}

كتابة (الوصايا).. خفّة اليد وخفّة الكلمات

آراء كتابة (الوصايا).. خفّة اليد وخفّة الكلمات
من اليمين: ريلكه، ميللر، نيتشه، كالفينو، يوسا، الجاحظ

سيكون الأمر تبسيطًا ساذجًا إذا كان على طريقة "كيف تتعلم اللغة الإنكليزية في سبعة أيام"، و"كيف تكون ساحرًا في سبع ساعات"، و"كيف تعشق فتاة في سبع دقائق"، فهذا مجرد إيهام لقارئ محدود الوعي والثقافة والتبصّر. ولا يمكن أن يكون قادرًا على حل مشكلة جوهرية لديه في التلقي والاستيعاب والهضم، عندما يبحث عن النتائج الجاهزة للمعارف الحياتية والثقافية والعلوم الإنسانية، من دون أن تتحقق لديه شروط الوعي الصحيح، والهضم المعرفي، والاستفاضة بعمق المعاني، وتمثُّل فقهها وأسرارها. ومثل هذا التبسيط تجاوُز على واقع الأمر. ينطوي على خديعة تجارية وتسويقية بلا شك. يقع فيها من لا يريد أن يجتهد، ويبتكر ويخلق ويبدع ويتجاوز غيره.
مثل هذا القارئ؛ وأسميه القارئ التجاري؛ لن يكون في نهاية الأمر بارعَ السحر في بهلوانيات خفّة اليد. ولن يرقى إلى تمام اللغة الثانية ومستوياتها الدلالية والرمزية. ولا يستطيع أن يُقنع فتاة بعشقه حتى بعد سبعين سنة. وهذه من يقينيات المبادئ والحياة المعرفية الأولى في خطوات البحث عن مكامن وأسرار الجمال في عالَم الثقافة والمعرفة والعلاقات والفنون بشكل عام. لكن، في الأحوال كلها؛ ومع هذا الوضوح المسبق؛ ستشير هذه المشاريع الشبحية والتجارية إلى نقاط أولية في كيفية تتبع عمل الساحر الخارق. غير أنها لن تكشف أسرار المهنة الشاقة في خفّة اليد وحركة الجسد والخديعة البصرية، ولن تمنح أكثر من ذلك. فالساحر لاعب ماهر في ميدانه الغامض. واللغة؛ أية لغة؛ ساحرة في معطياتها الكثيرة لو تم إتقانها وفك أسرارها الجمالية. والعشق ليس وصفة تجارية قطعًا، فهو مخاض طويل الأمد لا يمكن للكتب أن تعلّمه.



الوصايا.. بين الساحر والهاوي والعاشق
ربما هذا يقرّبنا إلى حد معين ومعقول من "الوصايا" الكثيرة التي نطالعها بشأن كتابة الرواية والقصة والشعر، موجهة إلى الشباب وغير الشباب ممن يمارسون الكتابة، أو هم في الطريق اليها. ويقينًا، فإنها لا تشبه الباحث عن أسرار الساحر الدفينة، ولا الهاوي الطامح إلى تعلم اللغة الثانية، ولا العاشق الفوري الذي يقع تحت سطوة سطور إنشائية خيالية غير واقعية، وكل هذه التشابهات الوصفية؛ قل التشبيهات؛ ممكنة لتقريب "الوصفات" التي تطرأ مع الوقت لكتّاب عالميين يجيدون إشهار وصاياهم السردية والشعرية والفلسفية، بوصفهم الثقافي والأدبي والفلسفي كونهم ـ هم ـ منجزًا إبداعيًا متحَققًا بتجاربهم الذاتية في توطيد المتون السردية والشعرية والفلسفية والجمالية، بشكل عام، كمنجزات معتَرف بها. لكنْ لهذا جدل في تقييم مثل هذه الآثار الكتابية التي تتسابق المطابع التجارية لنشرها وانتشارها بين الأجيال الجديدة، الباحثة عن أقل الوقت لصناعة الذات الأدبية بطريقة ألعاب الساحر البهلوانية في خفّة الكلمات.

في العادة، تكون (الوصية) مكثفة لغويًا في هدفها المباشر، وأسلوبيتها الواضحة، ونقاطها المتسلسلة، واستخلاصاتها في الحياة؛ أي حكمتها. وكل "الوصايا" التي قرأناها للأدباء والمعرفيين والجماليين المتمرسين والموهوبين، والتي سنقرأها مستقبلًا، هي استخلاص من "تجارب شخصية"، وممارسات فعلية لموضوعة الكتابة، وربما هي خزين معرفي متراكم أفصح عن تلك الوصايا. ولا يمكن أن تكون إرهاصاتٍ نظرية، فالتنظير فعلٌ لاحق على الأثر الإبداعي، كما هو معروف؛ وما يتلوه هو ـ في تقديرنا ـ تعبئة تأخذ شكل الوصايا، أو المستحثات النفسية، ليس شرطًا أن تكون مطلوبة حتى من الكاتب المتميز. فالأزمة السردية والشعرية والنفسية والقرائية العامة تتطور ولا تقف عند حدود أي وصية. فما بعدهما قد يكون هو الأكثر تماسًّا مع واقع الكتابة والقراءة. حتى لو حاول بعض "الكبار" تكريسها كقواعد للكتابة لا ينبغي التمرد عليها، من دون النظر إلى المسألة الزمنية التالية التي تُراكم المعرفة، وتزيد من وثوقية التجارب الجمالية مع أشكال جديدة وعلاقات فنية مبتكَرة، ليس من الحتمية أن تكون ذات صلة بالقواعد السالفة. ونحسب أن كثيرًا من الوصايا التي نعيد قراءتها اليوم ليست بالضرورة أن تكون ثمينة، أو مثالية، أو مهمة، أو واجبة التطبيق في الكتابة، لكن قد لا تخلو من فائدة على أية حال. لا تتعدى أن تكون وصايا قابلة وغير قابلة للتحقيق والهضم المعرفي. وعلى الأغلب الأعم هي دروس في محاكاة التجربة الشخصية، وربما محاكمتها أيضًا عند البعض.



الوصايا ليست دليلًا للقراءة
ليس الزمن السردي، ولا الشعري، ولا التجربة الذاتية، فيه كافية في كثير من الأحيان أن تتكون معهما خلاصات إبداعية، وحتى ذاتية التجربة قد لا تكون ممكنة على استخلاص (وصايا) تكثّف جهد الكتابة وتنظّر لها. وحتى مع الخضوع إلى زمنيتها التاريخية، وما تتضمنه من موجات فنية سائدة ومبتكرة، تعزز الموضوعة الإبداعية وقتها. بمعنى أن وصايا الكاتب الروائي الفلاني قبل 50 عامًا لا يمكن أن يبقى أثرها قائمًا بعد ذلك الزمن بخمسين عامًا تالية، مع المتغيرات الفنية والجمالية التي تطرأ على السرد العالمي وشعره وكينونته، وبالتالي ستبقى تلك الوصايا قارّة في زمنها، وتشير إليه على الأرجح، كاشفة أسلوبية الكتابة، وشكلها، ونهج التفكير السائد، في مكان وزمن معينين. ربما، أيضًا، تشير إلى مدارس عالمية كلاسيكية في جغرافية أوسع، لتصلح بالتالي وديعة في أرشيف السرد، كعلامة دالّة من علامات تلك المرحلة، أو التي تليها، بكل ما فيها من حداثة وتجريب.

هذه علامات شخصية فردية أكثر من كونها "دليلًا" قرائيًا يتوجب هضمه والأخذ به والاعتماد عليه في الكتابة. فالأديب الشاب (يمثّل أدبه في زمنه)، بتعبير كالفينو. فالزمن ولّاد لأجيال هاضمة تقتفي أثر سلفها الجمالي، لا أن تقلده، أو يقع حافرها على حافره، بتوصيف الجاحظ. وقد تكون مثل هذه الوصايا هي (خبرات) معرفية وفنية تتقصى شيئًا من أسرار الكتابة في زمن مكوم بالجيلية المعروفة، حتى وإن تعدت زمنها ببعض المراحل، لكنها تفتقد لاحقًا إلى أهميتها، فتبقى محتفظة بوثائقيتها ومرحلتها الفنية والإبداعية. فهي خبرات سردية رسمت ملامح جيل، أو أجيال، تناوبت في الكتابة والتنافس حتى أخرجها أحدهم بشكل رؤوس أقلام مدرسية في الغالب، كما فعل هنري ميللر في وصاياه المرقمة والمكثفة: اعملْ.. لا تقلق.. اكتبْ.. لا تحرث.. لا تفكر.. لتكنْ.. انسَ.. اشربْ.. بطريقة (الأوامر) و(النواهي) التعليمية التي يوجهها ربما إلى الأدباء الشباب. لكنها تبقى، من وجهة نظرنا، بسيطة في مضامينها الداخلية، وقد تنقلب بعض الوصايا إلى ضدها، أو عكسها، كلما تقدم زمن السرد، وتطورت حسابات القراءة، وتنوّع القارئ الفاعل المتضامن مع النص الجديد الذي لا يعبأ كثيرًا بشروط الأمس ووصاياه وتحذيراته الموضعية.
وعلى عكس ميللر تمامًا، يرسل ريلكه عشر رسائل إلى أحد أصدقائه، من تجربة ذاتية غير مُعمّمة كليًا على جيل صديقه، وهذه حصافة ريلكوية أن يقدم تجربته الشخصية إلى صديق له من دون أن يراها صالحة للجميع، كأنما يدرك مستقبل الشعر وآفاقه الكثيرة التي لا تعني بالضرورة أن تجربته امتلكت الكمال والجمال كله. وبالتالي، نعتقد أن من العسير القفز على الزمن الأدبي سردًا وشعرًا، والتطاول على المراحل الفنية بدعوى الوصايا التي يمكن عدم الأخذ بها. فلا دستور في الكتابة، ولا قوانين راسخة فيه، سوى قوانين الإبداع المتغيرة.
عندما ابتعد نيتشه عن (الوعظ)، بتحليله الفلسفي، داعيًا إلى الاستلهام والأسلوب الذي (تعبّر فيه عن نفسك)، وهو الذي (يرتبط بشخصك)، إلا أنه من جانب واضح يميل إلى أن (يعظ) بإشارات، أو إيماءات؛ منبهًا إلى تكثيف العبارات الطويلة، مثلًا. فقد يكون هذا من أسلوبه الفلسفي ورؤيته الجمالية في الكتابة، وهو أمر لا يستطيع كثير من الأدباء والمبدعين من تجاوزه في حكمة الكتابة وتوجيهها إلى التجربة الذاتية الخالصة.

وليس لنا في هذا الصدد أن نعترض أو نقبل ما يمليه هذا الفيلسوف المجرّب، الذي خرج بأفكار مجددة ما تزال تُقرأ حتى اليوم. لكن مع هذا فالزمن اختصر كثيرًا من الحلقات الفلسفية والنثرية والشعرية، وجاء بكثير من مقبّلات الكتابة في عصر جديد افترق عن كثير من العصور التي سبقته. وعليه، فإن على القارئ أن لا يشعر بالضياع، أو التقبّل السلبي لما كان من منهج وأسلوب ونظرية وإبداع وفهم ومعالجة وتوطين أسلوبي وثقافي. بل هو مُدارَسَة كل هذا الماضي ووصاياه، ما كان منها ثمينًا، أو عاديًا، لكشف مواضع الإبداع الكثيرة التي كانت تعم العالم الأدبي.



وصايا.. ووصايا
هنري ميللر في (أوامره) و(نواهيه) أنموذج لتكريس الشخصنة في وصاياه التي لا تقرر الواقع الإبداعي في زمنه. بل تشير إلى أسلوبيته الفردية في الكتابة، بينما فضّل كالفينو أن تأتي حكمته الكتابية بمحاضرات أدبية وأكاديمية في (ست وصايا للألفية القادمة)، وهي ليست وصايا بهذه الدقة اللغوية. بل هي محاضرات أكاديمية عن النوع السردي وتمثلاته الإبداعية في تجربة الكاتب الشخصية في "الخفّة" و"السرعة" و"الدقة" و"الوضوح" و"التعددية"، كما يراها بتأثيرات الجمال الفلسفي في عموميته وشموليته الذي يتبناه كالفينو في إخراج مجمل سردياته الروائية. لكن ماريو بارغاس يوسا في رسائله إلى (روائي شاب) يحقق تماسًا مباشرًا في تجربة الأثر السردي من خلال سردياته الطويلة العميقة التي افترعها الخيال كثيرًا، وحقق به إنجازاته الروائية التي أهّلته إلى جائزة نوبل، على أن الخيال اليُوسوي لم يكن وليد محاكاة لغيره من أدباء جيله في جغرافيات متباعدة أو متقاربة، فهو ينتمي إلى أن "التجربة هي المنبع الذي يسقي أعمال التخييل"، من دون أن تكون تجربته وصايا لأي جيل، بقدر ما هي تلميح مباشر لخوض تجربة الكتابة على وفق معايير مثل تلك التجربة التي خرجت بحصيلة إبداعية معترَف بها. وهي تجربة شخصية رائدة في ميدانه السردي.

كثير من الأدباء شرقًا وغربًا لا يميلون إلى كتابة مثل هذه الوصايا التي ينطوي بعضها على تعليمية مباشرة، مع أن لديهم خزينًا معرفيًا ضخمًا، لكن هذا لا يُرى إلا في المقابلات الصحافية واللقاءات التلفازية المعنية بالشأن الثقافي، عندها تتسرب (حكمة) الكتابة منهم واضحة. ويمكن التقاط كثير من الشذرات الأدبية التي يعمل بموجبها هؤلاء الأدباء. حتى وإن لم تكن وصايا.. كما قرأنا. عندها سندرك أن الساحر موهبة شاقة والعاشق موهبة استثنائية ومتعلّم اللغة الجاد موهبة استيعاب وهضم.



(بغداد).

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.