}

في الحاجة إلى ميخائيل باختين

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 30 مايو 2021
آراء في الحاجة إلى ميخائيل باختين
ميخائيل باختين (1895 ـ 1975)
كلما قرأت عن ترجمة لكتاب من كتب ميخائيل باختين (1895 ـ 1975)، أو دراسة عنه، أو شاركت في مناقشة أطروحة جامعية تطبّق مفاهيمه على نصوص عربية، أطرح السؤال الآتي: هل هذا المترجم، والكاتب والباحث والطالب، يعرفون اللغة الروسية؟ إن شرط معرفة اللغة الروسية لفهم باختين فهمًا عميقًا، وترجمته ترجمة دقيقة، وتطبيق نظريته تطبيقًا سليمًا، هو من بين أكبر الشروط في حالة هذا المفكر المثير للإعجاب للمنظرين والنقاد والأدباء في كل الثقافات واللغات على امتداد القرن العشرين، منذ عام 1929، إلى يومنا هذا.

احتلت أعمال باختين، منذ الستينيات، مكانة مركزية في التحليل الأدبي. لقد تمت قراءتها والتعليق عليها في الجامعات الأوروبية، وفي أميركا الشمالية، وأميركا اللاتينية، وأيضًا، في بعض الجامعات العربية، ومنها الجامعة المغربية. وأيضًا، نالت أعماله اهتمامًا كبيرًا في حقل علوم اللغة، وخاصة في لسانيات الخطاب، منذ أن ولجت إلى الحقل الفرنسي بواسطة تزفيتان تودوروف، وجوليا كريستيفا. لكن هذا الولوج لم يكن سهلًا، بالنظر إلى العائق اللغوي (فالقليل من المثقفين الفرنكفونيين يعرفون اللغة الروسية). وقد أكد المتخصص في تحليل الخطاب، جان بايتار، أن استقبال باختين كان مُرفَقًا بكثير من التوضيحات والشروحات التي أخصبت أعماله، وهي تدخل إلى مجمل حقول العلوم الإنسانية.



إن مفاهيم ميخائيل باختين التي طبعت هذا الحقل المتخصص، هي بكل تأكيد: "تعدد الأصوات/Polyphonie"، والـ"حوارية/ Dialogisme"، وذلك رغم تقلب معانيهما، مما أعطى فرصة لعدة تأملات إبستيمولوجية مهمة، ولنقاشات فيلولوجية، بسبب عدم تمكن العديد من اللسانيين الغربيين من الوصول إلى النصوص الأصلية. وقد عبرت الباحثة، ألكسندرا نواكوفسكا: "معجمه معقدٌ وصعبٌ الإحاطة به، وبالأحرى ترجمته، لأن المؤلف، رغم استعماله لمصطلحات موجودة، فقد استعملها استعمالًا خاصًا". لكن، هنالك صعوبة أولية تتجسد في كون المفهومين يتداخلان، للإشارة إلى تمازج الأصوات، ووجهات النظر، في كل ملفوظ.
استعمل العديد من اللسانيين مصطلح مفهوم "تعدد الأصوات" للإشارة إلى اختلاط الملفوظات في التلفظ اليومي. في حين، بالموازاة مع ذلك، يتحدث آخرون، ومن دون شك بطريقة أكثر وفاء لعمل باختين، عن الحوارية.




والمفاهيم الباختينية نفسها تم استعمالها في حقل البراغماتية، بفضل أعمال أوسوولد ديكرو. استعملت البراغماتية مفهوم "تعدد الأصوات" في إطار لسانيات التلفظ. في حين أن أ. ديكرو نقل حقل تطبيق "تعدد الأصوات" من النص إلى الملفوظ، حيث ميز صوت الذات (كائن واقعي) المتكلمة عن أصوات المتكلم والمتلفظ (كائن في الخطاب). هذه الوحدات الثلاث يمكن تشبيهها بالمفاهيم الأدبية: مؤلف، سارد، شخصية. وقد مكنته هذه النمذجة من تحليل حالات ازدواجية التلفظ في قلب الملفوظ الواحد، لاستجلاء المسؤولية التلفظية ووجهات النظر.



لكن، من منا لم يعبر عن القلق في موضوع "الحوارية"، ومصدر هذا القلق هو ما تعانيه "الكلمات الكبرى" من استعمال عام ومتكرر. فكل كلمة انتهت بـ isme، كما أثبتت التجربة، هي مصدر غموض في الفهم والاستعمال. وما أن نزيحها حتى تصبح اللفظة واضحة "حوار". وبكل تأكيد، علينا أن نحذر لأن الكلمات الصغيرة يمكن أن تكون هي الأخرى مصدر قلق، وصراع وغموض، لكن الكلمة الكبيرة، المصطلح، معرضان أكثر.
هذا قلق عبر عنه العديد من الدارسين المهتمين بالموضوع، وخصوصًا بميخائيل باختين. وقد عدَّ بعض هؤلاء الدارسين أن من الضروري الدخول في مرحلة مراجعة مقولات باختين الذي أصبح "أسطورة شاملة"، مع التأكيد على هذا الأمر: لا يعرفون اللغة الروسية، وليسوا متخصصين في باختين Bakhtinologue.
كان شعار "حوارية" يُرفع في العقود الماضية، خصوصًا في السبعينيات والثمانينيات، ليعبر عن فترة استراحة خالية من ذكر "البنيوية"، التي أصبحت آلة قادرة على تفسير أي شيء.
وقد أصبح معروفًا وشائعًا وواضحًا التعارض والمقابلة بين تباين وعدم تجانس اللغات في أعمال رابلي، ودوستويفسكي، وبين خطاب السلطة "الحواري الداخلي". وطبعًا، يجب التأكيد على توفر الكفاءة اللازمة لمناقشة هذه القضايا؛ لأنها بكل بساطة تتعلق بتقديم وبسط لتاريخ الفكر الروسي في السنوات 1917/ 1930.
لم يكن لميخائيل باختين إمكانية، لأسباب ظرفية، كي يحلل أعمال مارسيل بروست، رغم أنه يعرف أعماله. وقد سبق أن عبر عن عدم حبه له؛ ربما لأسباب أيديولوجية، أو لأخرى تتعلق بكون ملحمة بروست الروائية "البحث عن الزمن الضائع" رواية أحادية الصوت. لكنه قدم دراسة عميقة لدوستويفسكي معروفة ـ "شعرية دوستويفسكي" ـ أكد فيها أن روائي موسكو العظيم هو خالق "الرواية الحوارية"، بل عمل على تطوير جنس روائي جديد كليًا. كما حلل روايات لشارلز ديكنز، وأبرز التعدد اللغوي ووجهات النظر في بعض رواياته.




وجد باختين أن دوستويفسكي مثل بروميثيوس في قصيدة غوته (قصيدة كُتبت بين 1772 و1774)، لم يخلق عبدًا بلا صوت، بل أشخاصًا أحرارًا، يستطيعون أخذ مكان بجانب خالقهم، ومجادلته، بل والثورة عليه. ويضيف باختين أن هؤلاء الأبطال الرئيسيين "ليسوا فقط مواضيع داخل خطاب المؤلف، بل موضوعات لخطابهم الخاص، يتخذ دلالة سريعة (...) فوعي البطل يتم تقديمه باعتباره وعيًا آخر، غريبًا...".



هذه، إذًا، بشكل سريع، القضية المحورية للأدب السردي: العلاقة بين المؤلف وشخصياته. حين يكون "السارد" حاضرًا بقوة، فهو ليس سوى وحدة وسيطة بين الاثنين، فيكون أحيانًا قريبًا من المؤلف، وأحيانًا أخرى من الشخصية. مؤلف/ سارد/ شخصية، هذا هو الثالوث الذي يحدد عالم السرد، ثالوث أدبي يهمش كل العناصر الإبداعية الأخرى، خصوصًا القارئ.
كانت نهاية ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، على مستوى كتابة ونقد الرواية ونظريتها، زمنًا خاصًا بالحوارية وتعدد الأصوات، واعتبار الرواية جنسًا مفتوحًا يتطور باستمرار. يجب تحليل هذه المقولة التي يستشهد بها الجميع من دون الوقوف عندها: لماذا قال باختين إن الرواية جنس أدبي مفتوح يتشكل باستمرار؟ هذه فكرة خطيرة، وفي غاية الأهمية. هنا نؤكد أن الروائيين المجددين الذين جعلوا الرواية جنسًا غير مستقر رفضوا الكتابة على منوال من سبقهم. مارسيل بروست مثلًا كتب "البحث عن الزمن الضائع" بناء على هذه الفكرة/ المغامَرة، فهو لم يكن يعرف أنه بصدد كتابة رواية حتى، أو تأسيس جنس سردي جديد، ما بعد روائي. حتى وهو في بداية كتابته لـ"البحث عن الزمن الضائع" كان يجهل هل هو بصدد كتابة رواية أم شيء آخر. وهذا واضح في إحدى رسائله: "لا أعرف هل أخبرتك سابقًا أن هذا الكتاب هو رواية. على الأقل هو ينزاح عن الرواية. هناك سيد يحكي ويقول ’أنا’".
في كل الحالات هو لا يريد كتابة رواية على طريقة بلزاك. لقد حاول كتابة رواية غير مكتملة ومهملة، عنوانها "جان سونتوي"، وهو في الثلاثين من عمره، حين حاول، من دون نجاح، تطبيق قواعد ما يمكن تسميته "رواية الشخصيات". وقد نجح بطريقة أفضل إلى حد ما في رواية "حب سوان"، النص الذي يمكن اعتباره رواية أحادية الصوت. فقد تمت كتابتها، في الجزء الأعظم، بضمير الغائب من طرف سارد.
إن الرجوع إلى باختين أمر ملح في اللحظة النظرية الراهنة، وذلك يفترض جهودًا من المؤسسات الجامعية، والمترجمين والنقاد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.