}

كريم عطّار يُراقص كائناته الغريبة ويرحل

فريد الزاهي 4 سبتمبر 2021
آراء كريم عطّار يُراقص كائناته الغريبة ويرحل
التشكيلي المغربي الراحل كريم عطار
كان لوفاته المبكرة وقع الصاعقة في نفسي. جاءني الخبر متأخرًا، فالحياة في زمن كورونا جعلتني أنزوي أكثر في قوقعتي درءًا لشر الوباء وشر البشر. لم تكن وفاته من أشهر قليلة بسبب الكورونا، هو الشاب ذو الجسد الذي نحته بالرقص، وذو العالم الذي بلوره بحركية زاوج فيها بين التشكيل والإيقاع. كانت نهاية حياته في حادث سير لم يمهل شبابه... عرفته في مسابقة للفن من تنظيم وزارة الثقافة من عشر سنين، كنت فيها رئيس لجنة التحكيم. فاز الشاب كريم عطار بالمرتبة الأولى، وكانت الجائزة تتمثل في مئات من الدولارات، وفي معرض شخصي وكتالوج كتبت له نصه. هكذا اقتحم كريم عطار، وهو في بدايات عقده الثلاثيني، كينونة الفن والاعتراف، باهرًا بعوالمه، مثيرًا بتهويماته، محركًا الهواجس بأسئلته القلقة... لم تنل منه الجائحة، لكنه في عزّها شاءت الأقدار أن تحصده حوادث الطرق... وأنا أستعيد ذكراه الآن، كشخص، وكتجربة تشكيلية لم يُكتب لها أن تجد طريقها للنضج، أحس بالغبن العميق، لأني لم أساهم أكثر في إخراجه من انطوائيته، كي يحلق بعيدًا عن مغارته...



الغرابة المضاعفة

من أعمال الراحل كريم عطار 


حين اكتشفت عالم كريم عطار، استشففت فيه شابًا لا يحابي نفسه، ولا يرغب في أن يمنح للآخر فضاء "جميلًا" مثقلًا بالألوان وبالغنائية التجريدية التي ينساق وراءها العديد من أبناء جيله. لم تكن له أي علاقة بالفنانين، أو المتعاطين للفن من جيله، لا يعاشرهم أو يخالطهم، إنما كان يعيش عوالمه الخاصة بعيدًا جدًا سوى من بواطنه. لم يكن "الرجل" ذا تكوين أكاديمي، بل فقط عاشقًا للرقص المعاصر، وممارسًا له. كان يحمل في جسده شياطين الهجنة التي حملها آدم في ذاته قبل أن تخلق حواء. أنوثته التي كان يغلفها بكثير من الحذر تنفلت منه مرة مرة بشكل طفولي آسر... كان يحمل ازدواجه الأنطولوجي كما لو كان منَّة تفتح له مغاليق عالم مشحون بالأخلاق الذكورية وبتراتيلها التي تتحول إلى قوانين جزرية.




ذلك الازدواج (الذي يذكرني بمُثنى، شخصية رواية "كتاب الدم" للخطيبي) هو ما ضخّ الدماء في عالمه التشكيلي، كما لو أنه أدرك أن المرئي لن يمنحه ركحًا للرقص إلا إذا هو اقتحم بحدّة حلبة الوجود. كانت خفة وجوده تقوده نحو الغور عميقًا في المواجهة. إنها مواجهة مواربة، تنكر العالم من خلال تعرية وحشيته، وتتقبله من خلال قلب قيمه. وكأنه لا يكتفي بمنظور واحد لإدراك العالم، إذ يقف هنا وهناك، في الموقع والموقع النقيض المقابل، يرى العالم من تحت ومن فوق... متبنيًا منظورية نيتشه، ربما من غير أن يطلع عليها...
ظل الفنان يشتغل ويبتكر. يخلق فرجات يتجاور فيها الرقص بالتشكيل، ويصنع منشآت ومنجزات فنية يتداخل فيها فضاء اللوحة مع فضاء العالم الخارجي. بل إنه بدأ يصنع ورقه من خلال إعادة تدوير الورق المستعمل، ويصوغ منحوتات (أهداني إحداها) من الفخار ويرتاد كل شيء يمنحه منفتحًا لتفجير مكنوناته الإبداعية... حين التقيته آخر مرة قبل وقت، استضافني بمغارته بالدار البيضاء، وأشد ما شدَهني هو ذلك الركام من المشاريع التي كانت تضج بتجربة فوارة لم تجد من يخرجها إلى عالم التداول. ذكرني كريم عطار بفرانسيس بيكون، كما بالسوري سبهان آدم، والمغربي محمد الإدريسي، وفي ما بعد بعبد الرحيم إقبي، الذي كان نجمه قد بدأ يسطع حينئذ.
حين تلج عوالم هذا الفنان الشاب تكتشف أنه لم يختر هذا الضرب من التعبير التشكيلي، بل وجد نفسه يدخله بكامل جوارحه. وذلك الكائن الهلامي الذي يشبه غولًا أو هامة، يبدو كأنه خرج من فيلم للرعب، أو من تلك الأفلام المخصصة لسكان الكواكب الأخرى. إنه كيان غريب عجيب، بالقدر نفسه الذي يغدو أليفًا، وكأنه خارج من صلب الفنان. وحين يتأمل الواحد منا تفاصيله الأنثوية (من صدر ناهد وشعر منسدل) يرمي بنا التأويل في الصورة الأمومية التي كثيرًا ما يصوغها الفنان في عتمتها، وكأنه يكشف عن بشاعة الكينونة التي تأتي بالإنسان للوجود، أو كأنه يسائل طبيعة الإتيان إلى العالم، في تشوهه وعدم اكتماله. كما يرمي بنا التأويل أيضًا في تلك الهجانة التي يرصدها، مجاوزًا بذلك كل ثنائية بين الذكوري والأنثوي، وبين البشري والوحشي، وبين الجمال والبشاعة.



كائنات العالم المأساوية

من أعمال كريم عطار 


انبثقت بداية الممارسة التشكيلية لدى كريم عطار من علامة تيفيناغ (لغة الأمازيغ المكتوبة) مارست عليه فتنة لا تضاهى، بحيث أضحى يحولها إلى شخصيات، ويشوه صورتها الأصل من بلورة لأخرى. هذه "التشويهات" ما لبثت أن منحت للعلامة أشكالًا متوحشة، عبارة عن غيلان وشياطين هجينة لها سمات الأنوثة والإناسة. إن هذا الانتقال من العلامة "الكاليغرافية" إلى الكائن الحي لم يكن ليمنحه أسراره إلا من خلال الندوب والآثار الباطنة التي انطبعت في مخيلته وطفولته وكيانه... وفي هذا اللقاء بين بواطن صاخبة بالتجارب والمعاني والمعاناة ومرئي لا يستقيم إلا بتشوهاته، بلور الشاب عوالمه الخاصة.




تحولت العلامة إلى ما يشبه الجنين، غير أنه جنين من نوع خاص، له معالم الأنثى. هل هو علامة حضور الأم؟ هل هو تلك الأنثى الرابضة في جسده، والتي "يضاهيها" بتطويل الشعر وممارسة الرقص، ويستبطنها بهجانة باطنة لا تستعلن إلا في ثنايا اللوحة؟ يقول كريم عطار في هذا الصدد: "إنني أرسم الجسد بين طابعه الإنسي والحيواني. إنها تنبثق من عوالم أقرب إلى القبر منه إلى الهواء، في وضعيات ليست أبدًا ببعيدة عن الرقص، الذي هو عالمي أيضًا... يتلوى الجسد في التخوم التي تلوّن العواطف... الجسد حامل لكل ما يحيا"... وفي هذه المفارقة بين الجسد والعالم، التي تجعل الجسد مرآة تنعكس عليه تشوهات الحياة والوجود، ينبثق المأساوي. الجسد المأساوي بهذا المعنى يضج بالتناقضات، وحين يعجز عن التحكم فيها يجعلها ترتسم على تكوينه وتتبدى من خلال تشوهاته، بحيث يتحول الجمال إلى بشاعة والبشاعة تمسي تعبيرًا صادحًا عن الجمال.
في معرضه الأول الذي تحدثت عنه آنفًا، كتبت نصًا باللغة الفرنسية عن الفنان جاء فيه: "إن الكائنات التي يشكلها عطار لنفسه كما لنا، تجعلنا نستعيد الجسد بدون أعضاء الذي تحدث عنه أنطونان آرتو، كما لوحة "ثلاث دراسات لعملية صلب" لفرانسيس بيكون. لكن هنا الأعضاء هي التي تصنع الجسد وتشكل مرآه. إنه جسد مأساوي بامتياز، منساب مع تياراته الداخلية، ومع توتراته التي لا تحتمل، بحيث إن المعنى ينبثق من تلك التلاقحات غير المنتظرة، والفجوات غير المتوقعة. إنه جسد مفكّر لأنه هجين، ورمزي لأنه غير متناسق. بل هو أشبه بالجسد المجازي المركب الذي ينبثق وينطلق كمصير مرآوي".
يبدو كريم عطار وكأنه يحول حركية العالم إلى لحظات رقص لها إيقاع الجذبة، حيث تتناسل كائناته أحيانًا، وتشكل حلقة متحركة تبدو كما لو أنها تستعيد لعب الطفولة. وأحيانًا تبدو وكأنها تطفو متحررة من ثقل الواقع، مرتحلة في الفضاء بإيقاعات تنساق مع الوجد. إنه يرسم لنا حكاية شذرية تتابع فيها الوضعيات وتتناسخ أو تتنافر، بحيث تتحول كل وضعية إلى ما يشبه الدائرة. والدائرة التي يصنعها الجسد الغرابيُّ هنا تحول الجسد إلى ما يشبه الجنين غير المتحدد المعالم، المتشاكل مع نفسه في أحادية وتوحد يستعصي على الفهم والإدراك. لا حاجة له إلى عينين، ولا إلى رجلين، ولا إلى يدين. إنه يكتفي في تشكله الهلامي بما يكفيه للنهوض والإقامة في اللامتحدد. ولكي يتوق إلى الاكتمال، وهو اكتمال مستحيل، أو إشكالي، يزاوج الفنان فيه بين كائناته، وكأنه يحولها إلى "أندروجين"، أي يستعيد بها ذلك الكائن الواحد الذي تحدث عنه أفلاطون في كتاب "المأدبة"، والذي يجمع أصليًا بين الذكورة والأنوثة.




بيد أن كريم العطار لا يكتفي بذلك، إنه على شاكلة الرسوم الفرعونية والأساطير اليونانية يوحد بين البشري والحيواني، مستكشفًا في ذاته ومراياه الداخلية ما يجعله يرقص في اللوحة "رقصة الموت". إنها رقصة مستمرة، على رجل واحدة، بل رقصة مقدسة يصنع بها الفنان أسطورة الحياة على طريقته.
عاش كريم عطار هامشيًا، وظل هامشيًا بعد مماته. كانت كائناته المرعبة لا تغري عاشقي "الجمال" البسيط بالاقتناء، ولا تستثير في "نقاد الفن" ما يمكنهم من فهمها وتأويلها. بيد أنها تجربة فريدة ومليئة بالأسئلة، نبعت من أحشاء الفنان، ولا تزال تستدعينا لاكتناه أسرارها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.