيتهم مفاهيم الجهاد والعدمية، لا تقل أهمية عن قضايا المعتقلين والمختفين، بل تكاد تضاهيها في الأهمية، إذ أن الخسارة المهولة التي لحقت بسورية نتيجة فقدان جيل كامل من خيرة شبابها، سواء بالموت في المعتقلات أو في الحرب القذرة أو في الهرب والنفي واللجوء، سوف تؤثر على المستقبل السوري بشكل واضح فيما لو تم الوصول إلى حل ذات يوم، خصوصًا وأن من تبقى من الشباب في سورية يواصلون مسيرة الهجرة بسبب سوء الأوضاع وفقدان الأفق في عيش كريم.

انتهت الثورة وفشلت وهزمنا جميعًا، معارضين ومؤيدين، وفي الحقيقة الهزيمة الكبرى هي لسورية كبلد ومجتمع وكيان، ومع هذه الهزيمة لا ينفع القول إن "الثورة فكرة والفكرة لا تموت" إذ أن الأفكار هي بنات الواقع، والواقع المهزوم ينتج أفكارًا مهزومة.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.