}

أمين معلوف بين اختلال العالم وغرق حضاراته

فخري صالح 14 مايو 2021
*كما ينضج المستقبل في الماضي
يتعفن الماضي في المستقبل –
إنه مهرجان كئيب من الأوراق اليابسة. 
أنا أخماتوفا (1889- 1966)
قصيدة بلا أبطال (1)
*"لا، ليس الحنين هو الذي يتكلم من خلالي، بل قلقي على الغد، وخشيتي المشروعة أن أرى أبنائي، وأحفادي، وأبناء عصرهم، يعيشون في عالم قد تحوَّل إلى كابوس. وإنها كذلك خشيتي من تبدُّد كل ما يضفي معنى على المغامرة البشرية".
أمين معلوف، غرق الحضارات، ص: 315. 

كيف يبدو العالم في العقدين الأولين من الألفية الثالثة؟ وإلى أين تحثُّ البشرية خطاها وسط الفوضى، واحتدام الصراعات، وتسيُّد مشاعر الكراهية ورُهاب الآخر المختلف، وصعود جنون الهُويَّة، في كل زاوية وصقع من أصقاع الكوكب الأرضي؟ على ماذا يراهن البشر؟ على النجاة بأنفسهم منفردين من أخطار طبيعية، وبيئية، وجوائح تطلُّ برأسها في كل حين، وتهدد بموت الإنسان والحيوان، وربما زوال الكوكب بأكمله؟
هذه الأسئلة، التي تتصل بمصير البشر، بمآل عالمنا، في الوقت الراهن، أو بعد حين، هي ما يقضُّ مضجع الكاتب اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف، ويؤرقه، منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، أي منذ أنجز كتابه المفصلي في نقد سياسات الهوية، وفوبيا الآخر، "الهويات القاتلة" (1998)- (2)، الذي يجدل فيه مشاهداته لجنون الهويات في العالم بتجربته الشخصية، كمسيحيٍّ لبناني مهاجر إلى فرنسا إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976، وكاتبٍ اختار اللغةَ الفرنسية للتعبير عن علاقات الشرق والغرب، الشمال والجنوب، من خلال الكتابة الروائية. ومن الواضح أن سؤال "الهويات القاتلة" لم يبرح كتابته، منذ ذلك الحين، وظلَّ يشغله، في سرده الروائي، كما في تأملاته العميقة لأحوال العالم الذي يتجه نحو هاويةٍ لن تنقذه منها سوى الحكمة والتبصُّر، والإيمان بأن سفينة البشرية لن تنجو إلا بتعاون البشر، وإقرارهم بأنهم لن يبلغوا الألفية الرابعة إلا إذا نبذوا الخلافات، وأيقنوا أن المشترك بينهم أكبر بكثير من الاختلافات التي تباعدهم وتفرقهم. 

أمين معلوف (الثاني من اليسار) خلال تعيينه عضوًا في الأكاديمية الفرنسية/ باريس، 2012/ Getty


1
في كتابه "اختلال العالم: حضاراتنا المتهافتة" (2009)- (3)، الذي هو حصيلة تأمل في مآل الحضارة البشرية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، يقرع أمين معلوف ناقوس الخطر، محللًا الأسباب التي تكمن وراء انهيار الحضارة، أو ربما فناء الكرة الأرضية، بما عليها من بشر وحيوان ونبات، وكائنات دقيقة. فقد "دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة. لقد أخذت تحصل منذ الأشهر الأولى [يقصد من الألفية الثالثة] أحداث مقلقة تحمل على الظن بأن العالم يعاني اختلالًا كبيرًا، وفي عدة ميادين معًا – اختلالًا فكريًا، اختلالًا ماليًا، اختلالًا مناخيًا، اختلالًا جيوسياسيًا، اختلالًا أخلاقيًا" (ص:11). فمن صعود اليمين المحافظ في الغرب والشرق؛ إلى ارتفاع حرارة الأرض؛ إلى انقراض آلاف الأنواع من الحيوانات والنباتات، ما يؤدي إلى القضاء على التنوع والتوازن البيئيين؛ إلى الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2007- 2008، التي زادت الفقراء فقرًا، وهدّدت الاقتصادات الضعيفة والناشئة بالانهيار؛ إلى العودة إلى سياسات الحرب الباردة، واشتعال الحروب في كثير من البلدان والمناطق، خصوصًا في العالمين العربي والإسلامي. ولأن معلوف يرى أن مصير البشرية مشترك، أكثر مما يظن المشتغلون بالسياسة وواضعو الاستراتيجيات، والطامحون إلى السيطرة على الموارد، والهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية، وإنشاء الإمبراطوريات العابرة للحدود والقوميات والثقافات، فإنه يحاول تفسير الاختلالات الكثيرة التي أصابت البشرية، منذ حوالي نصف قرن من الزمن، أي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وبدأت آثارها المدمرة والمرعبة تظهر في بداية الألفية الثالثة.
يرى معلوف، ولكونه يجد نفسه ممثلًا لثقافتين وحضارتين؛ أي بوصفه منتميًا لكل من أوروبا والعالم العربي، في الوقت نفسه، أن العلاقة الصراعية، الضديَّة، والملتهبة، بين الشرق والغرب، منذ قرون، تقيم في أساس اختلال العالم؛ أي في لبِّ خلافاته، وتصدّعاته، وانهياراته، والمجهول الذي تتّجه إليه البشرية، الآن، لاهيةً ومعصوبةَ الأعين. لكنه يضع القسط الأكبر من اللوم على الغرب، لأنه يؤمن أن الحضارة البشرية منذ قرون ثلاثة، على الأقل، أصبحت مقيمة تحت جناح الحضارة الغربية، لأسباب عديدة، ثقافية، وفكرية، وعلمية، وفلسفية، وعسكرية، واقتصادية، وتكنولوجية، واتصالية. إنها الحضارة المسيطرة، والمهيمنة، الأعلويَّة، بالمعاني الإيجابية والسلبية في آن معًا. وهي، لذلك، مسؤولة بصورة أساسية عن الاختلال الذي يضرب جميع مناحي الحياة الإنسانية في الوقت الحاضر. ويردُّ الكاتب ما يسميه "مأساة الغرب"، أي قسطَه الذي يتحمَّله من اللائمة، أو الجريمة، إلى أنه، اليوم، كما بالأمس، ومنذ قرون، "كان على الدوام حائرًا بين تمدين العالم وإرادته في السيطرة عليه، وهذان أمران لا يمكن الجمع بينهما. لقد تكلم عن أنبل المبادئ في كل مكان، لكنه حرص على الامتناع عن تطبيقها في الأراضي التي غزاها" (ص: 65). وما دامت الولايات المتحدة تتعامل مع نفسها بوصفها ممثلة الحضارة الغربية، فقد كانت مطالبة، كما يرى معلوف، بالتمسّك بهذه المبادئ، وإنفاذها، وإثبات أنها بالفعل حاملةُ القيمِ الغربية، ذات الطابع الإنساني، المتحدّرة من التنوير الأوروبي، والمؤمنةُ بشرعة حقوق الإنسان، وما آمن به فلاسفة التنوير من بعدٍ كوني للحضارة البشرية. لكن الولايات المتحدة، التي شنّت حروبًا كثيرة، في مناطق متعدّدة من العالم، وخصوصًا في العالمين العربي والإسلامي، وافتتحت الألفية بحربين طاحنتين في كل من أفغانستان والعراق، أدارت ظهرها لتلك القيم والمعايير الأخلاقية، التي ادّعت أنها تمثلها. وبسبب ما أحدثته حروب أميركا من دمار وخراب، وتفكيك للدول، وتأسيس لكيانات ضعيفة قائمة على الطائفية والمذهبية والإثنيَّة، فإنها، كواجهة لحضارة الغرب، أسهمت في معظم الاختلالات الأخلاقية والفكرية والاقتصادية والبيئية التي يعاني منها عالم اليوم. وهي انطلاقًا من هذا التصور "لم تقنع بقية العالم بالشرعية الخلقية لأعلويَّتها"، و"ستظل البشرية في حالة حصار" (ص: 96)، بسبب غياب الشرعية التي تفتقدها الولايات المتحدة في قيادة البشرية نحو برِّ الأمان. 


ومع موافقتي على كثير مما يورده معلوف بخصوص إسهام الغرب في تأجيج النزوعات الهوويَّة، وتغذية التوجهات الجماعاتيَّة، في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب؛ وكذلك فيما يخصُّ الدورَ الأميركي في إحداث الفوضى في السياسة والاقتصاد والاستراتيجيا في طول العالم وعرضه، فإن الزعم بأن قيم التنوير الغربي يمكن أن تنقذ العالم، من الهاوية التي يتجه إليها في الألفية الثالثة، يفتقر إلى الدقة، إن لم نقل الصحَّة. ويعود ذلك إلى أن قيم التنوير في الغرب ذات طبيعة مركزية؛ إنها تنظر إلى الحضارة الغربية بوصفها حضارة العالم؛ وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة فهي "الحضارةُ"، وحدها دون سائر الحضارات البشرية، فيما تنظر إلى الحضارات والثقافات الأخرى بوصفها تابعةً تدور في فلك الغرب. إن "الكونيَّة" Universality، تساوي ثقافة الغرب وحضارته وعلومه وفكره ومعرفته وقيمه الإنسانية الرفيعة، في مقابل الثقافات والحضارات الأخرى، الأقل والأدنى، التي ينبغي أن تتعلّم من الغرب، وتنسجَ على منواله؛ ومن ثمَّ، فعليها أن تقرَّ بهيمنته، وعلوِّ كعبه، أو أعلويَّته، بتعبير أمين معلوف. وأظن أن هذا هو أساس المشكلة، ولبُّ الصراع الذي يتصاعد بين الغرب وبقية الأمم والحضارات. فالغرب (وعلى رأسه الولايات المتحدة، بوصفها أقوى دولة وأعظمها اقتصادًا وهيمنة، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في العقد الأخير من القرن العشرين؛ ولأنها أخذت دور "شرطي العالم" الذي يطلب من الشعوب والأمم الأخرى، بما فيها الأوروبية، الخضوع لهيمنته وسلطانه)، ما زال هو الذي يؤجّج الصراعات في العالم، بغضّ النظر عن اللاعبين الآخرين الطامحين في جهات الأرض الأربع. ويمثّل هذا الدور الذي رسمته أميركا لنفسها إعادةً لتشكيل الرؤية الإمبراطورية الغربية، والنزعة الكولونيالية الأوروبية، التي اضطلعت بها أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، لتحلَّ، من بعد ذلك، الابنةُ الفتية، الولاياتُ المتحدة، محلَّ الأم العجوز المنهكة، أوروبا، بعد حربين عالميتين لم تبقيا ولم تذرا.  لهذا، أجدني أخالف أمين معلوف في تبسيطه للصراع الدائر في العالم الآن. ثمَّة مرارات ولَّدتها الحروب الأخيرة التي شنتها أميركا على العالم، وخصوصًا في العالمين العربي والإسلامي، وقد أدّت هذه المرارات إلى ردود فعل طائشة، متطرفة، وحشية، مجنونة، غذَّت نزعات متطرفة، ظاهرةً ومستخفية في الغرب، وساعدت على صعود التيارات المحافظة والمتطرفة التي تهدد باكتساح أوروبا. وقد نجحت هذه التيارات اليمينية المحافظة، والمتطرفة، في إيصال واحد مثل دونالد ترامب إلى كرسي الرئاسة في أميركا. وعلى الرغم من هزيمته في انتخابات عام 2020، فإن ذلك لا يعني غيابه، وعلى الأخص غيابَ أنصاره، وقاعدته الانتخابية، ومن يفكرون على شاكلته. لقد ذهب ترامب لكن الترامبيَّة باقية، ما يهدد باختلالات أخرى، في أميركا، والغرب، والعالم.
يقترح أمين معلوف كنوع من الخلاص، أو الترياق الشافي مما يعانيه العالم الآن من صراعات الهوية، الاهتمامَ بالثقافة، أو ما يسميه "الخروج "نحو الأعلى"، حيث يتطلب التخلص من "الاختلال الذي ينتاب عالمنا"، "تبني سلم للقيم يؤسس على أولوية الثقافة" (ص: 199). وما يقصده بالاهتمام بالثقافة، والتركيز عليها، متأتٍ من إيمانه بكون الثقافة، والأدب بخاصة، تكشف عن أهواء الشعوب، وطموحاتها، وأحلامها، وعمقها الحميم، ومعتقداتها، ورؤيتها للعالم (ص: 203- 204). ولا شكَّ في أن هذه الفكرة ذات طابع طوباوي، تتصل بعالم المثل والآمال والطموحات والأحلام البعيدة العسيرة التحقق. ولا أقصد من نعت هذه الفكرة بالطوبى التقليلَ من شأن هذا النوع من الحلول، الضروريِّ من وجهة نظري أيضًا، بل القول إن العالم بحاجة إلى حكمة تمليها الضرورات، وشعورُ البشرية بأنها في خطر. ولا أظن أن من يحكمون العالم الآن ينتمون إلى طينة الحكماء من الرجال والنساء، ذوي الثقافة الرفيعة، القادرين على كبح جماح شهوة السوق، والرأسمالية المتوحشة، وجنون الهويات، والنزعات الجماعاتيَّة، التي أصبحت، للأسف، من السمات المرعبة التي تطبع عصرنا، حتى لو أدى ذلك إلى عواقب وخيمة، وكوارث سيتأثر بها سكان الكوكب جميعًا. 





2
في كتاب تالٍ نشره بعد عقد من الزمن، يعود معلوف إلى الثيمة نفسها، إلى تأمل أحوال العالم، والتنبيه إلى إمكانية دمار الحضارة الإنسانية، واندثارها، وربما تدمير الكوكب نفسه، وفناء الكائنات التي تعمره. في "غرق الحضارات" (2019)- (4)- يستعيد المؤلف ملامح من سيرة عائلته الذاتية، سيرة عائلة أبيه اللبنانية التي ترعرعت في لبنان، وعائلة أمه اللبنانية التي ترعرعت في مصر أيام الملكية، وقبل الثورة المصرية عام 1952، موضحًا كيف تزوج أبوه وعمل في مصر في إحدى الوزارات المصرية، قبل أن تقوم الثورة وتناصب الأجانب العداء، بمن فيهم العرب الشوام، وتحرم الأم وعائلتها من الفردوس المفقود، ومن مصر التي مثَّلت، في يوم من الأيام، مجتمعًا كوزموبوليتيًّا يعيش فيه المصري واللبناني والسوري واليوناني والإيطالي، وجنسيات أخرى متعددة، إلى جوار بعضهم البعض. وهو ما عدَّه أهل أمين معلوف، من جهة الأم، فردوسًا أرضيًّا، سرعان ما فقدوه بعد تغلُّب الضباط الأحرار على الملك فاروق، واستلامهم مقاليد الحكم في مصر. ومع أن كتاب معلوف ليس سيرة ذاتية، بأي صورة من الصور، لكنه يسعى إلى توفير خلفية شخصية لأحداث العالم على مدار سبعين عامًا؛ من ولادته الشخصية (فهو ولد عام 1949)، وصولًا إلى اللحظة الحاضرة التي يرى أنه يشهد فيها اختلالات مرعبة قد تؤدي إلى "غرق الحضارات"، كما يشير عنوان الكتاب. 
يعالج "غرق الحضارات"، مثله مثل سابقه "اختلال العالم"، الهزّات السياسية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والأخلاقية، والقيميَّة، التي تصيب العالم المعاصر، وتهدّده منذ بضعة عقود. وهو ينطلق في مشاهداته من منطقته الأم، من مصر ولبنان، والعالمين العربي والإسلامي، ليربط الفوضى التي تصيب هذه المنطقة بما يعمُّ العالم كله، تقريبًا، من فوضى واختلاط في المعايير والقيم، وانعدام حكمة، وعدمِ تبصُّر. والواقع أن استعادة السيرة الشخصية للمؤلف تلقي بظلها الكئيب، ونظرتها اليائسة القاتمة، والسوداوية الملازمة لفصول هذا الكتاب، على تحليله لأحوال العالم في الوقت الراهن، وتصوّره للمستقبل، رغم محاولاته، بين حين وآخر، التخفيف من وقع هذه الرؤية، أو على الأصح، الرؤيا القياميَّة، على القارئ. ويمكن أن نتبيَّن ذلك في حديث معلوف عن رحيله خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتوجّهه إلى فرنسا. "في اليوم الذي غادرت لبنان أثناء الحرب على متن باخرة، في حزيران/ يونيو 1976، كانت جميع أحلام مشرقي الأم قد ماتت أو تحتضر. احترق فردوس أمي وفقد فردوس أبي كلَّ ما يذكِّر بألقه الغابر. ووقع العرب في فخ هزائمهم، والإسرائيليون في فخ عملياتهم العسكرية، وعجز هؤلاء وأولئك عن إنقاذ أنفسهم. لم أستطع بالطبع أن أفطن إلى أي مدى ستتكشف المآسي في منطقتي الأم عن طابعها المعدي، وبأي عنف سينتشر تقهقرها المعنوي والسياسي في أنحاء العالم. غير أنني لم أفاجأ تمامًا بما جرى. لقد أبصرت النور على حافة الصدع، ولا أحتاج إلى كنوز من التبصُّر للإحساس بأننا كنا نقترب بخطى حثيثة من شفير الهاوية" (ص: 161).
انطلاقًا من هذه السطور، التي تأتي بعد سرد سيرة المنطقة العربية، منذ خمسينيات القرن الماضي، وصعود نجم جمال عبد الناصر، ومعه التيار القومي في العالم العربي، وتشكُّل حركة عدم الانحياز، التي ضمَّت شعوبًا عربية وآسيوية وأفريقية، وحتى أوروبية شرقية (يوغوسلافيا تيتو)، يشرع المؤلف في تأمل أحوال العالم بعد انهيار المشروع القومي العربي، وصعود التيارات الدينية، ونجاح الثورة الإيرانية ذات الطابع الديني المذهبي، وولادة الإسلام الراديكالي، والمتطرّف والعنيف والمعادي للغرب، الذي يتبنّى أجندات ثورية، سياسية واجتماعية وثقافية، رغم نزعته الدينية المحافظة؛ وكذلك صعود تيارات المحافظة في بريطانيا وأميركا، ومن بعد ذلك في أوروبا، والعديد من دول العالم، شماله وجنوبه.
لكن ما حصل في العالم، وللعالم، خلال نصف القرن الأخير، ما كان ليحصل، حسب معلوف، دون أفول نجم عبد الناصر، وانكسار حلمه القومي بتوحيد العالم العربي، وتشكيل تحالف يجمع الأمم الشرقية، ضد الغرب الذي ناصبته الثورة المصرية العداء، بسبب الاستعمار البريطاني، ثم شنِّ العدوان الثلاثي على مصر، من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، سنة 1956، حيث خرج عبد الناصر منتصرًا، فاضطرت القوات الغازية إلى إيقاف الحرب والرحيل عن المناطق المصرية التي احتلتها. لكن هزيمته سنة 1967 وضعت حدًّا لصعود مشروع عبد الناصر، والمدِّ القومي العربي، بعامة. ويمكن أن نستعيد من كتاب "اختلال العالم" فقرة تفسّر وجهة نظر أمين معلوف في صعود التيارات الإسلامية الراديكالية، العنيفة والمتطرفة؛ فهو يرى أنها انبثقت بسبب هزيمة حلم عبد الناصر الذي أعطى هذه المنطقة من العالم أملًا بالتحرر والتخلص من التبعيَّة وبناء أمة قوية متحضرة. يقول معلوف: "إن اليأس الذي يؤجج مشاعر هؤلاء الاستشهاديين ليس وليد سنة 1967، ولا وليد سنة 1948، ولا وليد نهاية الحرب العالمية الأولى، وإنما هو مآل سيرورة تاريخية لا يمكن أن يختصرها أي حدث أو تاريخ. إنه تاريخ شعب عرف عهدًا كبيرًا من المجد، أعقبه سقوط طويل؛ فهو منذ مئتي سنة يتوق إلى النهوض، لكنه يعود كل مرة إلى السقوط؛ وتعاقبت عليه الهزائم، والخذلانات، والإهانات، إلى أن انبثق جمال عبد الناصر، فراح يؤمن بأنه سيتمكن معه من النهوض مجددًا، ومن استعادة اعتباره لذاته وإعجاب الآخرين. وحين انهار العرب من جديد، وعلى هذا النحو من المشهديَّة المذلة، انتابهم، ومعهم مجموع العالم الإسلامي، شعور بأنهم خسروا نهائيًا كل شيء. وابتدأت مذَّاك مراجعة موجعة، لكن في المرارة وفي الخوف، وفي فيض إيماني يكاد لا يحجب يأسًا لا حدود له" (5).
يشدّد أمين معلوف في "غرق الحضارات" على هذه الانعطافة التراجيدية لمشروع عبد الناصر، والتيارات القومية والعلمانيَّة، التي أسلمت العالم العربي، وكذلك الإسلامي، للتيارات الدينية. لكن هذا ما كان ليحصل لولا أن الغرب، العلماني والمدني، قمع التيارات العلمانية والمدنية في العالمين العربي والإسلامي، وتحالف مع أكثر التيارات والدول محافظة واستبدادًا وتطرفًا دينيًّا. ويضرب معلوف، مثالًا على ذلك، قمعَ الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، بل استئصالَه أحيانًا، للشيوعيين والعلمانيين، خلال الحرب الباردة، في إندونيسيا والباكستان مثالًا لا حصرًا؛ ومحاربتَه الدكتور مصدق في إيران، الذي كان يتبنّى قيمَ الغرب وديموقراطيته، ويطالب فقط بحصة بشعبه في نفط بلاده الذي كانت تنهبه الشركات الغربية، والأميركية بخاصة؛ وكذلك تسليح الغرب للمقاتلين الإسلاميين في أفغانستان لمحاربة الحكم الشيوعي التابع للاتحاد السوفياتي (6).  وقد قادت هذه التحولات الدراماتيكية، وصعود تيارات الإسلام السياسي، إلى ما يسميه معلوف "سنة الانقلاب الكبير"، أو "سنة الانعكاس"، أي 1979، التي جلبت معها ثورة الخميني، التي تزامنت، حسب معلوف كذلك، مع صعود مارغريت تاتشر في بريطانيا سنة 1979، ورونالد ريغان في أميركا سنة 1980، وهو ما فرَّخ، في الشرق والغرب على السواء، ما نراه اليوم من فوضى، وتقوقع حول الهوية، وذرَّ قرن الخلاف في المجتمعات، وبين الطوائف، والدول، والشرق والغرب، وداخل الشرق نفسه، والغرب نفسه (ص: 168-170، 214- 215).
لكن هذا التزامن في صعود التيارات المحافظة وسياسات الهوية، الذي يعيد إليه معلوف كل شرور اللحظة الراهنة، لا يستطيع تفسير أحداث عالمنا المعاصر. لقد تفكّك الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، وسقطت الأنظمة الاشتراكية في بلدان الكتلة الشرقية، وبدأت أميركا حروبها المتوالية على العالمين العربي والإسلامي، بعد سقوط الشيوعية مباشرة. وهو ما يخلخل أسس النموذج التفسيري Paradigm لأوضاع العالم الذي يبنيه معلوف. لقد كانت أميركا جاهزة للتدخل قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، في شنها حربها على العراق سنة 1990، كما أنها سرعان ما تحركت لشن حربها المدمرة على أفغانستان بعيد أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001، وكذلك حربها الثانية على العراق سنة 2003. وقد "كان دور الولايات المتحدة متناقضًا في المنطقة؛ فمن الرغبة في إعادة تقسيم المناطق وتحطيم الدول ورسم الخرائط من جديد (كما فعلت في العراق)، إلى إدارة الظهر وترك الضواري تفترس ما تفترس، الطوائفَ والمذاهبَ والأقليات (كما فعلت في سورية بعد 2011)" (ص: 272)، وهذا يعني أن استنتاج معلوف بأن الظلمات بدأت "تخيم على العالم انطلاقًا من أرضي الأم" (ص: 316)، فيه الكثير من المبالغة، إن لم نقل التعسُّف في التفسير. فسيرورة الأحداث، في هذه المنطقة من العالم، تشير، بصورة أو أخرى، إلى أن الإمبراطورية الأميركية، التي أعمتها نشوة الانتصار في حربها الباردة على الاتحاد السوفييتي، الذي كان يقضُّ مضجعها، ويؤرقها ليل نهار، أرادت أن تعيد رسم خرائط المنطقة التي وضعها المنتصرون الأوروبيون في الحرب العالمية الأولى. وقد تعاونت، كما يشير معلوف نفسه، مع قوى المحافظة في المنطقة، وكذلك مع الإسلام السياسي، بنسخه المختلفة، المعتدلة والمتطرفة والراديكالية العنيفة، السنيَّة والشيعيَّة، لتحقيق هذا المشروع الذي أدى إلى هذا الانفجار الذي فاض خارج المنطقة على العالم. قد يكون كلام معلوف صحيحًا في وجه من وجوهه، بمعنى أن التدخل العنيف للغرب في شؤون المنطقة قد أدى إلى ما نشهده اليوم من فوضى. لكن هذا لا يعني، بحال من الأحوال، القول إن المتهم الرئيس فيما يحدث هم أهل هذه المنطقة الذين يصفهم معلوف، في موضع من مواضع كتابه، بأنهم يعانون من "متلازمة المهزوم" (ص: 122)، وهو ما يجعلهم، أيضًا، "يضخِّمون، حتى العبث، كل عيوب عصرنا" (ص: 239).
ولا شكَّ في أن هذا الاتهام، الذي يجد بعض التصديق له في النزعات المتطرفة، والممارسات الوحشية التي ارتكبتها داعش، والنظام السوري، وغيرهما من الفئات المتقاتلة في الحروب الدائرة في المنطقة، يضخِّم دور هذه الجماعات، ويغضُّ الطرف عمَّا تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، وكذلك اللبنانيين، وهجماتها المستمرة على الأراضي السورية، تحت سمع العالم وبصره. إنه يشدّد على الاستثناء العربي، وكذلك الإسلامي، كما في الصورة الاستشراقية الغربية النمطية، التي تطلُّ برأسها من حين إلى آخر، في "غرق الحضارات"، وبصورة أقل في "اختلال العالم". وهذا مقتل كتابة أمين معلوف، الموجّهة في الأساس إلى القارئ الفرنسي، خاصة، والأوروبي والغربي عامة، رغم نقدها الموجّه إلى الغرب، وأميركا خاصة، إذ يقول معلوف: "من الخطأ أن نضع بصورة منهجية المصالح على طرفي نقيض مع المبادئ. ففي بعض الأحيان، إنهما تتلاقيان. وسموُّ الأخلاق ضرب من الحنكة أحيانًا، والخسة تصرف أخرق. وعالمنا الساخر يأنف من أن يعترف بذلك، ولكن التاريخ يزخر بالأمثلة الدامغة، وفي غالب الأحيان، عندما يخون بلد قيمه، فإنه يخون كذلك مصالحه" (ص: 51).
هوامش:

1. أوردها معلوف في كتابه "غرق الحضارات"، ص: 163.
2. انظر ترجمته إلى العربية في: أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة: نهلة بيضون، دار الفارابي، بيروت، 2004. 
3. الترجمة العربية: أمين معلوف، اختلال العالم: حضاراتنا المتهافتة، ترجمة: ميشال كرم، دار الفارابي، بيروت، 2009. 
4. الترجمة العربية: أمين معلوف، غرق الحضارات، ترجمة: نهلة بيضون، دار الفارابي، بيروت، 2019.   
5. اختلال العالم، ص: 168-169. 
6. غرق الحضارات، ص: 203-205. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.