}

عن العنصرية النسوية واللغة الفائرة

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 18 سبتمبر 2021
آراء عن العنصرية النسوية واللغة الفائرة
(Getty)

منذ يفاعتنا الجسدية، وطفولتنا الفكرية في شعاب الماركسية الثورية، كنا نترصد الحركات النسائية في الغرب الأوروبي والأميركي، ونرصد أطروحاتهم في شأن الحرية والحب والحقوق المهضومة، وكانت أنجيلا ديفيس أيقونتنا السوداء التي حلّت في محلها ويني مانديلا في ما بعد. وقبل ذلك أُغرمنا بالجميلات الجزائريات المجاهدات الثلاث: جميلة بو حريد، وجميلة بو عزة، وجميلة بوباشا. وعاشت روزا لوكسمبورغ في ذاكرتنا الطرية كطراز عظيم من المناضلات الثوريات، ولم تجذبنا أفكار ألكسندرا كولونتاي عن الحب الذي يشبه كأس الماء؛ يُشرب ثم يملأ ثانية لكن، من جرّة أخرى. وكذلك لم تستهوِنا جان دارك على الإطلاق، بل أُغرمنا بـِ"قرة العين" التي أعلنت القيامة، وحطّت التكاليف، وخلعت الحجاب، ودعت إلى مساواة المرأة بالرجل، فطلقت نفسها وراحت تخرج سافرة إلى أن اعتقلتها قوى الرجعية والتعصب والانغلاق فأُعدمت خنقًا ورُميت في بئر وأُهيل التراب عليها. وفي هذا الميدان، سحرتنا أغاني جون بايز عن السلام والحب، وأغاني بوب ديلان المناهضة للعنصرية والعنف الإمبريالي، وكتابات جيري روبين، ولا سيما كتابه Do it (1970)، فضلًا عن هربرت ماركوزه، وإريك فروم، وجيزا روهايم، وولهلم رايش، وتيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، ووالتر بنجامين، ومدرسة فرانكفورت، وحركة مناهضة الحرب في فييتنام Youth International Party (yip)، التي اشتُقّت منها كلمة "الييبيز". وكلمة Party هنا لا تعني الحزب كما هو شائع، بل "حفلة" أُممية بحسب أفكار جيري روبين، وآبي هوفمان، وألدريج كليفر. وجيري روبين ذاك، قبل أن يتحول إلى مروّج مبيعات، تحدى المؤسسة الأمنية الأميركية، وذهب إلى كوبا على الرغم منها، ومن الأوامر المانعة، وقابل غيفارا. وقد ترجم كتابه إلى العربية، ريمون نشاطي، الحلبي المتمصر، بعنوان "هيا إلى الثورة" (بيروت: دار الآداب، 1971).

أنجيلا ديفيس أيقونتنا السوداء التي حلّت في محلها ويني مانديلا في ما بعد (Getty)


بهذا المعنى، كانت حركات المرأة (أو تحرير المرأة) حاضرة في ثقافتنا بقوة، خصوصًا مع صعود نجم نوال السعداوي، وانتشار كتبها انتشار النار في القصب اليابس، خصوصًا "المرأة والجنس" (1973). ولا بد، في هذا الميدان، من التفريق بين "النهضة النسائية العربية" التي لمعت في أرجائها الدمشقية هند نوفل، والحلبية مريانا مراش، والمصرية هدى شعراوي، وبين حركات تحرير المرأة women’s Liberation movements. فالنهضة النسائية العربية سعت إلى انتزاع حق النساء في التعليم وفي العمل وفي اختيار الزوج وفي السفور، فيما حركات تحرير المرأة ناضلت في سبيل المساواة مع الرجل، وفي سبيل حق المرأة في المشاركة في الانتخابات التشريعية وتولي الوظائف العليا، وحقها في الطلاق وحضانة أولادها. أما الحركات النسوية الجديدة Feminist فهي تتبنى مجموعة من النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي تتطلع إلى القضاء على التمييز على أساس النوع الاجتماعي. وقد تطرّف بعض اتجاهاتها فجنح إلى العداء للرجل كنوع بيولوجي، وراح يدعو إلى الاستغناء عن الذكر نهائيًا حتى في الحياة الجنسية.



التنوير والمرأة والرجال

نوال السعداوي إحدى أشهر المدافعات عن حقوق المرأة في المنطقة العربية (Getty)


الذين ناضلوا في سبيل تحرر المرأة العربية كانوا، في البدايات الأولى، رجالًا، أمثال رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، ومنصور فهمي، وجميل صدقي الزهاوي، صاحب قصيدة "مزّقي يا ابنة العراق الحجابا"، التي يقول فيها:
مزّقي يا ابنة العراقِ الحجابا
واسفري فالحياةُ تبغي انقلابا
زعموا أن في السفورِ سقوطًا
في المهاوي وأن فيه خرابا
كذبوا فالسفورُ عنوانُ طهرٍ
ليس يلقى معرّة وارتيابا.





هؤلاء الرواد، وأمثالهم، وقفوا من حجاب المرأة موقف الرافض، لأنهم عدَّوه كفنًا للمرأة، ويمثل الاعتداء الذكوري على الجمال الأنثوي. وهؤلاء ومَن جاء بعدهم مهدّوا السُبُلَ لظهور نساء كرسنّ حياتهن لتحرر المرأة العربية، ومساواتها بالرجل، وانتزاع حقوقها المنقوصة. لكن، بعد نحو مئة وخمسين سنة من بدايات التنوير، ها هم العرب اليوم، بعد صعود الحركات الإسلامية، يعودون إلى مناقشة قضايا الحجاب والسفور، وعمل المرأة وأهليتها لتولي المناصب العامة، كالوزارة والنيابة والقضاء، حتى أن الموديل العارية مُنعت في كليات الفنون الجميلة في مصر ولبنان، ما يبرهن على مستوى الانحطاط الذي بلغته الحياة الثقافية العربية، بعدما كانت متوهجة بالتجريب والمغامرة والإبداع. ولعل انطواء حقبة اليسار الثوري والعلمانية التقدمية منذ عام 1979 فصاعدًا، وصعود حركات الإسلام السياسي، المسلحة وغير المسلحة، التي أنشبت أظفارها ومخالبها وأنيابها في المجتمعات العربية بعد فوران الجهاد في أفغانستان، وانتصار الملالي في إيران، جعل حركات تحرر المرأة في العالم العربي تنكفئ إلا من اختلاجات هنا، وحمحمة هناك، وبقايا الحنجلة هنالك. وهذه التحولات لم تكن، كما يبدو لي، وعلى قدر معرفتي بهذا السياق، مقصورة على بلادنا العربية، بل طالت، لكن بصورة معاكسة تمامًا، حركات تحرر المرأة في الغرب أيضًا. ففي الوقت الذي كانت فيه حركات تحرر المرأة تنتكس في بلادنا العربية، وتتخلف بتسارع عجيب (أنظر قوانين الأحوال الشخصية الجديدة: إقرأ قوانين الأهوال الشخصية)، كانت حركات المساواة في الغرب تذهب بعيدًا في خلاصاتها الفكرية.




ظهرت حركات تحرر المرأة، كما هو معروف، في المجتمعات الغربية التي قطعت شوطًا في التنوير والعلمانية، وربما كانت بداياتها التأسيسية ترقى إلى أوائل القرن السادس عشر. وهذه الحركات عملت على انتزاع المساواة مع الرجل في جميع المجالات، ونيل حقوقها السياسية، كالحق في الانتخاب والترشح وتولي المواقع العليا في السلطة؛ وحقوقها الاجتماعية، كالحق في الطلاق والإجهاض والإرث وحضانة الأطفال؛ وحقوقها الاقتصادية، كالحق في الأجر المتساوي مع الرجل، وحق الانفراد في مشروعات ربحية خاصة بها من دون وصاية الرجل؛ وحقوقها الفردية، كالحق في اختيار الزوج، والحق في الحب الحر، وحق الحمل من دون زواج، والحق في الاحتفاظ باسمها الأول قبل الزواج. وقد أرست هذه الحركات ثقافة جديدة ولغة جديدة أيضًا، فصارت المرأة تقول في ما لو سُئلت عما تعمل: أنا ربة منزل، وهذا أمر جديد، لأن المرأة في المنزل كانت تعتبر عاطلة عن العمل، والإنفاق عليها يقع على عاتق الرجل. واليوم صار العمل المنزلي مهمًا جدًا، ولا يمكن تقدير منفعته بثمن محدد. وكذلك تحولت عبارة "مولود غير شرعي" إلى "مولود خارج الزواج" أو طفل الحب، وفتاة الهوى صارت "بائعة اللذة" Sex worker.



اللغة العنصرية للنسوية الجديدة

(Getty)                                                                                                                                                                                                        


خلافًا لذلك الواقع الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية في أجواء صعود اليسار الثوري على النطاق العالمي، فإن الحدود بين اللذة والمنفعة في المجتمعات الغربية العلمانية نفسها التي خضعت لآليات العولمة الجديدة راحت تضيق، وخضع الجسد الأنثوي للتنميط جراء إطلاق جميع مبتكرات الصناعة مرة واحدة، وجرى نزع السحر عن جسد الأنثى الذي ظل محاطًا بأسيجة جمالية وأخلاقية ودينية وفلسفية وفنية حتى أواسط سبعينيات القرن المنصرم؛ فجميع النساء اليوم يستعملن العطور المتشابهة، ومزيل روائح العرق نفسه تقريبًا، ويرتدين الأزياء المتقاربة، ويضعن المساحيق المتطابقة، ويتناولن المأكولات إياها، حتى أن الفوارق بين أزياء الرجال والنساء باتت قليلة. ومع ذلك فقد أضنت العولمة، والرأسمالية التقليدية قبلها، حياة النساء المتحررات، وحياة اللاتي ناضلن في سبيل الحرية. فظاهرة الطلاق، على سبيل المثال، وترك الأطفال في حضانة الأم، جعلت المرأة مضطرة إلى العمل بصورة متواصلة لتعيل نفسها وأولادها، الأمر الذي أدى إلى تزايد معدلات الضيق والإرهاق والكآبة لدى المرأة، وانخفاض مقدار الحنان المكرّس للأطفال. وهنا نشأت الظاهرة المؤلمة Nursing Home وNursery: الأولى لأبناء بلا آباء، والثانية لآباء بلا أبناء.




في هذا الحقل الاجتماعي، تقدمت الحركات النسوية Feminist الأشد تطرفًا خطوات إلى الأمام ضاربة عرض الحائط وطوله بالتاريخ المجيد لحركات تحرر المرأة، وشرعت في التركيز على الهوية الأنثوية، وتحولت معركة الحقوق التاريخية إلى صراع مع الرجل، وصار التاريخ البشري لدى تلك الحركات العنصرية هو تاريخ الصراع بين الذكر والأنثى، وتاريخ التحرر من هيمنة الذكر على الأنثى. وغمر هذا التطرف الذي لا جذور له ولا أغصان، الذكور والإناث معًا، وتجسّد في مشهديات استعراضية لم تثمر قط أي قيمة جمالية أو معرفية ولن تثمر أبدًا. وتلك المشهديات راحت تركز على الأنوثة وحدها من جهة، في مقابل التركيز على الذكورة من جهة معاكسة، كالشفاه المنفوخة التي تناظر العضو التناسلي لدى المرأة، والرؤوس الحليقة التي تشير إلى القضيب لدى الذكور. وهذا التركيز التقابلي غير التفاعلي هو، في جوهره، استبعاد للإنسانية المركبة (ذكر/ أنثى)، وإمعان في الفصل بينهما، وكثيرًا ما اتخذ لدى المرأة التي تتبنى أفكار الـ Feminist محتوى من العنصرية الجنسية المقيت والكئيب معًا.

عمل فني للموقع التفاعلي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة (الأمم المتحدة)


أنكرت بعض الجماعات النسوية في الغرب ثنائية الذكر/ الأنثى، وشددت على عدم التجانس البيولوجي بينهما، وردّت الواقع إلى عنصر واحد أو مبدأ واحد هو الأنثى وحدها، لذلك قيل: إذا كان مبدأ وحدانية الأنثى هو النظرية، فإن المثلية هي التطبيق. ومهما يكن الأمر، فإن تلك المجموعات النسوية اعتقدت أن في إمكانها صوغ المفاهيم التي تغير الواقع ولو نظريًا، فغيّرت كلمة History إلى Herstory، وغيّرت كلمة women إلى womyn لتفادي كلمة man ، أو men.




لكن تلك المجموعات النسوية الغاضبة والمتعصبة في عدائها للرجل لم تنفع معها لياقات الرجال ومبالغتهم في تأنيث العبارات، والإكثار من استعمال "هو الذي/ هي التي"، أو "المثقفون/ المثقفات"... إلخ. وعلى الرغم من تلك اللياقات لم تتمكن النساء المفكرات في حركات الـ Feminist من تفادي كلمة Adam في Madam، أو كلمة male في Female، أو الضمير he في she، أوMr في Mrs. وفي الصلاة المسيحية من المُحال أن يقال Awomen بدلًا من Amen. ومع ذلك، فأنا أعتقد أن ثمة ثلاثة أنواع من الرجال لا يفهمون المرأة: الشبان والكهول والشيوخ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.