}

الرواية العراقية بعد 2003: بدايات حماسية ونتائج عكسية

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 15 ديسمبر 2022
آراء الرواية العراقية بعد 2003: بدايات حماسية ونتائج عكسية
تشريد ذاكرة المستقبل، هناء مال الله (العراق، 2009)



أشهر نظريات الموت الأدبي هي موت المؤلف لرولان بارت، حين رأى أن ولادة القارئ تعني موت المؤلف ما بعد البنيوية، في الضد من البنيوية التي لا ترى ضرورة عنصر آخر يشارك في تأسيس النص. ونعتقد بالصحة الجزئية لهذه النظرية التي نظّر لها بارت كثيرًا من دون تحديد هوية القارئ. وحتى الاعتراضات التي واجهتها هذه النظرية التي (تُميت) المؤلف، سنتعامل معها بواقعية الاحتضار الذي يسبق موت المؤلف، وليس الموت الجزئي - المؤقت له، باعتبار أن المؤلف سـ (ينهض) من موته في عمل أدبي آخر ثم (يموت) فيولد قارئ جديد ما بعد البنيوية. لذا فنظرتنا واقعية في تشخيص المواجهات مع السرديات العراقية التي استفاقت بشكل صاروخي في ظروف سياسية واجتماعية جديدة (ما بعد 2003) ثم تلكّأت وخفت وهجها، من دون أن تلفت أنظار القراءة والنقد، وهما العاملان الحاسمان في تحديد الهوية الإبداعية للمؤلف.

قد نصل إلى مستوى يستوجب فيه القول بأن الكثير من الأصوات والمحاولات السردية الجديدة، لو وُضعت سونارات التقييم النقدي الصارم، ستنتج فضيحة من العيار الثقيل. وهذه افتراضات واقعية صريحة، لكن قبل هذا ننظر إلى وسائل وسبل انتشارها الكمّي الذي بصم المشهد الثقافي العراقي لفترة ستصل إلى العقدين من الزمان، قبل أن تنطفئ هذه الشرارة الغريبة، بما يجعلنا أن نستقصي البدايات التي أنتجتها ردود الفعل المبالغ فيها، تلك التي تجاوزت الفن الإبداعي؛ حتى التقليدي منه؛ وكوّنت ظاهرة لافتة، لكن من دون تأثير جمالي وواقع فني محسوب، سوى من الكم المتراكم الذي قلّ في آخر المطاف، بعدما وجد الكثيرون من كتبة الرواية أن الفن والجمال ليسا بطريقة "الفزعة" العشائرية ولا بالزغاريد السردية التي ملأت حي الرواية بالفوضى والضجيج الطفولي. فالعراق الثقافي جدير بأن نحترمه وننبه إلى مساراته الإبداعية شعرًا ونثرًا. لكن ما حصل بعد 2003 هو الذي نشير إليه بوضوح ومن دون مواربة في ما يخص الأغلبية من سردياته الضعيفة، كإنتاج غزير برد فعل سياسي لتغيير كبير في المجتمع العراقي، مثلما هو موازاة لشيوع المدّ الروائي العربي والعالمي الذي نادى بالرواية، بوصفها صوت العصر الذي يجسد المشكلات ويحتوي- فنيًا- المتغيرات الرئيسية والهامشية في المجتمعات لا سيما العربية منها، التي بدأت - وقتها- تستعد لربيعها في التظاهرات والانقلابات الميدانية، وما حملته من رماد شعارات فضفاضة، من دون أن تنتبه إلى جمر المخططات الخارجية التي أدخلتنا في صراعات دينية ومذهبية وطائفية مكشوفة.

قد نمتلك بعض الأسباب الواقعية لاحتضار المدّ السردي العراقي، دون غيره من السرديات العربية، فشمولية المعنى شائكة ومعقدة. وسرديات ما بعد 2003 العراقية كثيرة جدًا. وهي الأقرب إلينا في إيراد ما يتوجب إيراده في الاحتضار السريع لها، كما بدأت في فورة جماعية وردة فعل فوضوية؛ لكن لا نغمط حقوق مبدعين آخرين؛ وهم قلة؛ في التواصل والكتابة والإبداع على قلتها.
وبياننا هذا واضح عبر هذه النقاط:

  • في السنوات الماضية نشط السرد العراقي بشكل لافت، حتى أصبحت الرواية (موضة) كتابية وحاضنة للشعراء والباحثين والأكاديميين والمسرحيين والفنانين، وتعدّى ذلك حتّى إلى ربات البيوت والعاطلين عن العمل وطلبة الجامعات وموظفي البنوك وشيوخ العشائر، بحيث أصبح الإنتاج الروائي يُعد بالآلاف في سنوات قليلة جدًا. وقد رصد أحد النقاد أكثر من 2000 رواية عراقية ابتداءً من 2003 وحتى 2010، وهذا الرقم الصعب لو صحّ فعلًا، يعني فيما يعنيه أول الأمر أنّ (إسهالًا سرديًا) أثار التنبيه والانتباه إليه  في موجةٍ صاخبة، لكن اتضح لاحقًا بأنه (استسهال سردي) شارك فيه طيفٌ واسع من الأدباء والمحسوبين عليهم ومن حاملي الهويات المزورة ليزيدوا الهوّة بين القرّاء، ويبصموا على بعض الخراب الأدبي بطريقة غير صحيحة، ليس فيها وعيٌ لحاضر أو رؤية لمستقبل، وبات من الصعب مواجهة ذلك السيل العارم من السرديات الروائية التي اكتسحت السوق العراقية بطريقة نادرة وغريبة أيضًا. ولا شك بأنها حملت تواقيع أصحابها بأسماء القبائل والعشائر التي ينتمون إليها، كمباريات قبلية ومناطقية وعشائرية على حساب الفن وجمالياته..!
  • ومن الطبيعي أن يتأخر النقد عن مواكبة تلك (الفزعة) العشائرية المريبة، بل لم يحفل بها في الأساس، سوى من الدراسات الأكاديمية التي تتطلب من طلبة الماجستير والدكتوراه النبش في ذلك الكم التعيس للحصول على الشهادات الجامعية، أما النقد المنهجي فقد ابتعد عن تلك الملابسات، ولم يلتفت إلى الكم المهول من السرديات. وكنّا وقتها نقول بموت النقد؛ تماشيًا مع المصطلح البارتي؛ بغياب أسماء لامعة لها أدوارها في تأصيل الإبداعات على المستويات كلها، وحقيقة الأمر ليست كذلك كليًا، بل إن الرداءة السردية جعلت منه يتعالى ويقف على تلك الحافات المتدفقة ليل نهار؛ من تلك التي تقذف بها دور النشر العراقية والعربية مدفوعة الأثمان. وما قرأناه ونقرأه من متابعات (تسمى نقدية) هو امتصاص وملاحقات ثقافية ساذجة وبسيطة لملء فراغات الصفحات الثقافية. ولا تعني إلا من له علاقة بما كتبه وطبعه هنا وهناك. وهذا أمر علينا أن ننتبه له، ونعيد الاعتبار للنقد العراقي الرائد الذي كانت له منهجياته النقدية في مواجهة النصوص الأدبية، بدلًا من أن نقول بموته طيلة عشرين سنة مضت، وهو زمن طويل جدًا بحسابات التطور الإبداعي، الذي ننظر اليه بزمنية ملاحقته لفتح أبواب الحوار النقدي بينه وبين الإنتاجات الإبداعية.

في السنوات الماضية نشط السرد العراقي بشكل لافت، حتى أصبحت الرواية (موضة) كتابية وحاضنة للشعراء والباحثين والأكاديميين والمسرحيين والفنانين

  • بشّرنا بوقتٍ مبكّر لهذا الهجوم السردي، ولم ندرك فوضويته إلا بعد حين؛ من أن حالة ما بعد 2003 هي حالة انفتاح أدبي وثقافي مشروع. وللجميع حق ممارسة الكتابة، وبما أن الساحة الثقافية (بوجود المطابع التجارية) كانت شبه فارغة من الأصوات الجديدة (بعضها يدّعي بأنه كان مهمشًا قبل 2003) وكنا بانتظار انتقال الهامش إلى المركز، ليرفد المتن الأدبي بإنجازات محتملة، وهذه حالة موضوعية أن تتتالى الأجيال وتمنح مشروعيتها الأدبية لغيرها، ليس بطريقة (تسليم الراية) المعتادة في القبيلة والعشيرة، بل بطريقة العطاء الإبداعي، في إنشاء حاضنة جيل جديد تستوفي شروطها الأدبية وتحدد مساراتها، غير أن هذا أيضًا كان وهمًا أدبيًا قبلنا به بادئ الأمر وانعكست صورة مغايرة للواقع السردي العراقي، بما يشير إلى أن السذاجة والتسرع والموضوعات المتشابهة، هي المهيمنات الجوهرية في مجمل الكتابات. وبهذا الخصوص نشير إشارة لا لبس فيها إلى أن دور النشر العراقية هي دكاكين تجارية صغيرة في العراق. ناشئة إلى حد كبير، لكنها وجدت مقاصدها بعد التغيير السياسي، لا سيما والموجة الروائية بدأت طلائعها، على أساس إخراج الهامشي- المكبوت وتقديمه كعزاء لسنوات مظلمة، وهذه الدور مجتمعة، ولا يمكن استثناء أية دار منها برأيي، ساهمت بالفساد الأدبي وإشاعة السذاجة الروائية بين الشباب على وجه التحديد. وطبّلت للكثيرين بلا مسؤولية أدبية وأخلاقية. خاصة تلك التي تطبع بالريزو، حيث تتحدد الكمية المراد طبعها، حتى لو كانت عشر نسخ فقط. وهذا حصل ويحصل حتى اليوم، ومثل هذه الظاهرة لا تزال قائمة وتقدم الأسوأ على السيء.
  • هذا لا يعني أن الدور التي تطبع بالأوفسيت داخل وخارج العراق هي الأذكى، بل هذه هي الأسوأ من بينها، عندما تفرض مبالغ طائلة على السيدات الثريات وشيوخ العشائر وهواة الخرط السردي، ممن جيوبهم ممتلئة بالمال. هذه الدور الصغيرة أشاعت أيضًا استسهال الكتابة، لكن هذا أدى إلى حيلة (التحرير) وهذه الحيلة مضت إلى شوطها الأخير في الطبع والنشر والتوزيع. فالكاتبة الفلانية أو ذاك الفلاني يوزع المال من دون وجع قلب، بانتظار أن (يحررها) المحرر السري. وحقيقة الأمر هي (كتابة) مدفوعة الثمن بالدولار. مما يعني أنّ تمرير مثل هذه الروايات التي لم يكتبها المؤلف/ المؤلفة مرّت بـ "تزوير" تحت غطاء "التحرير" وهذا فساد من نوع آخر أدى إلى تردي الحالة السردية ووقوعها في أخطاء جسيمة، على الجميع أن يحصدوا مرارتها والاعتراف بفداحة الخسائر التي أنتجتها مثل تلك الحيلة الغبية، بتحريفها الصورة الروائية إلى دولارات سوداء. وهذا ينطبق على فكرة تشجيع الشباب، ليكون فقرة فساد أخرى اضطلعت بها دور النشر، وتحت هذه العلامة المرئية استنزفت من كان عطاؤه الأدبي أقل من الضعيف والضعيف والمتوسط. ففتحت لهم مواقع إلكترونية ومجموعات مناصرة تهتف ليل نهار لهذا الشاب أو تلك الشابة. فكان مثل هؤلاء صيدًا فنيًا سهلًا، وأكذوبة روّجت لها دور النشر من أجل الكسب المادي. ومن المؤكد أن الكثيرين يعرفون هذه الحقيقة المُرّة. مثلما عمدت دور النشر على ترويج فكرة حفلات التوقيع. وهي الفكرة الغالبة التي تترتب بالاتفاق مع بعض المقاهي الشعبية والثقافية، أو مناسبات معارض الكتاب نصف السنوية، واستدعاء المغفلين الباحثين عن صور السيلفي للذهاب إلى المواقع الإلكترونية وترويج هذه البضاعات لتكون إحدى علامات التراجع الثقافي والسردي التي لا يمكن حجبها وغض الأنظار عنها.
  • بعض الجوائز العربية ساهمت بإفساد جيل جديد من الكتّاب، بعضهم كنا نتوخى فيه بعضًا من الأمل. لكن انجراره وراء الشهرة السريعة وكسب المال أفسد عليه الطريق للوصول إلى شرف الكلمة، والأدلة وفيرة وواضحة على مشاركة أهل السرد من العراق، ونسبهم العالية في التقديم إلى هذه الجوائز. مع أن مثل هذه الأنشطة تتوخى تقديم الرواية العربية بشكل حضاري من دون أفضلية جيل على جيل. ومعنا أرشيف ثقافي للأسماء التي تمكنت من حصد بعض الجوائز الرئيسية والهامشية، لكن من دون أن تكون لهم بمثابة دافع يؤاخي فكرة الجائزة ومشروعها الجمالي. بل بقي الهامش على الهامش إلى حد كبير. ولنا في الأسماء الحائزة على جوائز كبيرة وصغيرة شواهد على مصادفات الفوز، أو (التحرير) سيء الصيت المُمارَس من قبل البعض لتضليل القارئ.
  • قد يكون هذا موجزًا عامًا لنكوص الرواية العراقية الجديدة في طريقتها التي حاولت أن تقدم بها ذاتها الفنية، لكن من دون فن. وأصبحت موضوعاتها متشابهة ومملة، لنقول بأنها خضعت إلى حماسة وفورة جاءت بها الظروف السياسية، وليس التراكم الأدبي والجيلي الذي يُنتج أدبًا رفيع المستوى.

فهل هو موت الرواية أم موت المؤلف؟

يقينًا أن الرواية لا تموت فهي جنس أدبي يتجدّد في العصور كلها.

 

هوامش:

- رولان بارت (1915- 1980): ناقد أدبي فرنسي. لديه العديد من المؤلفات في المجالات الفكرية والمعرفية والعلمية، وفي مقالته "موت المؤلف" يوضح بأن الكتابة والمؤلف غير مرتبطين. وهذه المقالة نشرت في اللغة الإنكليزية للمرة الأولى في المجلة الأميركية (أسبين) عام 1967.

- نجم عبد الله كاظم (1951-2020): أستاذ النقد والأدب المقارن والحديث في كلية الآداب بجامعة بغداد. وهو باحث أرشيفي أيضًا. له يُنسب إحصاء عدد المؤلفات الروائية بعد 2003 وقد تحدثت معه أكثر من مرة حول هذا الموضوع. ونشرتُ مثل هذا الإحصاء أكثر من مرة، ونسبته إليه.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.