}

اليوم العالمي للغة العربية: اللغة نافذة ثقافية على الإنسان

بوعلام رمضاني 24 ديسمبر 2022
آراء اليوم العالمي للغة العربية: اللغة نافذة ثقافية على الإنسان
(منير الشعراني)

ليس من السهل، في تقديري المتواضع، الدفاع عن اللغة العربية في سياق الاحتفال بيومها العالمي، والسبب لا يكمن في حجج أعدائها الأيديولوجيين التاريخيين من غير أبناء ملتها، لأن خطرهم واضح ومؤسس فكريًا وتاريخيًا في حلة استشراقية قديمة وجديدة طغت على عدم عنصرية قلة قليلة من ممثليها. إن عدوها التاريخي يزداد ضراوة، وبلغ بقمة بلاهته ووقاحته درجة عبثية غير مسبوقة، عندما أصبح يقرنها بالإرهاب في زمن إريك زمور، المهرج الأيديولوجي الذي اعترف بأن اللغة العربية ثرية وجميلة، لكنها "لغة الإسلاميين الإرهابيين"، على حد تعبيره، وهو يواجه تلفزيونيًا جاك لانغ، صاحب كتاب "اللغة العربية: كنز فرنسي". هذا الأخير الذي اشتهر وزيرًا تاريخيًا للثقافة والتربية، انتقد وزراء تربية وضعوا حدًا لدعوته بتدريس اللغة العربية في المؤسسة التعليمية الفرنسية، تردد في تحميل من سبقوه على رأس معهد العالم العربي مسؤولية التأخر في تعليم اللغة العربية على حد تعبيري في سؤال وجهته له في ندوة صحافية حضرها أربعة زملاء مثله، ولم يحضرها صحافي فرنسي واحد أشقر الوجه وقح كما يريده إريك زمور. يومها أعجب لانغ بسؤالي، واعترف بتأثير جمعيات إسلامية تنشر التطرف الديني حتمًا، وفي كل الحالات مختفية تحت رداء اللغة العربية ليس فقط في نظر إريك زمور، بل في تقدير معظم المثقفين يسارًا ويمينًا ووسطًا. هؤلاء الذين اتفقوا على تمجيد لغات الأقوى سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا (وهم محقون نظريًا وعمليًا خدمة لتوجهاتهم الشعبوية باسم عالمية مزيفة)، لا يقومون بذلك في ظل احترام وتعلم لغة مليارات من البشر غير الأوروبي، كما تعلموا لغات أجنبية أخرى، واستمروا في الترهيب من لغة القرآن الكريم (علمًا أنها لغة الملايين من غير المسلمين) في تكريس ثقافتهم ولغاتهم قبل وبعد الشروع في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية من منظورهم الغارق في نزعة فكرية وأدبية وسياسية يدعي أصحابها منافسة بعضهم البعض أيديولوجيًا في القضايا والتحديات الوطنية الداخلية، في الوقت الذي نعرف فيه أن الترهيب من معتنقي الإسلام ومتحدثي اللغة العربية (مثل أصحاب دين من يهتفون بالله أكبر) قد أصبح سجلهم التجاري في مزادات سياسية رخيصة أطاحت بهيبة ورمزية استحقاقات سياسية كنا نعتقد أنها لا تقبل الطعن والتشكيك. فرنسا التي أعيش فيها مترصدًا مواقف هؤلاء كما يعرف القراء في وطني وفي غيره من الأوطان التي يقرأ فيها المواطن... تعج الساحة الثقافية بمواقف الذين ركبهم الجنون تحت وطأة حقد دفين للغة العربية، التي أصبحت فرصة قدح وتشويه وتجريح وتحذير عند إريك زمور، وميشال ولبيك، ومثقفين من ممثلي معظم التوجهات السياسية والفكرية والأدبية. هؤلاء غير معنيين بتداعيات خطابهم الشعبوي والديماغوجي على التواصل الإنساني الذي يتشدقون به ليل نهار في الوقت الذي يبنون فيها أسوارًا غير إنسانية لقطع التواصل مع متحدثي لغة لم يثبت يومًا ما أنها وظفت للترهيب من أغلبية عربية وغير عربية. هؤلاء الذين ما زالوا يظفرون بانتخابات رئاسية في أوروبا اللوبيات الواحدة والمشتركة، لا يعنيهم الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية بعد أن فازوا سياسيًا على قوى سابقة يسارية ويمينية لم تكن أفضل منهم في تعاطيها مع لغة تعلمها الآلاف من مواطني غير أوروبا المصرة على حماية هويتها لتبقى صافية حضاريًا ولغويًا وعرقيًا، كما يريد صمويل هنتنغتون في زمن الإرهاب الإسلامي فقط كما يرددون على مسامعنا على مدار الأعوام والفصول وفي كل الأحوال. الخلط الإستراتيجي الممنهج عالميًا بين اللغة العربية والإسلام ـ بشكل كشف عن خلفيات تعد امتدادًا لاستشراق استعماري أخذ وجودًا فكريًا أخطر في زمن تواصل اجتماعي غير مسبوق ـ لا يقلق كاتب هذه السطور ما دامت هذه الاستراتيجية نابعة من وجدان حضاري مرادف للتعصب وللاستعلاء العنصري، كما يثبته تصاعد الروح الدينية اليهودية في مجتمع إسرائيلي يدعي قادته الديمقراطية.





وهذه الروح هي نفسها الروح المتزمتة لغويًا وحضاريًا وثقافيًا في مجتمعات أوروبية أصبحت فيها العالمية مجرد استهلاك سياسي مناسباتي يتنافى مع أبسط شروطها، وعلى رأسها التعامل مع قوى أصبحت غير محسوبة جغرافيًا وتاريخيًا على عالم غربي رأسمالي يدعي الانفتاح في زمن غلق أبوابه على أصحاب لسان عربي في خلط جهنمي متعمد ومدروس، ويحدث أن يستثني منهم من يحمل اسمًا غير عربي رغم أنه عربي، ولي ما يكفي من الأدلة أنا المقيم في فرنسا سيدة التصفية الأيديولوجية واللغوية والعرقية في ظل علمانية منحرفة وتسلطية، كما يعتقد إدغار موران، وريجيس دوبريه، وآخرون كثر، وليس أنا فقط. قلقي المرضي اليوم، في سياق الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، ناتج عن توجهات ومواقف كثير من أبناء جلدتي من المعسكرين المتصارعين بالشكل الذي تحدثت به عن أعداء اللغة العربية عالميًا وأوربيًا بوجه عام، وفرنسيًا بوجه خاص. وإذا كان العداء الذي تعرفه اللغة العربية في أصقاع غير أهلها غير غريب، ولا يؤلم حتمًا إذا عرفنا الأسباب التاريخية والأيديولوجية التي تفسره كما مر معنا، فإن صراع الإخوة الأعداء داخل حدود الوطن الواحد في البلدان المعروفة التي تعرضت للاستعمار الفرنسي يعد أغرب ويبعث فعلًا على الحزن والأسى لما أخذه من طابع اختلطت من خلاله المصالح السياسية والإجتماعية الشخصية والتوجهات الأيديولوجية المختلفة والنعرات الجهوية والتعصب العرقي والديني والعقد النفسية والبهتان والهذيان والتشويه. هذا الصراع، وكما هو معروف، يعني بلدان المنطقة المغاربية بوجه عام، والجزائر بوجه خاص، والتي تعد البلد الوحيد الذي بلغت فيه الانقسامية الثقافية الناتجة عن الصراع بين المفرنسين والمعربين درجة من الحدة تركت المحلل الاجتماعي ناصر جابي يقف عندها بشكل لافت في حديث أدلى به قبل ثلاثة أعوام لكاتب هذه السطور. هذه الانقسامية التي تفسرها التركة الاستعمارية كتفسير أيديولوجي وتاريخي حتمي ليست لغوية محضة كما يظن بعضهم في الحالة الجزائرية، وتحولت مع مرور الأعوام إلى صراع أيديولوجي غير سوي حينما تحول إلى مصدر توجس وأحقاد بين قوى يسارية علمانية ووطنية وقومية ودينية إلى درجة حولت اللغة العربية إلى ضحية لا تستحق أن يتاجر بها على الصعيد السياسي والثقافي في أعلى وأخفض المستويات. الانعزالية الاجتماعية التي أدت إلى طبقية واضحة المظاهر والمعالم في الحياة اليومية الجزائرية، لم تتقلص في الجزائر، رغم بروز أجيال جديدة غير معنية بالصراع السياسوي الضيق والعميق في الوقت نفسه، واليوم لا التقاء ولا تقاطع ممكن بين المثقفين المعربين والمفرنسين إلا في حالات نادرة، والتهم المتبادلة بين المعسكرين أضحت خطيرة أكثر من أي وقت مضى حينما أضيف البعد الديني للصراع ليصبح عنصرًا جديدًا في تعميق وتكريس الانقسامية إلى درجة كادت تعصف بالدولة وبالمجتمع في التسعينيات، كما شهد على ذلك كل العالم. في الجزائر وحدها، من دون غيرها من البلدان المغاربية والمشرقية التي تعرضت للاستعمار الفرنسي، بوطأة كبيرة، أو متوسطة، أو صغيرة، تتبادل تهم التبعية والاستلاب والتزمت والتعصب بين الإخوة الأعداء، ولعل استغراب العرب من غير المغاربيين لتعبير "حزب فرنسا" يلخص عمق صراع يحدد مصالح هذه الجهة، أو تلك، عموديًا وأفقيًا بالشكل الذي يفسر استقطابات وتوجهات داخل منظومة الحكم، وفي الحياة اليومية العادية، سواء تعلقت بالمثقفين والمتعلمين، أو بمواطنين تلقوا يومًا تعليمًا بلغة واحدة لاعتبارات تاريخية سابقة للاستقلال، وتذبذب أمر علاقتهم باللغتين العربية والفرنسية بسبب تعاطي السلطة معهما في المنظومة التعليمية بشكل أجج الصراع عوض تهدئته. كاتب ياسين الذي قال "اللغة العربية لغة ميتة، واللغة الفرنسية غنيمة حرب"، وعمل على تكريس اللغة الدارجة في مسرحه، ومالك حداد الذي قال "اللغة الفرنسية منفاي"، ورضا مالك، ومصطفى الأشرف، وغيرهما من المثقفين الفرنكفونيين ثقافيًا (بعضهم يجيد اللغتين)، كلها حقائق تقابلها حرب الفقيد الكاتب والديبلوماسي عثمان سعدي، الذي قضى حياته يناهض "حزب فرنسا" المقترن في ذهنه حتمًا بمتطرفي النزعة البربرية، أو الأمازيغية. نظرة قصيرة العمر على الشتائم التي تم تبادلها بين أنصاره من المعربين الوطنيين والقوميين، وبين أشرس مناهضيه من البربر عبر وسائل التواصل الإجتماعي خير دليل على استمرار صراع ما زال يرمي يثقله العاصف على مجتمع أضحى فيه الصراع اللغوي غير منفصل عن مثيله العالمي.




في فرنسا التي يعيش فيها كاتب هذه السطور بشكل متقطع ـ يجبره على تنفس الوطن الذي يسكنه فيها وفي كل مدن العالم كما يسكن أي إنسان طبيعي ـ، الصراع اللغوي قائم ولو بطبيعة مختلفة، وأنصار النزعة اليعقوبية الوطنية والمركزية كانوا وما زالوا غير مستعدين للانفتاح الكافي على اللغات الأجنبية، وعلى الإنكليزية بوجه خاص، والرئيس جاك شيراك لم يتردد يومًا في معاقبة مسؤول ديبلوماسي تحدث باللغة الإنكليزية في محفل دولي، والشعب الفرنسي يحتل ذيل قائمة البلدان المنفتحة على اللغات الأجنبية خلافًا للبلدان الأخرى، وعلى رأسها الشعوب الإسكندنافية التي تتحدث بطلاقة لغة شكسبير. إن كيفية احتفال العالم الغربي باليوم العالمي للغة العربية، وتوجسه، بل وخشيته، من لغة أصبحت مرادفة للتطرف الإسلامي في نظر معظم ساكنيه خلافًا للغات أخرى مرتبطة بأنواع تطرف لا تقف عنده وسائل إعلام الأقوى سياسيًا واقتصاديًا. هذه الحقيقة المرعبة تفسر صراعًا أشمل يتجاوز المستويات الوطنية الضيقة، ومنها المستوى الجزائري، حتى وإن انفرد بخصوصيته النابعة من تاريخ استعماري فريد من نوعه، إذا استندنا إلى تركته الشاملة وغير السلبية لغويًا بالضرورة عند تيارات جزائرية آمن ممثلوها قبل وبعد الشروع في تخليد اللغة العربية سنويًا أن اللغة لا تعني تبعية حتمية لصاحبها السياسي والثقافي الأصلي بالضرورة، وليست دليل وطنية حتمية في الوقت نفسه كما يرى أنصار معاداتها، لأنها حتمًا أيضًا دليل تبعية فكرية للمستعمر القديم والجديد. إن الدارس العميق وغير المؤدلج بصورة دوغمائية وغير المعني بمصالح سياسية انتهازية شخصية تعرفها حياة المتصارعين اللغويين، يكتشف بسهولة حجم التفسير السيكولوجي الذي يفسر صراعًا أصبح ناطقًا بنفسيات مرضية متطرفة، كما هو شأن نفسيات المتطرفين في أي مكان من العالم. عداء العالم الغربي اليوم، وتفسيره للسعادة ولحقوق الإنسان ولحرية الرجال والنساء وللديمقراطية وللأديان بازدواجية لافتة، كلها عناصر تساعد على مقاربة وتفكيك صراع يبدو لغويًا محضًا في حين يضرب في بنية ثقافية وأيديولوجية أشمل وأعمق. بنية تجاوزت جماعات الحكم في أعلى مستويات صنع القرار لتمتد لحياة مواطنين عاديين يتغذون من تطورات سوسيولوجية وثقافية متسارعة، وانحصار الصراع اللغوي في الجزائر داخل النخبة بشقيها المفرنس والمعرب أساسًا غير قائم بحدة تزمت وقوة مصالح ممثليه في الحياة الشعبية اليومية، ويحدث أن تجد مفرنسًا متدينًا متعايشًا ثقافيًا (بالمعنى الشامل للثقافة) مع معرب غير متدين والعكس صحيح، كما يحدث أن تجد مسؤولًا معربًا متعايشًا مع مسؤول مفرنس في مستويات إدارية عديدة تحت وطأة المنافع والمناصب والكراسي في ظل انتماء لجهة واحدة لا تعنيها لغة هذا أو ذاك من الساعين لتحقيق مصالحهم الشخصية. المحزن في أمر هذا الصراع الذي وقفنا عنده تخليدًا للغتنا العربية التي لم يحتفل بها كل العالم كما يجب، يتمثل في حقيقة مفادها أن اللغة هي الضحية الأولى لهذا الصراع الذي قتلها في المعسكرين المتصارعين بنسب متفاوتة. اللغة نافذة ثقافية على الإنسان، سواء كنا نتفق أو نختلف مع صاحبها، وليس هناك ما يبرر دينيًا وأيديولوجيا الانكفاء على الذات اللغوية الواحدة باسم وطنية ما، كما أنه من غير الطبيعي أن تصبح اللغة تهان على أيدي مثقفين متنورين موالين لقوى أجنبية تعادي قيم الأمة جريًا وراء مصالح شخصية تبرر توجههم الذي كثيرًا ما يتناقض مع خطابهم الديمقراطي، ويكشف عن تبعيتهم للحاكم المستبد. مقال واحد لا يكفي للإحاطة بإشكال يضرب بجذوره في صراع يتجاوز العقل، ولو أن العقل يرفض أن ترفع شعارًا ما لمعاداة لغة ما باسم أيديولوجية ما ودين ما، والدفاع عن لغة الانتماء والهوية لا يتم بالانغلاق على لغات الآخر الذي لا يعد استعماريًا حتمًا، ولا وطنيًا فاشيًا، أو متعصبًا، حينما يدافع عن لغته. العلامة أندريه ميكيل فرنسي رفع لواء الحضارة العربية والإسلامية بكل السبل الفكرية والأدبية على امتداد سبعين عامًا تقريبًا. وكان يفترض باليونسكو أن تخلد اسمه وهو على فراش الموت بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية التي كتب بها شعرًا بديعًا، وخلد أبا العتاهية والمتنبي، وترجم ديوان "الريشة وعناق الياسمين" للشاعرة لويزة ناظور في سن الثانية والتسعين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.