}

الساحة الثقافية في الجزائر.. ما سرّ التراجع؟

بوعلام رمضاني 17 يناير 2022
آراء الساحة الثقافية في الجزائر.. ما سرّ التراجع؟
جزائريون يحيون الذكرى الثانية للحراك في العاصمة الجزائر(22/2/2021/فرانس برس)



أَعرفُ، وأنا أكتُبُ السطْرَ الأولَ من مقالي هذا، أننِي سأُجابَهُ باستياءِ مُثقفِينَ قد يُعدّون على الأصابع، ولكن أَعرِفُ في الوقتِ نَفسه أنهُم سيُوافِقُونَ على طَرحي العام بِغَض النظَرِ عنْ نِسَبِ الاختلافِ مَعي فيِ نِقاطٍ مَا. وحتى لا أَقَعُ في أَسْرِ منْ يُحاوِلُ الوُقوفَ في وَجهِي منهجيا، لا ألُف ولا أَدورُ لأُوضحَ تعريفَ المُثقفْ قبلَ أنْ أخوضَ في إِشكاليةِ غيابِ أو صَمتِ المُثقفينَ الجزائريينَ في مَرحلةٍ تُعَد في تَقديرِي ثَالثَ أهم مَرحَلةٍ بعدَ مَرحَلَتيْ ما بَعدَ الاستقلالِ والعشرية السوداءِ. وأَقصِدُ بالمرحلةِ الثالثَةِ، المَرحَلَةَ التي سَبقتْ وَتَلَتْ الحراكَ الشعبي الذي دَخَلَ تَاريخَ الجزائرَ المُعاصر بايجَابيةٍ مُطلَقَة رَغْمَ كُل ما يُقالُ عن سِلبياتِه الشكلية والطبيعيةِ التي تَصُب في مَجرَى تَطورٍ مُنتَظَرٍ كَشفَ عن أخطاءٍ ومَطباتٍ مَا زالت السلطة الحاكمة تَترددُ في الاعترافِ بهَا على النحوِ الذي يَضمَنُ التصالُحَ بينَهَا وبينَ مَن يُعارِضُها ويَختلفُ معَ إصلاحاتِها المُنافيَةِ للتغييرِ السياسي والاجتماعي والثقافي الواجب تحقيقُهُ.
انطلاقًا من هذا المنظور، يأتِي الحديثُ عن دورِ المُثقفِينَ في التغيير باعتبارهِم الخُطوة المُتقدمة عنِ المُواطن غيرِ المعني بكل ما هو فِكرٌ بحثي ونَظَري ونقدي وآدابٌ بمختلَفِ ضُروبِها وفنُونٍ مُتنوعَة ومَعارِفٍ قانونيةٍ وفلسفية علمية وتقنية مُشرَعَةٌ على تخَصصاتٍ صَنَعَت وما زالت تَصنَعُ على مرآنا ومسمعنا مَلاحِمَ تَقدّمٍ مُذهِلٍ في زَمن الذكاء الاصطناعي والفكرِ المتجددِ والثورة التكنولوجية غير المسبوقة في مجالِ الاتصال.


تراجُع مُخيف
أنا الصحافي الذي وُلِدَ مِهنيًا في عز تبِعاتِ حُكمِ الحِزْبِ الواحِدِ المُرادِفِ حتمًا للرأيِ الواحدِ، وفِي سِياقِ الانفتاحِ السياسي العَابِرِ الذي اغتِيلَ في المهدِ، لا يُمكِنُ أنْ يفهَمَ أو يهضَمَ التصحرَ الثقافِي العام الذي تَعرِفُه الجزائر منذُ أنْ شُرِعَ في الحَديثِ عنْ تَعدديةٍ سياسيةٍ تَتَناقَضُ شَكلًا ومَضمونًا مع رُوحِ التعَدديةِ الفِكريةِ الحُرةِ التي تَفرِضُ حتمًا حيَاةً ثَقَافيةً تنْويريةً مُتنوعة تَسمَحُ بِتحلِيلِ وتَفسِيرِ ومُناقَشَةِ كل الإشكالياتِ التي تَنطقُ بهَا الحياةُ التراجيكومِيدية اليومية بِحس نَقدِي لَصيقَةٍ بماهيةِ المُثقفِ، وهيَ الإشكَالاتِ التي أصبَحَتْ تُثارُ فيِ المَقاهِي برُوحٍ منَ السخريةِ والعَبَثيةِ والسرياليةِ واللامعقولِ علَى ألْسِنَةِ دُهماءَ أو عَوامٍ لا يُمْكِنُ تَصنِيفَهُم في خانَةِ المُثقفِينَ بالمعنى الضيقِ لكَلِمةِ مُثقف.
ومن دون الغوصِ في مفاهيمَ المُثقفِ نظريًا، لأن المقامَ لا يَسمحُ بذلك، ولا المُرادُ من هذا المقالِ، أكتفِي وأنَا في الجزائرَ منذُ أكثَرَ من أربعَةِ أشْهُر بظواهرَ وأمِثلَةٍ تُؤكدُ غيابَ النقاشِ الفِكري الذي تُملِيهِ نظريًا تَطوراتٍ وإشكالاتٍ وتحدياتٍ سياسية واقتصادية وسوسيولوجيةٍ وسيكولوجية وأخلاقيةٍ خطيرةٍ. إنهَا الإشكالات التي يُفتَرَضُ أنْ تَجِدَ صَداها في لِقاءاتٍ فِكريةٍ سَاخِنةٍ وحُرةٍ وغيرِ تعليميةٍ، كمَا يَتِم ذلكَ من خلالِ برامجَ الإذاعةِ الثقافيةِ التي جَعلَتْ من نفسِهَا عُنوانًا للثقافَةِ بروحٍ مُغالِيَةٍ وغيرِ دقيقَةٍ عمليًا ومنهجيًا في غيابِ الهامشِ الكافي من النقاشَاتِ الفكرية التي تَسمَحُ بتَحليلٍ مُستفيضٍ وعميقٍ وشاملٍ لقضايَا مصيريةٍ بكل حريةٍ ومن دونَ توجيهٍ يَفرضُه السياقُ السياسي الجديدِ ظاهريًا حتى إشعارٍ جديدٍ.





خلافًا لسنواتِ الحزبِ الواحدِ الأوحدِ، ورغمَ سيفِ الرقابَةِ والرقابةِ الذاتية، لمْ نَعُد نَتسابقُ كمَا كنا في الماضِي القريبِ نحوَ قاعاتٍ كانتْ تَحتَضِنُ لقاءاتٍ فكريةٍ هامةٍ جدًا وأُمسياتٍ أدبيةٍ وسهراتِ فنية يُحييها كتابٌ ومُبدعونَ من الجزائرَ، ومن البُلدانِ العربيةِ والأجنبيةِ، كمَا لم نَعُد نَجِدُ في الأكشاكِ مجلاتٍ وصحفًا سادَتْ قبلَ أنْ تُبادَ، ولا أدل على حَنينِي إلى تلكَ المرحَلةِ من قِراءتي من حينٍ لآخر لعددٍ كبيرٍ من أعدادِها التي ما زالَتْ حيةً بينَ رفوفِ مكتَبَتي، ومِن بينها "ألوان"، و"الثقافة"، و"الأصالة"، و"التبيين"، و"القصة"، لصاحبها الطاهر وطار، المبدع البدوي الذي طوع تكنولوجيا الإنترنت في فترةٍ قياسيةٍ وهو يَنحَتُ من الصخْرِ في جمعية "الجاحظية" الثقافيةِ الفَريدةِ من نوعِهَا في العالم العربي، والتي ماتت بموته!

الناقد السينمائي أحمد بجاوي 

الأديب والصحافي العيد بن عروس 


التراجُعُ لمْ يَمُس الصحافَةِ الثقافيةِ التي مَثلَتها صَحيفَةُ "الشعب" بمُلحَقها الثقافي الذي عَرَف إسهَامَ كُتابٍ وصحافيينَ من كل التوجهاتِ، ومسّ أيضًا الصُندوقَ العجيبِ الذي كانَ يتأَلقُ من خلالِه سيدُ النقدِ السينمائي الكبير، أحمد بجاوي، أو بِرنار بيفو السينما في الجزائر، والأديبَ والصحافي، العيد بن عروس، والأستاذ فضيل بومالة، ببرنامجه الفكري غير المسبوق "الجليس"، والراحل الطاهر بن عائِشة، الذي استنطق ثُراتَ أعماقِ أِفريقيَا الإسلامي، والروائي واسيني الأعرج، ببرنامج "أهل الكتاب"، ولاحقًا عبد الرزاق بوكبة، الذي نَقَلَ نَشاطه الثقَافي بدَهاءٍ إلى الشارِع، ليَلتَقِطه كمَا التقطَ الشعبُ الثورَةِ مُجتهِدًا وغيرَ عابئ بنقدِ وحَسدِ العَاجزين والعدميينَ، واستجابَةً وتكريسًا وتجسيدَا لمقولَةِ الشهيدِ البَطل العربي بن مهيدي: "القوا بالثورَةِ إلى الشارعِ يَحتَضِنُها الشعب".


تَعدديةٌ في غِيابِ المُثقف

الروائي أمين الزاوي 


حتى لا يَغضَبُ مني الروائي أمين الزاوي، بِدعوَى الحرْبُ التي يَشُنهَا ضِدهُ مُخَالِفُوه في الأيديولوجيا علَى غيِر طَرِيقَتِي، يجبُ أنْ لا نَنْسى عِطرَ بَرنَامَجِه الإذاعِي الثقَافي الذي حَمَل شعارَ "شعبٌ يقرَأُ.. شعبٌ لا يُستَعبدَ ولاَ يجُوعُ"، وهو البَرنامَجُ الذي عَرَفَ صَاحِبُهُ كيفَ يَهْزِمُ المُصطادِينَ فِي المِياهِ الأيديولوجيةِ العَكرَة بِسبَبِ ضَيْقٍ وتَزَمتٍ وشَعبَويةٍ صُناعِ مُناخٍ كله تَجاذُبَاتٍ صِبيانيةٍ وأحقَادٍ قَديمَةٍ ومَصالِحَ شخصيةٍ نَاتِجَةٍ عنْ وَلاءاتٍ مُبَرمَجةٍ فِي أعْلَى هرَم صُناعِ القَرارِ، كمَا أَثْبتَ ذلكَ مُجددًا حرَاكُ شَعبٍ أضْحَى أقْدَرَ علَى تَمثِيلِ جمَاهِيرَ الأَصقاعِ السفلى مِن زُمَرِ النخبَةِ المُتقَاتِلة في الأبراجِ العاجيةِ.

الكاتب والإعلامي فضيل بومالة 


البرامِجُ التي ذَكَرتُها، والأُخْرى التي نَسيْتُهَا مُعتَذِرًا لأَصحابِها مُسبقًا، ليْسَتْ هيَ الوَحيدَةُ التي تؤُكدُ التراجُعَ المُخيفَ الذي عَرِفَتهُ الساحَةُ الثقافية كنشاط وكأَسماءٍ جامعيةٍ وأدبيةٍ وفكرية أصبحت تُثَارُ في مجَالسَ صحافيةٍ وشَخصيةٍ تعبيرًا عن حنينٍ لزمنٍ جميلٍ.

الحياةُ الفنيةِ ضُربَتْ هيَ الأُخرَى في صمِيمِ قلبِها وعَقلِهَا، ورَغمَ بُروزِ مَواهِبَ جديدَةٍ واعدةٍ في شتى المجالات، لمْ نَعُدْ نتَسابَقُ لحضُور مَسرحياتٍ تَارِيخيةٍ يَصعُبُ ذكرُ أسماءِ كل صُناعِهَا، من مسرحيينَ رَحلوا قبلَ الاستمرارِ في إِبداعِهم الذي شَهِدْتُ شخصيًا على خصوصيتِه الفنيةِ في أَكثَرَ من بلدٍ عربي، ولعل ذِكرُ أسماءِ: عبد القادر علولة، وبن ڤطاف، وزياني شريف عياد، وصونيا، ومجوبي، وكاكي، ومصطفى كاتب، خيرُ دليلٍ على تاريخٍ يبْدُو أنهُ لنْ يعود، والشيء نفسُه ينطبِقُ على فنانينَ دخلُوا الذاكرة التشكيليةِ، من أمثالِ محمد خدة، والمبدعة باية، واسياخم، وحُسين زياني، وصحافي وناقد عصامي مُعرب مِثلَ الراحلِ مَهدي لزوم، وحده، يَستطيعُ أنْ يَشهَدَ على صحةِ ما أَقولُ.

المسرحي عبد القادر علولة 




حدّثْ ولا حرَج عنْ رُموزِ الغِناءِ والمُوسيقى الذينَ رَفعُوا لواءَ الإيقاعِ واللحن والكلمة والشعر والتراثِ المكتوبِ والشفوي الشعبي إلى قمة القِمم، ولأَنهم كُثُر، أكتفي بذِكرِ الذينَ رنوا أكثَرَ في آذانِ الجزائريينَ والعرب وغير العرب، منْ أمثالِ الهاشمي ڤروابي، وعمار الزاهي، وخليفي أحمد، وأحمد وهبي، وأحمد راشدي، ونورة ورابح درياسة، وسلوى ومحمد العماري، الذي شاهدته يُفجرُ خَشَبَةِ مَسرَحٍ مَجَري بِصوْتِه الجَهْوَرِي وأنَا في مُهمةٍ صحافيةٍ لتَغطيةِ الأسبوع الثقافي الجزائري في العاصمة البديعة بودابست.

الفنان الهاشمي ڤروابي 


وخلافًا لما يعتقد بعضهم، لا أَضعُ بعضَ المُثقفينَ والفنانين الذينَ يُعدونَ على الأصابعِ من دونَ ذِكرهم (وهمْ يعْرِفون أنْفُسُهم) في كفةِ مُعظَمِ الذينَ يَتفرجُون على المرحلَةِ التي وُصِفَتْ بالجَديدَةِ، إما تحتَ وطأةِ استقالَةٍ قَديمَةٍ، كمَا تفرجوا على مراحلَ سَابِقَةٍ كانَ يُفتَرَضُ أنْ تَنعَكِسَ جليًا في إبداعٍ مُتنَوعٍ وعميقٍ يُفسرُ مَا حدَثَ في الجزائرَ منْ اقتتالٍ بَشعٍ بينَ الإخوة الأعداءِ بعيدًا عنِ الطرحِ السياسي الرسمي الذي يُقوْلِبُ خِطابًا أبْعَدَ ما يَكونُ عن الرأيِ والرأيِ الآخر.

الفنانة المسرحية الراحلة صونيا الجزائرية




الجزائرُ التي لمْ تَكنْ يومًا جزائرَ الرأيِ والرأي الآخر، كمَا يَفرِضُه مَفهُومُ الحرية التي تسمحُ بالإبداعِ حتمًا (علمًا أن ليسَ كل إبداعٍ في حاجَةٍ إلى الحرية بالضرورَةِ)، تَراجَعت ثقافيًا كمًا وكيفًا مُقارَنَةً بمرحَلةِ الأُحاديةِ الحِزبيةِ التي كانت تَتَوفرُ على فُسحَةٍ أْكبَرَ للتعبيرِ التعَددِي في صُحُفٍ لمْ تَكُنْ مُستَقِلةً بأتم مَعنَى الكَلِمَة ِخِلافًا لمَرحلَةٍ لاحِقَةٍ كان يُفْتَرضُ أنْ تتوسعُ فيها هذه الرقعَة منطقيًا إذا استندنا إلى خطابِ ما سُمي بالتعددية، والتي أضحَت سياسية حزبية شكلية لا أكثَرَ ولا أقل، والتي لمْ يُرافِقها حضورٌ ثقافي تعددي يَعكِس حريةً فكريةً يُجسدُها المثقفُ الذي لا يُعد كذلك إذا لم يَكن وُجُوده يَعني اتخاذَ موقفٍ مما يحدُثُ على الطريقة السارترية، وهو المَوقِفُ المُناقِضُ لكل مصلحَةٍ سياسوية عابرة، والضاربِ بجذورِه في جَوهَرِ وصُلبِ مُناهَضَةٍ يُمليها دورُ المثقفِ غير الانتهازي والمجددِ لتبريراتِ اصطفافِه مع صناعِ القرارِ الجُدد.


النشاطُ الرسمي بدَل الجَدل الفكري الحرّ
صحيحٌ أن فترَةَ الحِزبِ الواحدِ كانت دومًا دوغمائية بامتيازٍ، ككُل حكمٍ أُحادي أوحَدٍ، لكن الأصح هو تمكن عدَدٍ من المُثقفينَ والإعلاميين آنذاك منَ الاستمرار في بث أفكارِهم اليسارية والوطنية في كتاباتٍ وفي أعمالٍ فنيةٍ مُختلفَةٍ غيرِ مُعلنَةٍ عن ولاءٍ أعمَى ومُميتٍ، كما يحدُثُ اليومَ باسمِ الدفاعِ عن وطنٍ يَتعرضُ لمُؤامراتٍ خارجيةٍ في الوقتِ الذي يَعرِف فيه العام والخاص أن تحدياتٍ ومُشكلاتٍ داخليةٍ كَبُرَت وعَظُمَتْ بسببِ فَشلِ التسيير السياسي الفاسدِ والعبَثي المحض والذي بَلغَ حدًا سرياليًا شاركَ فيه كُتابٌ حداثيونَ وغيرُ حداثيينَ تملقُوا لنابليون الجزائرَ واقعينَ في أَسْرِ مِكيافيليتِه التي مكنته من تحويلِ النشاطِ الثقافي إلى ولائمَ أَكَل من مَوائِدِها عدد غير قليل من كُتابٌ ونَاشرُين وفنانُين من كل التوجهَاتِ والمِلَلِ القبَليةِ والجِهوية.
في هذا السياق، مثلًا، لمْ يَترددُ الروائي الكبير ياسمينة خضرا، الذي لا يجِبُ أنْ نَخلِطَ بينَ قُدرَتِه الإبداعية وبينَ مَواقِفِه وأفكارهِ ومزاجه، في قُبولِ مَنصِبِ مُدير المركز الثقافي في باريس، غيْرَةً على الوطن، كما قال لصاحب هذه السطور، مُمجدًا الملكَ الجُملوكي الصغير، والنبي الذي لم يَكُنْ يَنطِقُ عن الهوى، حَسبَ بَعضِ الوُزراء، قبلَ أنْ يَنقَلبَ عليْهِ بعدَ ترشحِه للانتخاباتِ الرئاسية. وشاءَ القدَرُ، يومهَا، أنْ يَشهَدَ كاتِبُ هذِهِ السطورِ على موتِ الطاهر وطار، من أكبرَ الروائيين الجزائريين، مرتَينِ، على يدِ مُدير المركزِ الثقافي الذي وَعَدَ بِتكرِيمِهِ قَبلَ مَوتِهِ، ولمْ يَفعَلْ شيئًا للاتصال بِه، أو زِيارَتِه، رغمَ إلحاحِ عبدِكم الضعيف. ومِثلَ المركز الثقافي الجزائري في باريس، الذي لمْ يَكُن يشتَغلُ مِنْ مُنطَلَقِ مُقَاربَةٍ تَنسَجم مع الخِطابِ الرسمي الذي يَستنِدُ على ثُلاثِي الثوابتِ الوطنية، كانَت ولا زالت أغْلَبُ النشاطات الثقافية منذُ أيامِ الحزبِ الواحدِ وحتى اليوم، لا تَعكِسُ النسيجَ الإبداعي المُترامي الأطرافِ في جزائرَ الأصقاعِ السفلَى الزاخِرَةِ بِطَاقَاتٍ مُذهِلَةٍ مما بَعدَ المَهدِ بقليلٍ، وقبلَ اللحدِ بقليلٍ أيضًا.
ورغمَ كل عِلاتِ وهناتِ النشاطِ الثقافي الرسمِي أيامَ الحزبِ الواحدِ، كانَ في إِمكانِنَا يوْمَهَا التحدثَ عنْ وُجودٍ لمُثَقفينَ يَتَعَاركون ويَتَجَادلونَ عن بُعدٍ، على خلفيةِ الصراعِ اللغوي، أوْ الانقساميةِ الثقافيةِ التي خلفَهَا الاستعمارُ بشكلٍ فظيعٍ في الجزائرَ من دونَ البُلدانِ العربيةِ الأُخرَى، حسبَ المُحَللِ الاجتماعي البارِزِ، ناصر جابي، في حديثٍ ناريّ نَشرَته "ضفة ثالثة" قبلَ عامين. وتكمُنُ المُفارقة في سِياقِ مُحاوَلتنا المُتواضِعة التي تَهدِفُ إلى إثارَةِ النقاشِ، وليسَ الزعمُ بِتحليلٍ شامِلٍ في مَقَامٍ مُحددٍ لا يَسمَحَ بذلك، في ظِل تَقلصِ وغِيابِ دورِ المُثَقفِ منْ يوْمٍ لآخَرَ تكريسا لتَنَاقُضٍ فَظيعٍ ورهيبٍ مع أصحابِ الخِطابِ الرسمي، الذينَ يَدَّعونَ تجديدًا شَاملًا في ظِل صَمْتِ منْ يدَّعونَ انتسابَهُم إلى النخبَةِ المُفكرةِ التي تَنصحُ وتُرشِدُ وتُنَظِّرُ لحُكامٍ كبَارٍ في العالم، من وراءِ الستَارِ بالتوجِيهِ الخَفي والمُبطنِ، أو بِالتقاريرِ السريةِ، أو بالكُتُبِ والندواتِ واللقاءاتِ والمُحاضراتِ الفِكريةِ الحُرةِ.
اليومَ، لا شيء يجْمَعُ مُثقفِينَ في نَدوَةٍ ساخِنَةٍ تُعالِجُ مَأساةَ هجرة الشبانِ، وحتى الكهول والنسَاءْ رفقَةَ أطفَالٍ في عُمُرِ الربيعِ، بَدلَ أئِمةٍ كُلفُوا بِشتْمِ أراضِي الكُفارِ بوْجهٍ عامٍ، وأرَضَ مَاكرونَ بَوجهٍ خاصٍ، وهيَ الأَراضِي التي يَلجَأُ إليهَا من سُدتْ في وجُوهِهِم سُبُل العيشِ الكَريمِ بِتواطُؤِ سَماسِرَة المَوتِ بوجهٍ عامٍ.
لا كُتُب هامةٍ أَصبَحَتْ تُثيرُ انتباهَ مُثقفِينَ، ولا صحافيينَ يَنتَسِبُون َإلى الإعلامِ الثقَافِي ظُلمًا وبُهتَانًا، إلا في حالاتٍ نَادِرةٍ، وكاتِبٍ مثلَ رشيد خطاب، صاحبَ كتاب "محمد لمين دباغين.. مُثقفٌ عندَ العوامِ" يستَحِق في بلدٍ يُقدر الإبداعَ أكثَرَ من نقاشٍ ساخنٍ ومُحتَرَمٍ تَكريمًا لأمثاله النادرين الذينَ يَجتَهِدُونَ بِعِنادٍ وإصرارٍ قبلَ أن تَبتَلعهُم أرضُ الجزائرَ مثلَ العَشراتِ الذينَ يَدعُونَ انتسابهم إلى عالمِ الكتابِ.
لقد اقتصر ذِكرِي في سياقِ الإشكال المَطرُوحِ على الكِتابِ الهام الذي حاورْتُ صاحبه، لأننِي اكتشفت قوتَه وخُصوصيتَه ونقائصه التي لم أجِدْ لها الأثرَ الأدْنى في صُفوفِ نُخبَةٍ مَحسوبَةٍ على الإبداعِ الفكري، وهي النُخبَةٌ التي أصبحتْ تَنتَظِرُ إبداعَ أرجُلِ لاعبيْ فَريقِنَا الوطني لكُرَةِ القَدَم، مِثلَهَا مِثلَ عامةِ الناس، أو الغاشيِ، كما يُقالُ في الجزائَر عنِ الدهماء.




رُبمَا يُعد ذلِك تَعبيرًا عن يأسٍ عبَثِي غيرِ مسبوقٍ، من شأنِه أن يُوفرَ جُرعَةَ أملٍ وجَمالٍ وفرحٍ في سياقٍ عالمي إلكتروني التواصُلِ والتأثيرِ تَسببَ في تَراجُعِ دور المثقفِ، لكن ليسَ بدرجَةِ تراجُعِ دورِ المُثقفِ في الجزائر.
يجدُرُ الذكرُ أن الكاتب رشيد خطاب طبع 400 نُسخة فَقط من كِتابِه الأول من نوعه في مُجتَمَعٍ يعيشُ فيه الملايين من المُتعلمين المُضربين عن القراءة. لا أَعرِفُ كم طَبَعَ المؤرخُ دحو جربال من كتابه الهام "الأخضر بن طوبال.. مُذكرات من الداخل"، والكاتِبُ عبد الله حمادي من كتابه "الشاعر المعتمد بن عباد ملك إشبيلية" الهام أيضًا!!!. كل ما أعرِفُ هو أن هذه الكُتُبِ المذكورَةِ تتَعذبُ مثلَ مُؤلفيها الذينَ يُقاوِمون صخرة سيزيفية حتى لا تَدوسَهُم بسرعة الضوء، وأرضًا تَبتَلعَهم طالَ الزمن أمْ قصر، إذا استمروا في عنادهم المجدي ما داموا يُؤمنون به وَحدَهم في غِيابِ حُكْمٍ وشَعبٍ يَتقَاذفان مَسؤولية عدم خَوضِ مَعركَة الوعي.. لا وَعيَ من دون ثَقَافة، ولاَ ثقافة من دون وعي!، ولا ثَقافة من دون كُتبٍ تُثيرُ اهتمامَ مُواطنين يُمثلُون نُخبةً تَرفُضُ أن أرْضَ الوَطنِ قد ابتلعتها فعلًا!!.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.