}

من الكتابة إلى الفن: حين يمتهن الكاتب مغامرة اللوحة

فريد الزاهي 25 يونيو 2021
آراء من الكتابة إلى الفن: حين يمتهن الكاتب مغامرة اللوحة
John Singer Sargent, 1914
لا أدري لماذا شدّتني في مراسلات عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي أمور تتعلق بخيبته من الكلمة ورغبته الآسرة في ممارسة التشكيل أكثر مما شدتني آراؤه في أعمال مروان، أو افتتاني بلغة هذا الأخير المنسابة التي تكاد تنبض شعرًا وعمقًا. فلقد أثار ذلك في ذهني تلك الخيبة القاتلة التي تنضح بها بعض رواياته، خاصة "حين تركنا الجسر"، كما جعلني أتذكر جملة من الكتاب العالميين الذين استهواهم عالم الأشكال والصور وتركوا لنا رصيدًا زاخرًا بالإبداع يكاد يضاهي إبداعهم الشعري والأدبي، من غارثيا لوركا، إلى وليام بزورّو، مرورًا بهنري ميشو وغيرهم.

لماذا يفتن الرسم والفن التشكيلي عمومًا الكثير من الشعراء والأدباء والكتاب؟ ولماذا لا يتورع بعضهم عن الرسم من غير أن يتخلى أبدًا عن عمله؟ من العلامة إلى الصورة تكشف لنا بعض تجارب الكتاب العالميين أن هذه الفسحة التي يمارسونها بهذا القدر أو ذاك من الانفلات من سطوة اللغة، تجعلهم يمارسون الفن باليدين، ويرقصون على تخوم الإبداع بالقدمين، ويقاربون المحسوس بالمجرد والمجرد بالملموس.

من الرغبة إلى الفعل

في تلك المراسلات، ينطلق عبد الرحمن منيف من التكلس الذي أصاب الكلمات، ومن قدرة اللون على قول الأشياء بشكل جديد: "أعتقد أن الفنان الذي يتعامل بوسائل أخرى، غير الكلمات، أكثر حرية، وأكثر بؤسًا، لأنه يتعامل مع المادة الأولى للحياة، مع اللون أو الكتلة، ولذلك لديه من الحرية ما يجعله كالله، له الحق في أن يعيد تشكيل العالم كما يريد، دون مثال سابق ودون قيود يفرضها الآخرون". يعترف منيف أن زيارته لمروان بألمانيا، جعلت الكلمات المراوغة تراوغه أكثر من ذي قبل وتفلت منه. "لقد امتلأتُ كثيرًا بالألوان في هذه السفرة، ولذلك لم تعد الكلمات ترضيني"... وهو الأمر الذي سوف يعبر عنه لاحقا بالصعوبات التي وجدها في كتابة روايته الجديدة.



قال عبد الرحمن منيف بعد مشاهدة معرض مروان قصاب باشي: "لقد امتلأتُ كثيرًا بالألوان ولم تعد الكلمات ترضيني" 


فتنة الفن هذه التي حملتها وجوه مروان إلى وجدان منيف، والرجلان في عزّ تجربتهما الأدبية والفنية، جعلت الروائي العربي الكبير يدخل في اعترافات لم نعهدها منه من قبل: "إحدى القضايا التي تؤرقني أن الكلمة: عاهرة. لم تعد لها تلك الدلالة الواضحة والمتفق عليها والثابتة. إنها تتغير، تتحول، تموج وترتخي أمام القوي الذي يعطيها معنى معينًا... اللون يبدو لي أكثر حيادا، وأكثر استعصاءً من الكلمة، وبالتالي لم يتعهّر بعد، وهذا ما يفتح له أفقًا غير مكتشَف، غير معروف، مما يجعله أكثر حرية واحتمالًا". كيف لأديب خبر الكلمة واللغة أن يصل إلى هذا الحدّ من عدم الثقة باللغة والكفر بمدلولاتها؟ هل هو فقط انبهار عابر أم استكشاف متعدّد لحدود اللغة وانفتاح التشكيل؟

يعترف عبد الرحمن منيف بما يلي: "لو لم أكتب لرسمت. أعرف أني لست موهوبًا في هذا المجال. لكن الغليان الذي يملؤني والذي يفيض باستمرار لا يمكن أن تستوعبه الكلمة المعهَّرة والتي أصبحت شائعة إلى درجة أنها لا تقول شيئا البتة... وربما كان التشكيل وحده يمتلك خاصية تجعله مختلفًا". هكذا سوف يبدأ في تحرير يده كي تخط خطوطًا لا تكون كلمات، مستلهما رسوم لوركا تارة، ومستوحيا تلك الطاقة التي يبثها فيه مروان.

لا يُخفى أن جبرا إبراهيم جبرا، الذي تقاسم معه عبد الرحمن منيف رواية "عالم بلا خرائط"، كان يمارس التشكيل في شبابه، قبل أن يكتفي بالكتابة عن الفن. وهكذا فإن ممارسة الأدباء والكتاب للفن رسمًا وتشكيلًا، هي عبارة عن هجرة عاشقة تزاوج بين عالمين، عالم الصخب الذي تخلقه اللغة الضاجة بالدلالات والمعاني، المباشرة منها والمضمرة الإيحائية، وعالم الأشكال والخطوط والألوان الذي يعيد خلق المرئي وتأثيثه بالتحويل والتشويه وأحيانًا بالدقة اللامتناهية... هم قليلون طبعًا، وأقل بكثير من الفنانين الذين استهوتهم الكتابة، وتملكوا ناصية اللغة والتعبير. فحين نقرأ مروان مثلًا، لا يمكننا إلا الاندهاش أمام تلك الشحنة التي يضخها في لغة شاعرية حاكية، بحيث أنه في مراسلاته تلك مع عبد الرحمن منيف، عبّر له عن رغبته في قلب المعادلة: أن يكون، هو الفنان، الكاتب المعلق على رسوم وإبداعات صديقه الروائي... كما أن كتابات فنانين عرب مشاهير من قبيل رمسيس يونان وشاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري وغيرهم من الفنانين (غير النقاد) تعتبر ممارسة للتفكير في مآلات الفن التشكيلي ومعضلاته، بصوت شخصي يصل أحيانًا إلى حدّ التنظير.

عدد من لوحات الجيلالي الغرباوي تشبه بعض رسوم الشاعر هنري ميشو 



هجرات متوالية  

"التشكيل والتأليف والكتابة، هنا تكمن مغامرة الحياة"- هكذا كتب هنري ميشو، الذي تعتبر لوحاته المائية ورسومه المدادية تجربة أقرب إلى الكتابة الغامضة الضاجة بالعلامات التي تبدو وكأنها تجسد حركية الفكر. كان ميشو، الشاعر البلجيكي الكبير المقيم بباريس، صديقًا حميمًا للفنان المغربي الجيلالي الغرباوي، يلتقيان باستمرار ويتقاسمان لحظات المتعة الفنية والشخصية قبل أن يموت هذا الأخير عام 1971 وحيدًا على أحد المقاعد العمومية وسط تلك المدينة. والحقيقة أن هذه الصداقة كان وراءها أيضًا تشابه في تجربتهما، فالعديد من لوحات الغرباوي تشبه بعض رسوم الشاعر، ويمكن قراءتها بما كتبه هنري ميشو من مقاطع صاخبة في كتابه الصغير الذي يضم لوحاته "انبثاقات وانفلاتات" (1972) والذي كتب فيها ما يذكرنا بسخط عبد الرحمن منيف على الكلمة "العاهرة": "الكلمات؟، لا أريد منها كلمة واحدة. ففي هذه اللحظة، لا أتصور أي تحالف مع الكلمات...". وإذا كان هنري ميشو قد مارس الرسم والتشكيل منذ نهاية الثلاثينيات، فذلك لكي ينفلت من المعنى الذي يشكل مغناطيس الكلمات ويبلورها في جمل ذات دلالة. لذا أضحى يبحث عن كتابة توجد قبل الحروف وقبل كل تواصل، كي ينصاع للأصل ولليل البهيم الحركي... "ففي التشكيل يستعيد البدائي والأولي والأصلي نفسه بشكل أفضل"... وها نحن مرة أخرى نجد صدى لهذه الرغبة الآسرة في كلام عبد الرحمن منيف وهو يكاتب مروان قصاب باشي.

كنت أعلم أن الشاعر أدونيس يمارس التشكيل منذ بدايات الألفية الجديدة. وبما أني لم تتح لي الفرصة لحضور أي من معارضه، فقد أتيحت لي تلك الفرصة في بيروت، كي أرى بعضًا منها لدى إحدى الصديقات له. "رقائم" أدونيس، كما يحلو له أن يسميها، عبارة عن لصيقات (كولاج) تحيط بها الكتابة والخطوط. يحكي الشاعر أنه يستعيد طفولته من خلال عملية اللصق، بلعبة المصادفات، ويشرّع لاوعيه على مجهول الكلام والكتابة: "لديّ انطباع بأن ما أقوم به على أنه رُقم، وحبر صيني، إنما هو لا وعيي. إنه الذاكرة، والماضي، والتاريخ، والأسطورة. أما ما أصنعه في الشعر فهو الشمول، أي الوعي واللاوعي. إذ ليس أيُّ رسم، وأي لصق بعملٍ مُنتهٍ، بل هو دومًا مفتوح، وغير ناجز. هذا مجرَّد انطباع عندي. لا شيء يكتمل إنجازه. ومن الجميل أن يكون هكذا. هذه علاقة مباشرة مع الجسد، علاقة مباشرة مع الحياة اليومية، وبالتالي علاقة مباشرة مع اللاوعي. ولا علاقة لشعري بهذا. كل شيء يتكامل. شعري نيتشويّ، وفاوستي، يريد أن يقلب العالَم. وأنا كمثل إله في الشعر. إله لا يعلم شيئًا. وأنا كمثل فلاّحٍ في رُقمي. ومع ذلك، أستعيد إحساسات طفولتي. يخال المرء أنني أبتكر الرقائم كي أُعوِّض طفولتي. لقد فقدتُ طفولتي، ولم أعرف الطفولة أبدًا: وُلِدتُ رجُلًا. وثمة، في حقيقة أنني وُلِدت رجُلًا، ما يُشبه إنجازًا مباشرًا. ومع هذه الرسوم، أسترجع عدم الاكتمال، وإمكانية عدم الاكتمال. ورُبَّما كَمَنَ هنا سِرُّ الطفولة".

أدونيس ومجموعة من أعماله الفنية


وفي السنوات الأخيرة فاجأنا الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي بمعرض للوحاته، هو الذي نعرف عنه أنه ممن كتبوا كثيرًا عن الفنون التشكيلية. ونعرف أن له أخًا كان مواظبًا على ممارسة التشكيل بشكل "فطري"، وابنة أخ متخرجة في التشكيل وتمارسه بهذا القدر أو ذاك من الإبداع. يعتبر اللعبي أن مروره إلى الرسم والتشكيل عبارة عن جماع تجربته وعلاقته بالكتابة والفن. إنه "ضربة قدر" تجعل الإنسان يولد من جديد في ذاته. "لقد قمت بخربشة رسم على ورقة في أحد الأيام. وبسرعة مررت إلى ورق الرسم ثم للقماشة. وفي وقت قصير وجدت نفسي أمارس التشكيل حين أجد الوقت لذلك، في كل يوم، ولساعات طويلة". لا يعتبر اللعبي أن ثمة انفصالًا بين ممارسة الشعر والتعاطي بالتشكيل، بل هو بالأحرى يحتفي بالشعر في جمال صمت الممارسة التشكيلية.

وكما أن رسوم غارثيا لوركا أو لوحات هنري ميشو لا تنفصل عن كتاباتهما، ولا يمكن الحكم عليها بشكل منفصل عن تجربتهما الشعرية، كذلك الأمر مع أعمال أدونيس واللعبي... إنها تجارب، لو أخذت منفصلة عن حضور صاحبها لم تكن لتثير اهتمامنا، لا لأنها لا ترقى لما يمكن أن نتوقعه من صاحبها، ولكن بالأساس لأنها الوجه الآخر لتجارب شعرية لها موقعها الراسخ في ذاكرتنا الثقافية العربية بشقيها العربي والفرنكفوني. فالأول شاعر كاد يحوز على جائزة نوبل للآداب، والثاني حاز على جائزة الغونكور الفرنسية المرموقة عام 2009. والقيمة "الوجودية" لأعمالهما التشكيلية ورسومهما تعود بالأساس للشخصية الثاوية وراءها، ولتوقيعها، أكثر من قيمتها الجمالية والفنية. إنها الديوان الذي لم تصغ قصائده الكلمات وإنما الخطوط والألوان، حتى وهو يستغل الكلمات كما هي الحال مع أدونيس... لكنه اشتغال على طابعها البصري المائل المتمايل، واستيحاء لروح المتنبي والمعري واستنبات لذاكرة المواد الملصقة. 

في السنوات الأخيرة فاجأنا الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي بمعرض للوحاته 



تستدعينا هذه التجارب لنظرة حولاء، نرى بها الجانب الخفي كما الجانب المرئي. إنها تستجذب نظرنا وتتركه حرًا، من غير تعليق أو حكم، سوى محاولة الإدراك والاستكشاف... هذه الأعمال تعلّق الحكم أو هي تستبطئ فيه سرعته، من خلال الإحالة على شيء آخر، وبالاستشهاد بما يقوله عنها الأديب الكاتب. والتجربة هذه، حتى لو استقامت وانفصلت عن صاحبها، وعن قيمته الأدبية، فإنها تستمر ظلًا لها، تدور في فلكها، تنيرها وتستنير بها... إنها أشبه بشهادة مرئية على جوانب خفية نطل بها على جوانب مغايرة من تجربة الشاعر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.