}

على هامش الحال العربي: حين كانت الكتابة (بيانًا وطنيًا)

فيصل درّاج 16 مايو 2021

"يقول مؤرخو الأدب إن تاريخ المجتمع الأدبي أكثر دقة من التاريخ الاجتماعي للأدب"، الذي يعني بلغة أكثر وضوحًا: إن الطريقة التي يصوّر بها الأدباء تتجاوز في موضوعيتها منهج المؤرخين الذين يدرسون المجتمع. وقد يكون في القول ما يبعث على الاعتراض، ذلك أن المؤرخين يرتكنون إلى "منهج علمي"، بينما يعتمد الأدباء على تأملاتهم الذاتية. ربما يكون في بعض الكتب الأدبية العربية، أكانت رؤية، أو نقدًا أدبيًا، ما يؤكد صحة القول المفترض.
ظهرت في مستهل القرن العشرين رواية محمد المويلحي: "حديث عيسى بن هشام"، التي وَصَفت خراب الأجهزة الرسمية المصرية، البلد العربي الأكثر تقدمًا، آنذاك، وألمحت إلى ما يجب إصلاحه. لحقت بها، بعد خمس سنوات، رواية الشاعر حافظ ابراهيم: "ليالي سطيح"، قرأت مجتمعًا مستعمرًا ينتسب إلى ماضٍ مجيد قطع معه، ويتحدث لغة عربية كادت أن تفقد هويتها، طغت عليها الركاكة وسقطت عليها البلادة. أعطى الفلسطيني روحي الخالدي في مستهل القرن عينه كتابه النقدي: "علم الأدب بين فيكتور هوغو والعرب"، الذي ندّد باستبداد عثماني، أجبر المؤلف على حجب اسمه عن طبعته الأولى، ولم يفرج عنه إلا لاحقًا.



أسس المويلحي في عمله، الذي جمع بين الرواية والمقامة، لولادة الرواية العربية، وتقدم بجديد غير مألوف، وجمع إبراهيم في نصه "المتخيّل" بين ترهين المقامة والتحريض على الاستعمار، وأنجز الخالدي عملًا أدبيًا استثنائيًا، عطف حال اللغة المعطّلة على الاستبداد، فالمستبّد يعطّل كل شيء بما في ذلك اللغة، وأنتج الكتاب العربي الأكثر شهرة في حقل: الأدب المقارن.
رصدت الكتب الثلاثة خراب السلطة، ومفاعيل السيطرة الاستعمارية، وعواقب الحكم المستبد. انطوت على نقد آفات تدمّر المجتمع، ووحدّت بين النهوض والحرية، وأخذت بشكل "بيانات أدبية ـ سياسية"، ألمحت إلى ركام عثماني صادر تقدم المجتمع، وأعلنت أن المستقبل المنشود، الواجب الوجود، يقضي بحياة اجتماعية مختلفة المعايير، تمايز الحركة الفاعلة من الركود. برهنت عن قولها الموضوعي بجديد أدبي غير مسبوق، فالرواية العربية كانت سقيمة الحال قبل عمل المويلحي، وكان الأدب المقارن قبل الخالدي مصطلحًا غريبًا، لكأن الجديد الأدبي، في ذاته، دعوة إلى تحريرالمجتمع المريض من قيوده المتعددة. بدت الكتب المشار إليها أعمالًا فكرية نقدية التبست، لأسباب لها علاقة بالرقابة، بأشكال أدبية، وأوضحت معنى التأسيس.
ولعل التمازج بين الأدبي المباشر والنقد الاجتماعي من وراء قناع هو الذي قاد الخالدي، لاحقًا، إلى دراسة الظاهرة الصهيونية التي تترصد بفلسطين، ودفع بالمويلحي إلى قراءة "علم التاريخ"، والإعلاء من شأنه، وأملى على حافظ ابراهيم شعرًا وطنيًا في ثورة عام 1919، تجلى في قصيدة شهيرة أثنت على المرأة التي تشارك في المظاهرات الشعبية ضد الاستعمار الإنكليزي. وانطلاقًا من المناخ الفكري ـ السياسي، الذي أشعل ثورة 1919، وزادته الثورة اشتعالًا، كتب إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس محمود العقاد، عملهما النقدي المشترك: "الديوان"، المقرر صدوره في أجزاء ثمانية لم يظهر منها إلا اثنان، واجه التقليدي المحافظ بالمتجدد المستقبلي، ووجّه نقده إلى أمير الشعراء "أحمد شوقي"، و"صنعته اللغوية القشيبة"، والمنفلوطي بنزعته القدرية التي تستهلك "مآسي الفقراء"، ولا تذكر أسبابها، متوسلة لغة قاموسية منقصعة عن الحياة. تزامن ظهور "الديوان"، في أوائل عشرينيات القرن المنقضي مع ظهور كتاب اللبناني ميخائيل نعيمة: "الغربال"، تقاسما الهدف والغاية، ومايزا ما يقول به معيش البشر و"نقيق الضفادع"، بلغة نعيمة.



ساءل الكتابان الحاضر، في أسئلته الثقيلة، ولم يحتفيا "بالأسلاف"، فللسلف مهما تكن فضائله قضاياه، وللأحياء قضايا مستجدة. جسّدا "تبادلية المواقع الثقافية"، إذ قديم الفكر من قديم اللغة، وإذ قيمة العمل الأدبي من وظيفته النقدية، التي تعرف الفرق بين ما يجب أن يمضي، وما يجب أن يولد، وأن ينمو. كان في منطقيهما ما يقول: إن الثورة الأدبية الفاعلة لا تستقيم إلا بثورة اجتماعية تقيم حوارًا خصيبًا بين "المرسل الأدبي" و"المتلّقي"، وأن تداعي العلاقات الاجتماعية يأمر بأنواع أدبية جديدة. شيء قريب من جهد اللبناني جبران خليل جبران، الذي طوّر اللغة العربية ممارسةً، واستدعي القصة القصيرة والرواية والتأمل الأدبي للوجود، واحتفى بجديد أدبي ـ فني نقَد الإقطاع والمؤسسة الدينية المتعصبة.



في منتصف عشرينيات القرن الماضي، أو "الفارط"، كما يقول الأخوة المغاربة، أذاع طه حسين كتابه النقدي "في الشعر الجاهلي"، الذي تداخل فيه مستويان أولهما يقرأ الشعر ويقيم الحد بين المزعوم والفعلي، وثانيهما، وهو الأكثر أهمية، كان "دفاعًا عن الحرية الفكرية"، احتكم إلى العقل ومعاييره، وترك "الأسلاف" مع موازينهم، ورأى العلم الموضوعي متجردًا من الأحكام الدينية والقومية وعادات الفكر الأكثر استبدادًا بين العادات المستبدة. ومثلما كان الفلسطيني روحي الخالدي يزجر الاستبداد متوسلًا "النقد المقارن"، كان طه حسين يدافع عن العقل مستأنسًا بالتاريخ، مدركًا أن الالتزام بقضية الحقيقة يستلزم الركون إلى نزاهة الباحث وشجاعة العقل. ولذلك كان، وسيبقى، عدو العقول المغلقة، التي تطرح قضايا زائفة وتعالجها بإجابات أكثر زيفًا. ولذلك أيضًا "أعدمته المدرسة الرسمية"، واستبقت منه، على مضض، سيرته الذاتية: الأيام.



في منتصف أربعينيات القرن الماضي، طبعًا، أصدر لويس عوض، الذي كان مقربًا من طه حسين فترة، ونفر منه لاحقًا، كتابه: "بروميثيوس طليقًا"، حمل أبعادًا متعددة: ففي الإِشارة إلى الرمز اليوناني دعوة إلى الثورة، سرق من الآلهة "نور المعرفة"، ونزل به إلى الأرض والعاديين من الناس. وكتب مقدمة طويلة عن "المادية التاريخية والنقد الأدبي" هي الأهم في مجالها حتى اليوم. ودعا إلى نقد أدبي جديد ينفتح على الثقافة العالمية، ولا يكتفي بما تركه الأقدمون.
نصل الآن إلى سؤالين: ما الدلالة الاجتماعية والسياسية للنصوص المشار إليها، ولماذا تراجعت اليوم ظاهرة "النص الأدبي ـ البيان الاجتماعي"، وما هي ألوان الكتابة التي أخذت مكانها؟ يجد السؤال الأول أجابته في أبعاد ثلاثة: وعي المثقف بالدور الاجتماعي الذي "يجب" أن يقوم به، كأن يكتب فرح أنطون روايته: المال والعلم والدين 1903، أو "المدن الثلاث"، ويدعو إلى عدالة اجتماعية، و"دين" متحرر من المصالح الخاصة، ويحلم بمجتمع متوازن. لكنه لا ينسى أن يؤكد "أن الرواية فن المجتمعات الراقية". وأن يدافع حافظ إبراهيم عن كرامة اللغة العربية، وأن يفصل طه حسين بين "الفكر الجديد" المنفتح على العالم، و"كتابة القدماء"، التي تعنى بالبلاغة المزركشة، وتزجر أحكام العقل زجرًا لا رحمة فيه. لا رغبة أن تعلن الكتابات المشار إليها عن "ميلاد المثقف الحديث" المختلف في أهدافه عن أغراض "كاتب السلطان" الباحث عن مصالحه الخاصة.



أمّا السؤال الثاني فيطرح موضوع الحرية والكتابة، إذ لم يعرف هؤلاء المثقفون، وجميعهم صعدوا قبل "ظهور الدولة الوطنية المستقلة"، قمع الحريات والقهر والرقابة البوليسية التي أفلحت فيها "دولة الاستقلال" فلاحًا كبيرًا، جعل من "الرقابة السلطوية" عنصرًا ثابتًا في عناصر "الكتابة الإبداعية"، ما ألجأ نجيب محفوظ إلى "المكر الروائي" الذي يلقي على مقاصد القول "قناعًا" يتقي "الحذف التعسفي". وإضافة إلى "نعمة الحرية"، التي رحلت مع رحيل الاستعمار، الذي أسس للتخلّف بأدوات متعددة، كان هناك "مجتمع الفضول المعرفي"، الذي يريد أن يتعلم ويحترم المثقفين، ويدرك معنى الجهل، وضرورة مواجهته بتعليم مفيد، ينير عقل الإنسان ولا يختصر فقط في "عمل حكومي" كان له هيبة في زمن مضى.
انشغلت الأنظمة العربية، أو معظمها، وبعد هزيمة 1967 بخاصة، بهندسة التجريف الثقافي، أو بقمع العقل، حتى غدا ثابتًا من ثوابت الحياة العربية. بل إنها حققت إنجازًا غريبًا من نوعه يقول: إذا كان التحديث الاجتماعي واجبًا من واجبات الدولة، فإن بعض أنظمة العرب أخذ على عاتقه تدمير التراكم الثقافي ـ القيمي الذي عرفه العرب قبل الاستقلال المفترض. أعطت السلطات العربية بأشكال لا متكافئة، درسًا إيضاحيًا في موضوع محدد: كيف تسقط الأمم؟ ذلك السقوط الذي يلازمه تغييب العقل المتسائل، وانطفاء القراءة، وتحوّل الكتاب إلى سلعة مرتفعة السعر في مجتمعات أُفقر معظمها.
جاء في الصفحات الأولى من كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" ما يكاد يقول: إن مجتمعًا مستقلًا لا حداثة فيه أسوأ من مجتمع يسوسه الاستعمار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.