}

راهنيّة فكر عزمي بشارة ومبادئه.. ومشقّة الاختزال

جورج كعدي جورج كعدي 12 أكتوبر 2022



عَصفٌ فكريٌّ يجتاحكَ وأنتَ تقرأ ما كتبه الدكتور عزمي بشارة، وهو غزير، أو ما كُتب عنه. والحال كذلك أيضًا حين تشاهده على شاشات التلفزيون، أو تصغي إليه محاضرًا. هذا العقل، فائق الديناميكية، تصعب الإحاطة به من كل جانب، والسبب الأبرز أنّه عقل ديالكتيكيّ، جدليّ بامتياز، يسأل ويجيب ويعدّد جوانب الإجابة وآفاقها المفتوحة واحتمالاتها المتعدّدة، وفيها دومًا "هكذا... ولكن"، إن في ما يخصّ الوقائع أو الأشخاص، أو الحقائق وتأويلاتها المتعدّدة. اليقين لديه مشوب بالسؤال المستمرّ، بمع في هذا وضدّ في ذاك. هي الحيويّة الفكريّة التي ترهق صاحبها قبل أن تفعل ما تفعله في متلقّيها. فكر متشظّ في كل منحى واتجاه. هكذا دكتور عزمي، تَزَاحُمُ الأفكار يملأ منه العقل والشعور والوجدان. عقل فلسفيّ فذّ مرتكزه الفلسفة التي نهل من معينها في ألمانيا، وتلقّن من جوهرها الديالكتيك، والمنهج والمنطق والمحاججة الفكريّة، فضلًا عن المخزون الثقافيّ الواسع الذي يحصّله دارس الفلسفة حكمًا. ومن هذه الخلفيّة الفكريّة التخصّصية، التي تلتها مسيرة نضاليّة طويلة على أرض فلسطين، واليوم قسرًا وطوعًا خارجها، بنى الدكتور عزمي بشارة هرمًا تراكميًّا شامخًا من الإنجازات، متسلّحًا دائمًا وأبدًا بالفكر والحجّة والمنطق، وبما نشأ عليه بالفطرة: التحدّي. دكتور عزمي متحدّ فكريّ من الطراز الأوّل، سواء بين أهله الأقربين، أو وسط شعبه الفلسطينيّ، أو بين الزعماء والنظم العربية، ولكن بخاصّة في وجه العدوّ الإسرائيليّ المحتلّ والمستعمر والعنصريّ والإحلاليّ، حتى أنّه شاء مطاردة هذا العدوّ إلى عمق مؤسساته السياسيّة فـ "اقتحم" الكنيست نائبًا وكان هدفه جليًّا ومعلومًا: تمثيل شعبه داخله سياسيا ومطلبيا وصياغة خطابه النقيض للصهيونية بتقديم نموذج غير مطواع وتحدّي الصهيونية داخل برلمانها، متسلّحًا بخطاب ديمقراطي، كاشفا تناقض الديمقراطية والصهيونية، ومتسلحا بحصانة النائب العربيّ المضطرّ الى التعامل مع واقع إكراهي. ولم يسعفه السلاح الأخير حين قررت إسرائيل ان "ديمقراطيتها" لا تستوعبه.

كنتُ قد قرأتُ العديد من مؤلّفات الدكتور عزمي بشارة، وتابعته مرارًا عبر الشاشات العربيّة. لكن فاتتني قراءة كتاب حواريّ شائق معه أجراه الزميل الباحث والصحافيّ القدير صقر أبو فخر، ويعود تاريخ صدوره لدى "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت إلى عام 2017. فاتني الاطلاع على الكتاب عام صدوره، فقرأته حديثًا وتمتّعتُ كثيرًا بمضمونه، وأفدتُ من منهجه وشموله، ومن محاولته اختزال ما لا يُختزل في فكر الدكتور عزمي بشارة، إذ سعى الزميل أبو فخر، المقرّب منذ سنوات بعيدة من الدكتور عزمي، إلى إطلاع القارئ العربي من خلال هذا الحوار الطويل في 367 صفحة على فكر هذا المناضل التنويريّ والسياسيّ المقاوم، لا ليرسم له "بورتريه" شخصيًّا وإنّما ليخطّ له سيرةً فكريّة، سياسيّة، نضاليّة، ويزوّدنا خلاصات من فكره في مواضيع كثيرة عالجها الدكتور عزمي بشارة في مؤلّفاته الغزيرة متنوّعة المواضيع. واستلزم الحوار من القائم به سنة كاملة لإعادة قراءة إصدارات الدكتور عزمي بأكملها، وأُجري الحوار على مدى عشرة أيام طوال وتضمّن ثلاثين ساعة من التسجيلات. عمل جبّار، مضنٍ، للمحاوِر والمحاوَر على السواء، ليولد الكتاب الوثيقة تحت عنوان "في نفي المنفى.. حوار مع عزمي بشارة"، وليتميّز بالشمول والإحاطة وبالتقسيم إلى فصول ومحاور (بعد مقدمة وافية لأبو فخر) تحت العناوين الآتية: السيرة العاصفة، العروبة وفلسطين واليسار، سورية: الجرح الراعف، العرب في الداخل والتجربة البرلمانية، اليسار وأطروحاته، النهضة والعلمانيّة والليبراليّة والبعث والناصريّة، فلسطين وياسر عرفات والسلام المستحيل، حزب الله وسورية والعنف، الثورات العربية والمسألة العربية، التشيّع السياسيّ والإسلاميون الجدد، الديمقراطية والإسلام السياسيّ، الماركسيّة والعلمانيّة وفصل الدين عن العلم، تجربة الكنيست والخروج من فلسطين... بلوغًا إلى الفصل الوجدانيّ الأخير تحت عنوان: العودة إلى ترشيحا.





بعد أعوام خمسة على صدور هذا الكتاب الحواريّ القيّم، نلحظ أن عناوين محاوره لا تزال آنيّة على نحو مدهش، وإجابات الدكتور بشارة ما انفكّت مطروحة بقوّة، هي نفسها، اليوم. أمّا العنوان (في نفي المنفى) فيرمي إلى القول والتأكيد: عزمي بشارة لم يخرج من فلسطين ولم يُنفَ منها، ففلسطين ثابتة في نضاله المستمرّ من أجل قضيّتها العادلة، وهي في وعيه وفكره وقلبه ووجدانه، مثلما هو في قلب ووجدان فلسطين وشعبها الصامد على أرضه. حلم عزمي بشارة، الذي ينفي المنفى، أن يعود إلى قرية والده في الجليل، ترشيحا، حيث يرغب في أن يمضي بهناء في طبيعتها الجميلة سنوات تقاعده. وعسى يتحقّق حلمه وحلم أهل فلسطين أجمعين، فالحتميّة التاريخيّة تفيدنا بأنّ هذا الحلم سيتحوّل حقيقةً، لا ريب في ذلك.

تقتصر قراءتي لكتاب "في نفي المنفى" هنا، ولضيق المجال، على أفكار للدكتور عزمي بشارة من الواضح أنّها تحاكي اللحظة الفلسطينيّة والعربيّة الراهنة، أي أنّها تستمدّ من جوهرها تجدّدها وراهنيّتها، وليس ذلك بالأمر المستغرب لأنّ فكر قائلها من النوع الصلب والرؤيويّ البعيد الذي لا يفتّت الزمن من عضده أو من تماسكه. فها هو يرى، مثلًا، أنّ مجتمعاتنا (العربيّة) "تعيش أزمة أخلاقيّة في ناحيتين رئيستين: الأولى عدم وجود معايير أخلاقيّة متّفق عليها بحيث تدار الخلافات في ظلّها. فمثلًا، لا يوجد اتفاق عام على الطائفية والعنصريّة، أو حتى على قيمة الكرامة والحرّية كأساس لأيّ استقرار. أمّا الثانية، فهي التعصّب لمعسكرات إيديولوجيّة أو هويّاتية طائفية تهمّش الأخلاق، وتستبدل الشرّ والخير والصالح والطالح والقبيح والحسن و "نحن وهم" (...)". أمّا الديمقراطية فإنّها هزمت بالنسبة إلى الدكتور عزمي " مع تصدّر قوى دينيّة متطرّفة وقوى النظام القديم والعسكر المشهد السياسيّ (...) ولا حلّ لقضيّة الاستبداد إلاّ بالديمقراطية، ولا أقصد بذلك الانتخابات وحكم الغالبيّة فحسب، بل سيادة مبادئ الديمقراطية أيضًا، بما فيها الحرّيات المدنيّة المؤسّسة بشكل صلب على حقوق المواطنة. هذا مشروع المستقبل، ولا محيد عنه". وإذ يسأله محاوره إن كان عزوفه عن العمل السياسيّ حاليًّا يشمل المواقف السياسيّة أيضًا؟ ينفي ذلك مؤكدًا: "لا، بالطبع لا. فالمواقف هي واجب أخلاقيّ وليست مجال نشاط يمكن التخليّ عنه، وهي تدخل في نطاق القيم والتثقيف بها. لا يمكن التخلّي عن واجبي الأخلاقيّ في اتخاذ موقف ما. أي معنى للحياة من دون ذلك؟ المثقف من دون موقف لا يستحقّ هذه التسمية. لكن ليس هذا هو ما يهمّني. فلا يُفترض أن يكون الدافع هو التصرّف بوصفك مثقفًا، بل لأنّك تنشد العدل بالمعنى الواسع للكلمة، أي أنك تنفر من الظلم. والظلم بالنسبة إليّ هو انتهاك كرامة الناس وإذلالهم معنويًّا وجسديًّا، وسلبهم حرّيتهم وحقوقهم. وهو اللؤم الكامن في الاعتداء على الآخرين أيضًا أو التجنّي والافتئات عليهم وتهميشهم والإضرار بهم بسبب حسد أو خلاف في الرأي أو اختلاف في الهويّة أو غيره (...)".

من كتب عزمي بشارة  



خلاصة أولى

إنّ القيم التي يدين بها الدكتور عزمي بشارة والمتردّد ذكرها بإصرار في هذا الكتاب الحواريّ، هي الأصل والغاية في مساره النضاليّ والفكري متعدّد الوجه، وهذه القيم هي الخلاص لمجتمعاتنا العربية مثلما هي، ومثلما كانت على الدوام لسائر المجتمعات في العالم: المعايير الأخلاقيّة، الكرامة، الحرّية، سيادة مبادئ الديمقراطية، المواطنة، الواجب الأخلاقيّ للمثقّف، الموقف، رفض الظلم. وقد تبيّن لي وأنا مندفع في قراءة الكتاب أنّ الثورة ضدّ الظلم قد تكون أنبل القضايا وأسماها بالنسبة إلى الدكتور عزمي، فإذ أبلغ الصفحة 340 أقرأ هذا المقطع الإنسانيّ البديع من إجاباته إذ يقول: "إنّ مقارعة الظلم هويّة وجودية، لأنّ الظلم ينفي الوجود الإنسانيّ. وهي قضيّة كبرياء، لأنّ الظلم احتقار وإذلال للنفس والجسد. وفي رفض الظلم انتماء إلى الوطن والناس، وفيه غربة أيضًا، وفيه اغتراب عن الاستكانة (...)". يؤكّد لنا هذا الكلام أن رفض الظلم هو مبدأ أوّل في سلّم المبادئ الإنسانيّة والسياسيّة والنضاليّة التي يعتنقها الدكتور عزمي، وهو مبدأ فطريّ لديه (ضمن مركّبه الأخلاقيّ) يشكّل لديه دافعًا ومحرّكًا لكلّ شيء: فكره، غضبه، رفضيّته، نضاله. فحساسيته الشخصيّة الأقوى هي ضدّ الظلم الذي يجرّ مختلف أشكال القهر الأخرى من استبداد واضطهاد وعنف وتعصّب وانتهاك لكرامة الإنسان وحقوقه المعنوية والجسديّة. فالإنسان العربيّ مقهور لأنّه مظلوم، ومنتهكة كرامته لأنّه مظلوم، وملقى في غياهب السجون لأنّه مظلوم، ومستلب لأنّه مظلوم، ومسلوب الحرّية لأنّه مظلوم. الظلم، الظلم، أوحش الأفعال، من الحاكم للمحكوم، أو من جماعة لجماعة، أو من فرد لفرد، أو من سلطة لمواطن... وفي روح بشارة نار مشتعلة ضدّ الظلم، منبع كل الشرور. وينسحب ذلك على ما يفعله المحتلّ الصهيونيّ بالشعب الفلسطينيّ حتى الساعة، وما تفعله أيضًا النظم العربيّة بمواطنيها! 

الدكتور بشارة من ألمع شارحي جذور القضيّة الفلسطينيّة والاحتلال الإسرائيلي المحميّ والمدعوم من الغرب، شارحًا الأسباب التاريخيّة الموضوعية الثابتة إلى اليوم والتعقيدات الراهنة الناجمة عنها، ففي إجابته عن سؤال: لماذا أحرزت جميع ثورات التحرّر الوطنيّ استقلالها إلاّ الشعب الفلسطيني؟ يرى المفكر العربيّ في ما يراه (وقد عالجه بإسهاب في كتابه "أن تكون عربيًّا في أيّامنا") أنّ "هذه القضيّة العادلة التي ظلّت من دون حلّ تقع على تقاطع عقدتين شائكتين: المسألة اليهوديّة في العالم التي جعلت الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة تبدو كأنّها حركة قوميّة، وإسرائيل كأنّها تعويض عن ظلم آلاف السنين لليهود، علاوةً على أنّ العالم الغربيّ الاستعماريّ صدّر مشكلاته إلى منطقتنا، وتحديدًا المسألة اليهوديّة، بدلًا من أن يحلّها في بلاده. ولهذا صار موقف الغرب من الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين مختلفًا عن موقف الرأي العام العالميّ من الاستعمار في مرحلة ما بعد الاستعمار، فيما يرى الفلسطينيّون أنّ الصهيونيّة حركة استعماريّة استيطانيّة مثل الاستيطان الفرنسي في الجزائر. أمّا ما يراه الغرب، فالموضوع مختلف تمامًا لأنّه مثقل بأمرين: الأوّل، الثقافة الدينية اليهوديّة التي يتلقّاها أي طفل في الغرب، كجزء من الثقافة المسيحيّة، خصوصًا في الدول البروتستانتيّة، ولا يستطيع كثيرون أن يروا في الحركة الصهيونيّة حركة استعماريّة، بل عودة إلى أرض الميعاد. ولهذا السبب، يصبح هنالك نوع من التورّط العاطفيّ معهم. الثاني، أنّ الحركة الصهيونيّة تعتبر نفسها ناطقةً باسم المظلوميّة التاريخيّة لليهوديّة في العالم. وهذا الأمران هما أهم عناصر تشابك المسألة اليهوديّة بقضيّة فلسطين. وجرّاء ذلك، يصبح من الصعب التعامل مع المسألة اليهوديّة بصفتها مسألة استعمار يجب أن ينسحب من بلادنا إلى دولته الأمّ، ففي هذه الحال، لا توجد دولة لليهود. ولذلك، استسهل العالم، وبالتحديد العالم الغربيّ، رؤية قضيّة فلسطين على أنّها بدأت في عام 1967، وأنّ احتلال الضفّة وغزّة استعمار، والدولة الأمّ هي إسرائيل. أمّا بالنسبة إلى الشعب الفلسطينيّ، فإنّ فلسطين كلّها مستعمرة. لكن في مثل هذه الحال، لا توجد دولة أمّ ينسحب إليها المستعمرون. وهذا في ذاته موضوع معقّد يحتاج إلى تفكير من نوع آخر يعتمد في جوهره على حلّ ديمقراطيّ (...)".

من كتب عزمي بشارة المترجمة إلى لغات أخرى



كما يرى الدكتور عزمي أنّ ثمة عقدة ثانية تتشابك مع قضيّة فلسطين هي المسألة العربية (التي توسّع فيها أيضًا في كتاب آخر له تحت عنوان "في المسألة العربية") ويعتبر "أنّ هذه الإشكالية تتجسّد في عدم شرعية الدولة الوطنية، وظهور أيديولوجيات لها طابع فوق دولتي مثل الوحدة الإسلاميّة والوحدة العربيّة وغيرها تنفي الشرعيّة عن الدولة الوطنيّة أو القطريّة كما ساد وصفها. وهي أيديولوجيّات تنزع إلى التعامل مع قضيّة فلسطين كرمز إلى البعد الوجوديّ، عربيًّا أكان هذا البعد أم إسلاميًّا. وكان هذا الشأن يتضمّن بعدًا أداتيًّا في التعامل مع قضيّة فلسطين. بينما لجأت أجهزة الدول الوطنية أو القِطْريّة إلى اختراع هويّات لها تضرب جذورها في رحم التاريخ الأوّل للإنسان، وهذا ليس موضوعنا هنا. الأمر الآخر هو التفتّت العربي الذي عوّق تأسيس دولٍ ديمقراطيّة تبادر إلى شكل من أشكال الاتحاد في ما بينها، كما كنّا نحلم، كالحالة الأوروبية مثلًا، بل إن التشظّي العربي أطلق خلافات حادّة وتنافسًا صراعيًّا، خصوصًا بين الدول الأقرب إلى بعضها من الناحية الأيديولوجية. وفي هذه الصراعات العربيّة – العربيّة، كانت قضيّة فلسطين موضوعًا رئيسًا على مائدة النقاش، لا تلبث أن تُستخدم أداة سياسيّة. وهذا أثّر كثيرًا في حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ، وفي وحدتها وبرامجها السياسية، وأثّر في الصراع العربيّ – الإسرائيلي أيضًا. وتلي هذين العاملين سلسلة طويلة من الأسباب والأوضاع التي تجعل إسرائيل وتحالفاتها العالميّة متفوّقة على الأنظمة العربيّة ومنظمّة التحرير، بما في ذلك عملية بناء الدولة (...)".


خلاصة ثانية

يضيء الدكتور عزمي بشارة بعقل فذّ على الفرق بين الاستعمار والاستيطان، خاصةً في المعيار الغربيّ الذي لا يرى الاستيطان اليهوديّ في فلسطين استعمارًا، في مرحلة ما بعد الاستعمار، فيما يعتبره الفلسطينيّون حركة استعماريّة استيطانيّة مثلما حصل في الجزائر. هذا الفرق في التحديد والتعريف يزيد الصراع تعقيدًا، أو بالأحرى هو أحد تعقيداته وإشكاليّاته الكثيرة والمتداخلة.

ويشير بحصافة إلى أنّ الغرب متورّط مع الحركة الصهيونيّة ومع الشعب اليهوديّ "عاطفيًّا" بحسب تعبيره، كما يربّي هذا الغرب ( البروتستانتيّ) الأطفال والأجيال على الثقافة اليهوديّة بكونها جزءًا من العقيدة المسيحيّة لدى هذه الفئة و "عودة إلى أرض الميعاد"، ملمحًا هنا إلى النقاط المشتركة بين الدوغما المسيحيّة البروتستانتيّة التي لا تفصل بين العهدين القديم والجديد وتتقاسم مع الدوغما اليهوديّة مسألة "المجيء الثاني" للمسيح بعد اجتماع سائر اليهود في أورشليم (القدس)، إلى ما هنالك من أسطرة عقائدية وضعها مخيال بشريّ، ولها، ويا للأسف، أتباعها ومصدّقوها!

يرى بشارة أنّ ثمة عقدة ثانية تتشابك مع قضيّة فلسطين هي المسألة العربية (التي توسّع فيها أيضًا في كتاب آخر له تحت عنوان "في المسألة العربية")  



ويلفتنا الدكتور عزمي إلى أنّ لا أمّة يهوديّة يعود اليهود، محتلّو فلسطين ومستوطنوها وإحلاليّوها إليها، وهذا صحيح ولا يسع أحدًا أن يخالفه. وفي الوقت عينه يؤكد أن عددًا كبيرًا من يهود العالم ما برحوا حيث هم ولم يماشوا المشروع الصهيونيّ الإحلاليّ الاستيطانيّ والعنصريّ، ففي الولايات المتحدة وحدها مئات ألوف اليهود المنخرطين انخراطًا تامًا في المجتمع الأميركيّ فضلًا عن السيطرة التي أشرتُ إليها، ولا يعنيهم كثيرًا مشروع الدولة اليهودية القوميّة على أرض فلسطين، وغير واردة لهم الهجرة إليها أو الالتحاق بالمشروع الصهيونيّ الذي انتقده فرويد بشدّة (أيضًا يمكن مراجعة مقالتي في "ضفّة ثالثة" عن فرويد والمشروع الصهيونيّ).

خطأٌ فادحٌ ارتكبه الفلسطينيون وما فتئوا يرتكبونه، هو تردادهم المستمرّ لتاريخ 1967، وكأنهم يسلّمون بأحقيّة الوجود اليهوديّ الصهيونيّ على باقي أرض فلسطين! وبأنّ قضيّة الاحتلال محصورة فقط بأراضي 67! ولكن ماذا عن باقي الأرض الفلسطينيّة التاريخيّة؟ هل تعطى حيفا ويافا وعكا والجليل والنقب والمسمّاة "تل أبيب" (وهي تمدّد عمرانيّ لمدينة يافا الفلسطينية التاريخية) والقرى والبساتين والحقول؟ هل يتنازل الفلسطينيون عن حقِّهم في كل أرض فلسطين ويقعون طوعًا في فخّ ما يسمّى بـ"حدود 67"؟

في ما يخصّ المسألة العربيّة فحدّث يا دكتور عزمي ولا حرج. الوضع هو إيّاه مذ وضعتَ مؤلّفاتك المتعدّدة حول المسألة العربيّة، وهو حتى الساعة لم يتزحزح ملليمترًا واحدًا، إن لم نقل إنّه يزداد سوءًا وانحطاطًا وخيانةً وتخلّيًا عن قضيّة فلسطين. ولا حرف يُضاف إلى ما وصفته هنا في الحوار مع الأستاذ صقر، أو إلى كتبك الوافية حول الشأن العربيّ ومن بينها "المسألة العربية"... ولا أزيد.

يضطرّني ضيق المجال هنا إلى القفز فوق محاور عديدة في هذا الحوار الشامل والشائق، والذي يتناول قضايا إشكالية كبرى، كحزب الله وحماس والإسلاميين الجدد والقضية السورية نظامًا ومعارضةً، فضلًا عن شخصيات نضاليّة وقياديّة كبيرة أمثال ياسر عرفات وجورج حبش... إلخ، لأتوقّف عند مسألة أو محور الديمقراطية والإسلام السياسي، علمًا بأنّ الديمقراطية تشكّل للدكتور عزمي هاجسًا من هواجسه الكبرى، خاصة حين يناقش علاقتها بالدين، وممّا ورد في إجاباته ضمن هذا المحور: "مشكلة الناس مع الإسلاميين لا تكمن في تميّزهم في رفض الديمقراطية. فكثير من التيارات الأخرى يرفض الديمقراطية في النظرية أو في الممارسة. المشكلة تكمن في محاولتهم فرض نمط حياة على الناس، وفي رفضهم بعض مكتسبات الحداثة. وهذا لا يعني أن ليس عليهم تحديد موقفهم من الديمقراطية إذا أرادوا المساهمة في النضال ضدّ الاستبداد. لا التيّار الإسلاميّ ولا أي تيار آخر هو بديل من الاستبداد. الديمقراطية هي وحدها البديل، والديمقراطية تتيح لأيٍّ من هذه التيارات أن يحكم إذا احترم أسسها (...) ومن حيث المبدأ لا علاقة للدين بمسألة الديمقراطية، لا سلبًا ولا إيجابًا. ولذلك ليس من الصحيح أن نقول إنّ الإسلام ضدّ الديمقراطية. وليس صحيحًا القول إنّ الإسلام مع الديمقراطية (...) أمّا الإسلاميّون، فلا أرى أنّهم يتميّزون عن الحركات الأيديولوجية الاعتقادية الأخرى في رفض الديمقراطية أو الموافقة عليها. الإسلاميون مثل الماركسيين أو اليساريين في منطقتنا، ومثل القوميين إلى حدّ بعيد، لم يؤمنوا بالديمقراطية في الجوهر، واعتبروها نظام كفر، أو أفكارًا مستوردة، واعتبرها الآخرون بضاعة غربيّة أو أنّها نظام سياسيّ للبرجوازية، أو طريقة حكم الطبقات الطفيلية على حساب الشعب (...) الحكم باسم الشعب من دون ديمقراطية إجرائيّة واضحة وموازنة بين السلطات ومن دون رقابة متبادلة بينها، ومن دون احترام الحريات، قد يؤدي إلى الدكتاتورية، أو حتى إلى نظام حكم فاشيّ (...)"، ويوافق الدكتور عزمي محاوِرَهُ على أنّ الديمقراطية هي خيار في نهاية المطاف "فإذا لم تتفق التيارات الرئيسة، الاجتماعية والسياسيّة، في أي مجتمع، وتقبل اللعبة الديمقراطية، لا يمكن تحقيق الحكم الديمقراطيّ. والدستور لا يُفرض على الناس، بل يجب أن يقتنع الناس به. وها هي بريطانيا تُحكم ديمقراطيًّا من دون دستور، لأنّ الدستور في القلوب والضمائر، وهذه العبارة مجرّد استعارة، فما أعنيه هو الثقافة السائدة التي تحوّلت فيها مبادئ الديمقراطية الأساسية أعرافًا اجتماعيّة مفروغًا منها كأساس لانتظام الهيئة الاجتماعية. وحتى لو صيغ أفضل دستور ديمقراطيّ في العالم، فلا يمكن تطبيقه إذا لم توجد ثقافة سياسيّة ديمقراطية، ومساندة نخبويّة له، وسوف يُحذف بسهولة ويتحوّل خرقه إلى عادة. وإذا لم تحسم النخب التي تقود الحركات السياسيّة في العالم العربي موقفها من موضوع الديمقراطية فلن تكون هنالك ديمقراطية. وبطبيعة الحال موقفي هنا واضح وهو انحيازي الكامل للخيار الديمقراطي، لأنّ الكلفة الإنسانية والأخلاقية لغياب الديمقراطية في بلدان يمكن أن تحقّق نموًّا اقتصاديًّا وإنجازات أخرى تبقى مرتفعة، وتبقى هذه الإنجازات عرضة للتفكّك والانهيار إذا لم تترافق مع تحوّل ديمقراطيّ".

خلاصة ثالثةّ

تكاد خلاصتي هذه تكون نسخة طبق الأصل عمّا ورد أعلاه بسبب وضوح رأي الدكتور عزمي ودقّته في تحديد معنى الديمقراطية التي تحتاج إليها دولنا العربيّة بعامّةٍ، ويرفضها الإسلاميون على نحو بدهيّ؛ أسوة – وهنا الجديد والمفارق الذي يأتينا به – باليسار العربيّ! وإذْ أؤيد مفكّرنا العربيّ الكبير تأييدًا تامًا في كل ما ذهب إليه في هذا الجانب (وما نشرته هنا جزء بسيط من الجواب المستفيض)، فإنّي أضع خطين تحت تنبيه الدكتور عزمي، المنحاز انحيازًا كاملًا لخيار الديمقراطية (والقول له)، إلا أنّ غياب الديمقراطية في الدول العربيّة يرتّب كلفة إنسانيّة وأخلاقيّة... فضلًا عن الثمن السياسيّ أيضًا المتّصل بالصراع مع إسرائيل لناحية توحيد الموقف العربيّ من قضيّة فلسطين والنضال المشترك، مع إشارته إلى أنّ فقدان الديمقراطيّة يعوّق النموّ الاقتصاديّ والإنجازات التي يمكن أن تحقّقها دول غنيّة بثروات الطاقة وسواها، وكلّ شيء معرّض للانهيار من دون تحوّل ديمقراطيّ.

أنتقل إلى الفصل الأخير الوجدانيّ الطابع والمؤثّر تحت عنوان "العودة إلى ترشيحا" البلدة الجميلة الغنّاء أعلى الجليل الخصيب، مسقط رأس والد الدكتور عزمي بشارة الذي يقول بحسرة وأسى: "(...) سأعود إلى الكتابة والإقامة في مكان محدّد في الجليل. وكنت أحلم في الأعوام الأخيرة قبل مغادرتي فلسطين أن أتقاعد في بلدة والدي، وأن أبني فيها بيتًا وأعيش فيه بهدوء، لأنّني أصبحت أحبّ الريف، وما عدت أطيق جوّ المدن الخانق. أحبّ الريف وأحبّ أن أسكن فيه. وهذا لم يتحقّق مع الأسف. كانت إحدى خططي أن أترك العمل البرلماني، وأتفرّغ للإنتاج الفكري، مع أنّني، حتى في أثناء العمل البرلماني، كتبت عددًا من الكتب، لكن ما رغبت فيه قبل خروجي إلى الوطن العربيّ أن أتفرّغ للبحث في ترشيحا التي هي جزء من تكويني (...) كنّا نمضي الصيف فيها في مرحلة الطفولة، فترشيحا مرتبطة لديّ بالطفولة والصيف. أمضيت مواسم الصيف وطفولتي كلّها في ترشيحا وفي قرية أخرى هي الرامة، وصرفت الصيف وراء الصيف مع أقاربي في الجبال والسهول والهضاب، وأكاد أعرف كلّ نبتة وكل حجر في تلك البقاع (...) أريد العودة إلى الجليل الأعلى المتاخم لحدود لبنان، أي إلى الجبل وقريبًا من البحر، تلك هي المنطقة التي أحبّ أن أتقاعد فيها".

إنّه غيضٌ نزير من فيض غزير ما اصطفيته من مقاطع في هذا الكتاب الحواريّ الدافق (يدعوه الفرنسيّون Entretien fleuve) الذي يستحيل اختزال مضامينه الثرّة في مقالة محدودة المساحة. كانت غايتي من هذه الإضاءة التذكير بمرجع قيّم حاول الأستاذ صقر أبو فخر أن يجعله نوعًا من التكثيف المحوريّ والخلاصة الفكريّة والذاتيّة للدكتور عزمي بشارة، فضلًا عن مسيرته النضاليّة الطويلة في النضال السياسيّ والفكريّ معًا. ويسعني القول، مرتاح الضمير ومن دون أدنى مبالغة، إنّ الدكتور عزمي "نجم" في الفكر العربيّ، سجالًا ونضالًا وتأليفًا وتأسيسًا لمنصّات إصدار وبثّ ونشر (أي ما يقوم به ويديره اليوم في قطر). هذا المفكّر والمثقّف الكبير، المجادل والمتحدّي، يغني عالمنا العربيّ بعقله التنويريّ الثائر.

يقول ماثيو أرنولد "إنّ الثقافة هي أفضل ما قيل وما جال في الفكر"، وهي الثقافة الهائلة ينطق بها فكر الدكتور عزمي على نحو عضويّ متلازم. تفتننا لديه "صورة المثقف" (لو استعرنا أحد عناوين الدكتور إدوار سعيد، التوأم الفكري الآخر للدكتور عزمي ورفيق النضال الفكري والثقافي المقاوم). الثقافة والفكر مترادفان ومترافدان، وهما ركيزة العمارة الفكريّة المتفرّدة التي يبنيها صاحبها، كما أنّها في الحالة الفلسطينيّة من الأشكال المتعدّدة للفعل المقاوم.

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.      

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.