}

عن "نحن البدو" وأشياء أخرى.. وعن زمن عربي مريض

ناصر السهلي ناصر السهلي 24 مايو 2021
آراء عن "نحن البدو" وأشياء أخرى.. وعن زمن عربي مريض
(Getty)

إذا ما ترك الإنسان لذاكرته فسحة لاستعادة شريط مخاطبة البعض في المنطقة المسماة "شرق أوسط"، وبالأخص منذ أواسط التسعينيات، وامتدادًا إلى غزو أميركا للعراق، وبالتالي مراحل لاحقة مستمرة حتى راهننا العربي، فثمة ميزة في غير مصلحة المُخاطِب.
وسائل التواصل، أو تطور تقنياتها، وبالأخص تلك التي يطلق عليها "تواصل اجتماعي"، تجعل المخاطَب في وضعية استنفار غير مسبوق، تحديدًا عند أجيال عربية عرفت التعامل مع تقنيات لم يعرفها السابقون.
أمثلة كثيرة واجهها جيل عربي كامل لم يدرك عمق تأثيرها النفسي، وخلقها اصطفافات وإفرازات مغرقة في شعوبية وشعبوية، حتى قبل أن تطفو الأخيرة في حلتها الغربية، وبلبوس فاشية.
لا يمكن أن ندع جانبًا تجربة الفلسطيني مع كل أشكال مواجهته لخطابة العنصرية اليهودية، والتي، بالمناسبة، لم يتجرأ سوى قلة في الإعلام الغربي على تناولها، تحت طائلة امتدادات "المسألة اليهودية"، منذ أن انتهى الزمن العربي في الأندلس، في عسف وعنصرية أوروبية أفضت إلى مجريات نازية وفاشية في القارة. لكن، من المفيد، ربما، التذكير أن جيلًا فلسطينيًا وعى على حياته، في السبعينيات والثمانينيات، يستغرب كيف أن يُحاصر بخطابي "الموت"، و"الذبح"، ليس له فحسب، بل "للعرب"، من وجوه "متدينة" تسرق أرضه باسم "وعد الرب". نعم، على امتداد سنوات موشيه ليفينغر، ومائير كهانا، والعشرات غيرهما، وامتداد شريط تلامذة التطرف اليهودي، ظل شعار "الموت للعرب"، إلى ساعتنا، يتردد دونما اكتراث حقيقي، عربي، أو غربي.

يهودي ضد الصهيونية في مظاهرة في نيويورك (22/5/2021/فرانس برس)


صحيح أن حاخامات التطرف وجدوا متلبسين، بعدسات تصوير فلسطينية قديمة، وبعضهم يشير إلى الطريقة الداعشية بإبهامه على الرقبة، متوعدًا بالعبرية "الذبح للعرب"، لكن ظل سيف "معاداة السامية" يرهب الصحافة الغربية، ويمنعها من الغوص في أشكال التطرف، التي في بعض جوانبها منعت نشر صورة أطفال يهود يتدربون على السلاح، ويُغذون في مناهج التعليم، برعاية رسمية في "الدولة الديمقراطية الوحيدة"، على ما لم يخطر ببال عتاة فاشيي وشعبويي قارة أوروبا، عن العربي الذي يستحق الموت فقط. كما أنه من المعيب استعادة شريط لا مبالاة عربية أوسع، على مستوى الصحافة والسياسة والدبلوماسية، في عز "كامب دافيد"، وخروج مصر من المعادلة، أن ظل مناحيم بيغن، الإرهابي باعتراف "سلطة الانتداب" البريطاني على فلسطين، يرعى في "كريات أربع" على أرض الخليل أعتى عتاة التطرف اليهودي.



تقوم معادلة مخاطبة الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية، منذ النكبة، وحتى لحظتنا الراهنة، على تقسيمات استشراقية يهودية أثرت حتى في صورها الغربية: بدوي، عربي، شركسي، درزي، مسلم، مسيحي، وفي الأخيرين تقسيمات أفظع لجماعات ومذاهب، ولو بالعشرات كان أتباعها، وإلى آخره من قائمة طويلة. رعاية المؤسسات الرسمية لدولة الاحتلال ما اخترعت تلك التقسيمات، بمشاركة أكاديمية موغلة في الإساءة إلى الأكاديميا كلها، إلا لتطبيق مشروع الأسرلة، ولعله مشروع لم يخض فيه مبكرًا، أكاديميًا، وبالتفصيل الثقافي والسياسي، أكثر مما خاض فيه الدكتور عزمي بشارة، الذي أسس في الأصل لانطلاق مشروع تحديه، عبر عنه في "التجمع الوطني" داخل الخط الأخضر.
لكن يبدو أن مهمة الأسرلة تجاوزت بالفعل خطوط "الخط الأخضر"، الفاصل بين الضفة وفلسطين المحتلة عام 1948. وتلك لم تعن سؤال الجنسية، أي هوية الشخص الفرد، بل ذلك الهوس الممتد إعلاميًا واجتماعيًا ونفسيًا في الأعوام القليلة الماضية في إطار "التطبيع"، إلى حدود استهزاء تلفزة عبرية من المشهد المقزز لفرض "تورتة السلام الإبراهيمي"، وعلم "أبناء العم"، بأيد عربية صغيرة، وإظهار طهرانية دينية بالرغبة في "الصلاة في الأقصى"، رغمًا عن رأي أهل القدس، وإمعانًا في تملق "الإسرائيلي الطيب"، في سياق فتح هجمة أكاذيب وتزوير إعلامي غير مسبوقين. وفي سياقه، لم يصدق، قبل فتح جرح "الشيخ جراح" والقدس، عمومًا، والحرب على غزة أخيرًا، عرب كثيرون أنه بالفعل ثمة جمهور يهودي يهتف بالموت للعرب، ويشتم نبي الإسلام محمدًا وهو يشجع فريق كرة قدم.
في حمأة الأكاذيب التي جاءت كنهر جارف منذ أواخر عهد دونالد ترامب، وصل الأمر ببنيامين نتنياهو، مُشجعًا من فاشية يهودية صهيونية عميقة ومتأصلة منذ 73 سنة، إلى تضليل وأكاذيب "العرب (داخل الخط الأخضر) يهتفون لي: أبو يائير"، أي على وزن مثلًا "أبو حافظ"، في حشود الديكتاتور السوري، بشار الأسد، على شاشات مسرح عبثي.

غرافيتي جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية في بيت لحم (10/ 4/ 2014/Getty)


المُخاطَب العربي في راهننا أغرق في محاولة إعادة تشكيل الهويات بخطاب دعائي لا يقل فداحة عن تقسيمات صهيونية تُقْدم على ما أقدم عليه المحتل البريطاني على أرض فلسطين، بما فيه من تمييز سطحي وسخيف بين "المسيحي والمسلم"؛ وتلك قصة أخرى من قصص موبقات سُكت عنها كثيرًا، على أرض فلسطين التاريخية، من دون أن يمنع ذلك اعتداءات أصحاب شعارات "الذبح للعرب" على كنائس الفلسطينيين، سرقة وحرقًا واضطهادًا لا يختلف في تمييزه بحقهم، الأبرتهادي المنشأ، عن اختراع "هوية قومية" تحت سقف ديني، وليس عرقي.



البداوة والبغال والجمال.. كمعايرة للعربي
لنعد، إذًا، إلى الحالة العربية الأعم، في مرحلة ما بعد "سقوط بغداد" في 2003. خرج في المنطقة بعض رهط التطرف، في لحظات هوس بـ"دي إن إيه" ـ الحمض النووي ـ لشعوب المنطقة، كتعزيز لمشروع الصهيونية خلق كانتونات انعزالية؛ وتلك، أيضًا، راهن عليها طيلة الحرب الأهلية اللبنانية، وفترة التواجد الفلسطيني المسلح، يخبرنا بسعادة وعنجهية فارغة زمن الهرج والمرج: سنعيد العرب على الحمير والجمال إلى شبه الجزيرة العربية.
ذلك خطاب لم يكن في جوهره يحمل ما يكفي، في رأي منصتين عربًا إليه، قبل شيوع وسائل التواصل بسرعة تفوق سرعة الصوت، لمواجهة مخاطره، حتى بتنا خلال سنوات أمام تسميات "نفايات بشرية"، على لسان سياسي رسمي لبناني، وفي العراق "هل من عربي هنا؟"، في الزمن الميليشياوي الإيراني، و"عرب الشمال"، في زمن التطبيع الأخير في بعض جنبات الخليج العربي، ثم العودة على بدء "أعراب.. بدو".
إذا ما نحينا جانبًا خطاب وزير لبناني آخر؛ ولست أدري إن كانت استعلائية تتوهم أن الفينيقية يمكن أن تشكل هوية حديثة للبنان المأزوم وجوديًا وهوياتيًا، عن "البدو"، فلنا أن نمعن في مساءلة قراءة بعضهم لـ"البداوة"، وكأنها مذمة، ترادف مذمة أدوات تنقل العرب في أزمنة القرن السابع الميلادي حتى بداية العشرين.
في عز مرحلة روما، بل وقبلها في أنحاء حضارات ما بين النهرين، والفارسية، والفرعونية، لم نقرأ أن وسائل المواصلات، قبل أن يمتطي العربي جواده وجمله، كانت مركبات فضائية، ودواب تطير بأجنحة، إلا إذا صدق البعض أن الأجنحة على جداريات الأساطير، وعلى ورق البردي، كانت حقيقية، وإن كان كذلك، فماذا حصل لتلك الدواب المجنحة؟ أين اختفت؟
بل ماذا يمكن أن يعني أن نقول مثلًا إننا، كعرب، لن نسمح لأحفاد برابرة قبائل الجرمانيين، والفايكنغ، أن يقولوا رأيًا في واقعنا؟



بالطبع، ثمة كثير يستوقف المستمع إلى استعلائية فارغة على "البدو"، مع تسجيل الاختلاف الصريح مع خطاب الأسرلة في زمن التطبيع، الموغل في احتقار امتدادات "عرب بلاد الشام" لأصولهم، على لسان مطبلين لحكامهم.
وقد يغفل مطلقو النعت، وقبلهم من أوغر صدور أتباعه بشوفينية قومية ودينية موغلة في العنصرية؛ دونما تبرير لشوفينية قومية عربية عبر عنها بعثيو وقوميو "سوراقيا"، أو "سوريا الكبرى"، بحق شعوب وثقافات، في محاولة كارثية لتعريب إجباري للهوية، نتائجها واضحة في صور مقابلة عن فشل أسرلة فلسطينيي الداخل، سكان وأصحاب الأرض الأصليين.
مرات كثيرة اعتبر البعض، في سياق تغييب مقصود للتعددية والديمقراطية وحرية التعبير والرأي، أن الدفاع عن "الزعيم" (وقد يكون زعيم طائفة صغيرة، أو حزب، أو رئيس وملك) هو بمثابة "دفاع عن الوطن".
فالخلط، في السياق الفاشي الديكتاتوري للحكم ليس ظاهرة عربية فحسب، جربته شعوب كثيرة في خلط متعمد بين "الزعيم" والوطن، من أدولف هتلر، إلى فرانشيسكو فرانكو، وبينيتو موسوليني، وأوغستو بينوشيه، وكل القائمة، بما فيها المتشبهة بالمقابل بالستالينية السوفييتية، والماوية الصينية. وعليه، لا يزال بعضهم يردد "وأنت ما شأنك في بلدنا؟ انشغل بقضيتك وحسب.. حكامنا تيجان على رؤوسنا"، حتى أن بعضهم سجد لصور الحاكم، ورفع بعضهم أحذيته على رؤوسهم، وآخرون، في هوس التملق والدونية، ربطوا في أعناقهم بساطير وجزم عسكرية تحمي الحاكم.
هل يحتاج أهل مشرق العرب، وبالتأكيد مغربه وخليجه، لإعادة قراءة المسائل الهوياتية؟
بالجزم، ثمة ما يستدعي، على مستويات الثقافة والإعلام والسياسة والأكاديميا وعلوم الاجتماع والنفس، مراجعات توقف انهيار المخاطبة، وتضع حدًا لتبادل شتائم تتوسع وتوسع فجوة العقل، وفجوات الأجيال المورثة، للأسف، بعض دونية أمام طبقة استبداد الحكم.
لننظر جيدًا في أساطير الصهيونية، التي أنتجت، اليوم، بفضل تراكم التملق والانتهازية الغربية{بل وبعضها في هوس ديني، بحثًا عن تعجيل "المسيا"، يستدعي دعم الاحتلال لتجميع اليهود بفلسطين ليقتلوا جميعًا}، هذا الكم الدفين من العنصرية والتطرف الديني الذي ينخر دولة الاحتلال، كما لم ينخر مشروعها شيء في السابق.
على أقل تقدير، وذلك ما غرق في وحله بعض العرب والمسلمين اللاهثين وراء التطبيع، تستدعى أسطورة "أورشليم" و"الهيكل" لتبرير كل ما يجري في القدس، كعنوان للتطهير المتواصل بحق الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، وسامريين غير معترف بيهودتهم، وغيرهم ممن يُقرأون كـ"بقايا احتلال عربي".
والبعض في المشرق العربي له قراءة جد سطحية عن الوجود العربي في منطقة بلاد الشام، ناسفًا التاريخ والتأريخ لحضارات واختلاط الأنساب والثقافات، حاصرًا قصته وروايته في أساطير لا تختلف كثيرًا في إيغالها بالتطرف عن قصة "الهيكل"؛ الذي جرف لأجل إثباته أركيولوجيا كل الحرم القدسي الشريف دونما فائدة، فاخترع بدل ذلك جماعات تطرف يهودي تريد عنوة وبالإرهاب فرض استحضار تاريخ مضى قبل آلاف السنوات، ما يفتح نارًا أخرى إذا ما أراد كل دين وشعب استعادة فرض ما كان قبل آلاف السنين، وبكل ما يحمله ذلك من إسقاطات تنسف كل معاني حضارة البشر في العيش المشترك والحداثة والتحضر، فتصير "هواية" اختراع هويات "يهودية" و"فرعونية" و"فينيقية" و"آشورية" و"كنعانية" و"آمورية" و"رومانية",... إلخ، تستند على فكرة إبادة العثرات، أي إبادة ونفي وجود شعوب عصرنا الراهن، وهو بالضبط ما سطرته وأنتجته عقلية "الموت للعرب" في رؤوس عتاة التطرف الديني التلمودي ـ اليهودي، المسكوت عنه منذ عقود طويلة.



بالتالي، لا ثقافة وخطابة السيد الوزير، من بلد عضو ومؤسس لجامعة الدول العربية، ولكل جماعات الانعزالية والتعصب، عن "البدو" و"الأعراب"، أو العرب عمومًا، ومعايرتهم بالجمال والبغال والحمير، باعتبار ذلك سبة، أو انتقاصًا من قيمتهم وقدرهم، بمن فيهم غساسنة المنطقة، وأنساب العرب كلهم، ستساهم في شيء سوى في نبش أجوف وأرعن عن تقوقع وتهيؤات "عظمة"، أعمدتها في هواء فاسد تفوح رائحته في المنطقة كلها منذ 100 عام ونيف. وليس بعيدًا عن ذلك أن أنظمة الاستبداد تعيش أيضًا على استدعاء هوياتي وتسميات ماضوية، وهو ما جربته النازية والفاشية القومية الأوروبية، لتعزيز شعبوية التطرف القومي لدى جماعات بشرية منشغلة برومانسية ماض متخيل في استرسالات تمحو كل الهمجية والدموية التي رافقت بنى ذلك الماضي.



ركل إرث التجهيل..
كل هذه المآسي مردها، ببساطة، إرث طويل من الجهالة والتجهيل المتعمدين، مضاف إليهما فساد وإفساد لقطع كل الطرقات على انفتاح أفق مختلف عن تسلطية واستبداد واضطهاد ناتجهما أكثر مأساوية من بحث فرداني عن الاحتماء بثقافات أخرى، أشد وطأة وعنصرية وتطرفًا.
فمفهوم الخلاص الأقلوي بالبحث عن "أم" أو "أب" يتبنيان جماعتـ"نا"، لا يساهم في الواقع إلا في توسيع الفجوة بين جيل، أو أجيال، عاشت على مبدأ "امش الحيط الحيط وقل يا رب الستر"، وأخرى تركل كل مورثات "نحن" و"أنتم البدو"، بما يحمله ذلك من مساوئ تمسك الأولى بتاريخ رث ومتفسخ من فساده.. وقد يكون ركل الأجيال الجديدة بوعي لمفهوم الخلاص الفرداني خلاصًا جماعيًا لمنطقة مقدمة مع الأسف، وربما على مدى متوسط، نحو مشهد انفجار التطرف الديني، ليس أقله في دولة الاحتلال الإسرائيلي، والذي سيطاول شظاياه "نحن" و"أنتم"، بلا استثناءات مطبعة، أو مدعية ممانعة تنتج مزيدًا من تشظ وانقسامات، وسورية والعراق هما مثلان بسيطان على ما تحت القشور.
هذه الأجيال الجديدة التي تشق طريقها بسرعة تحتاج أن تبقى نقية في وسائلها وأدواتها، دونما تسلط، أو أبوية الجبن المستحكم منذ عقود بأجيال "اليد التي لا تقدر عليها بوسها وادعي عليها بالكسر"، فالدعوة بالكسر ما كسرت سوى ظهور شعوب المنطقة وجعلتها في أواخر سلم وراثة أنظمة "الدول الحديثة" لاستعمارية التفكير، الخارج من الباب والداخل من نوافذ كثيرة ومتعددة، حتى يومنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.