}

أيخمان الفلسطيني

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 27 يوليه 2021

 

شاهدتُ على إحدى شاشات التلفزة في أواخر حزيران/ يونيو 2021 شابًا فلسطينيًا من آل أبو عطوان يتحدث عن شقيقه الأسير غضنفر أبو عطوان، وعن صموده الاستثنائي في الأسر الإسرائيلي. ورأيتُ أيضًا، في الشاشة نفسها، شقيقته التي تحمل اسم بنزير أبو عطوان. وقد اتسعت حدقتا عينيّ إلى أقصى مدى عندما قرأت اسم "أيخمان أبو عطوان"، فأعادتني كنية أبو عطوان إلى الشهيد الغيفاري الفتحاوي باجس أبو عطوان (أبو شنار) الذي استشهد في جبال الخليل في عام 1974، وكتب عنه معين بسيسو كتابًا وَسَمه بعنوان "باجس أبو عطوان: مات البطل عاش البطل". غير أن مصدر الاستغراب والدهشة كان الاسم أيخمان وليس اسم "أبو شنار"، أي طائر الحجل أو الدُرُّج الذي يعيش شبه وحيد في البراري. وحملتني تأملاتي إلى والد أيخمان أبو عطوان الذي غامر بتسمية ابنه باسم النازي أدولف أيخمان الذي اختطفه الموساد في عام 1960 من الأرجنتين إلى إسرائيل، وحوكم بتهمة إبادة اليهود، وأعدم في عام 1962، وكان الحكم الوحيد بالإعدام في اسرائيل، ولم يحكم أحد غيره بهذا الحكم في ما بعد.

إن اسم أيخمان وحده يقض مضاجع الإسرائيليين، ويجعلهم ربما مذعورين من ميول الفلسطينيين ولا أجازف في الاستنتاج إذا قلت إن والد أيخمان أبو عطوان، كما هو واضح تمامًا من اسم ابنه، يكره الصهيونيين كراهية لا حدود لها جراء ما فعلوه بفلسطين وشعبها، ولم يتورع عن إعلان كراهيته بصريح العبارة، وبلا وجل. والعجيب أنه سمى ابنته بنزير التي تحلّت أكثر ما تحلت بالرقة والجاذبية والذكاء والشجاعة. وبهذا المعنى فقد اجتمعت الكراهية والرقة في منزل واحد: الأسماء الرقيقة للبنات، والأسماء القاسية للشبان مثل غضنفر وأيخمان. وقاعدة الأسماء هذه عربية قديمة؛ فقد كان العرب يسمون إماءهم وجواريهم وعبيدهم بأسماء لطيفة مثل دنانير وياقوت ومرجان وعنان وعريب ومسرور، ويسمون أبناءهم بأسماء قاسية مثل متعب ومجحم وخزاعي وعلقمة وحنظلة وضرغام... إلخ.

أُعدم أدولف أيخمان  عام 1962، وكان الحكم الوحيد بالإعدام في اسرائيل


الأرجح أن أيخمان أبو عطوان وُلد قبل أن تحتل إسرائيل الضفة الغربية في عام 1967. ومهما يكن الأمر، قبل عام 1967 أم بعده، فالنتيجة واحدة: الاسم تحدٍ يومي، ولو بالرمز، للاحتلال الصهيوني، ولو بصيغة تثير الاستنكار لدى كثيرين، وصاحب الاسم يتعرض، بلا ريب، لتنمر يومي من الإسرائيليين. ما هذا الجحيم؟ لقد ذكّرني هذا الوضع بأحد الشبان اليساريين الثوريين في بيروت الذي حمل اسم نازي الريشاني في أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وصار اليوم أستاذًا مرموقًا في إحدى جامعات البرازيل. وعلى غرار نازي الريشاني (والده كان عضوًا في الحزب السوري القومي الاجتماعي) قرأنا اسم لورنس الشعلان وهو من إحدى القبائل السورية التي أغرم أفرادها بلورنس العرب، ولينين الرملي (المسرحي المصري المعروف). وكثيرون في مرحلة صعود اليسار، سمّوا أولادهم باسم مكسيم تيمنًا بمكسيم غوركي وروايته "الأم"، أو باسم روزا احترامًا لروزا لوكسمبورغ. وبهذه الدوافع ورث صديقنا الكاتب فيديل سبيتي وشقيقته الشاعرة لوركا سبيتي اسميهما من الميول الشيوعية لوالدهما آنذاك. وعرفتُ، في مرحلة النضال الفلسطيني، مناضلًا يدعى "الشيخ لينين"، وكان يشبه لينين بصلعته وذقنه، وكان بالفعل شيخ جامع في غزة قبل هزيمة 1967، ثم تحوّل إلى الماركسية، وتكنى باسم "الشيخ لينين"، فصار لدينا شيخان في أوائل سبعينيات القرن المنصرم: الشيخ إمام والشيخ لينين. ولعلها من طرائف الزمان أن الشيخ لينين، حتى بعد أن تحول إلى الماركسية، ظل متزوجًا امرأتين.

في لبنان هناك شخص اسمه روزبه عبد الخالق، وثمة أشقاء أربعة من آل حاطوم حملوا الأسماء التالية: أفلاطون وسقراط وأرسطو وفيثاغورس. وإذا كان البحاثة والعلامة يوسف شُلحت قد كتب أحيانًا باسم "سرندل بن عرندل"، فإن أشخاصًا موجودين بيننا الآن حملوا أسماء غريبة عجيبة. وهؤلاء يتحركون في المجتمعات العربية بكل سلاسة وحبور، وليس من قبيل المفاكهة أن أذكر بعض تلك الأسماء أمثال: فاروق ضارب عبد العزيز مرتين (سعودي)، صباح الخير عبد الله صباح الخير عثمان (سعودي)، ماشي حافي ليل نهار (كويتي)، قاطع كثير ورد (كويتي)، خربوش بن ضبعان بن فدغوش آل بوسباع الدوسري (سعودي)، هاتف عطية عطلان (الكويت)، طالع نازل عالي (الكويت)، مهباس جزعر رفس الحمار (الكويت)، دية رايف هايف تعبان (الكويت)، محراق طزلان رقاس وهق معبار (الكويت)، إسرائيل إسرائيل (لبنان).

لم يتنمر أحد، بحسب معرفتي، على اسم إسرائيل إسرائيل، وإن كان الاسم، في حد ذاته، مدعاة للتساؤل عن أسبابه. ولم يتنمر أحد على أبناء آل صهيون الفلسطينيين، لكن، هل جنى اسم أيخمان على صاحبه في الضفة الغربية المحتلة كما جنى أدولف أيخمان على نفسه في ما صنع من جرائم وعمل؟ وللناس في أسمائها فنون.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.