}

هل أصبحت كرة القدم ديانة كونية جديدة؟

فريد الزاهي 25 ديسمبر 2022
آراء هل أصبحت كرة القدم ديانة كونية جديدة؟
الكنيسة المارادونية (sportsavour)

خلق المنتخب المغربي المفاجأة، وغذى حلم العرب والمسلمين بنهائيات غير متوقعة. ظلت أنظار هذه الملايين في المباريات الأخيرة معلقة بأجهزة التلفزيون التي أثثت أغلب المقاهي والمطاعم، وأضحت ألوان العلم المغربي تنطبع على الملابس والقبعات، وقمصان لاعبي المنتخب تباع في كافة الأمكنة، وتشهد رواجًا لم يكن له مثيل من قبل. وفور كل انتصار، أو تعادل، تكون المفاجأة على قدر المتابعة، والحماسة تشعل الشوارع في المدن كافة بالفرحة الجماهيرية العارمة، التي تمتد إلى أوقات متأخرة من الليل. وبعد خروج هذا المنتخب في نصف النهائي، وعودته إلى بلاده، حجّ الناس من كافة المدن المجاورة للاحتفاء بمنتخبهم، شعبيًا ورسميًا، فكانت الفورة الجماهيرية تحويلًا لخيبة الأمل الأخيرة إلى طقس عارم أشبه بالكرنفال.


في مديح الرِّجْل
من مديح اليد التي جعل منها فوسيون في بدايات القرن الماضي أصل الابتكار والإبداع، إلى مديح العقل، باعتباره يكمن وراء كافة التطورات التي نعيشها حاليًا، انتقل الاهتمام تدريجيًا إلى مديح الرِّجل. فولادة الكائن البشري (الهوموسابيانس)، واستقامة قامته، بدأ حين تحولت اليدان الخلفيتان إلى رجلين. بيد أن الرجْل ظلت لوقت طويل مهمشة في تراتبية الجسم البشري. فبالرغم من أنها هي التي تربطه بالأرض، وتجعله ينتقل من مكان إلى آخر، ويعدو. وبالرغم من أهميتها الحاسمة في جميع الرياضات الأولمبية (العدو، القفز، وغيرهما)، إلا أنها لم تجد موطن تبلورها واستقلالها إلا في هذه الرياضة التي أضحت تسمى منذ ما يجاوز القرن بكرة القدم، بقوانينها وتنظيمها وإقصائياتها الوطنية والدولية.




في 1914، سوف يتحدث فرويد عن حالة من حالات "فتيشية الرجْل" التي تشكل لدى بعضهم ضربًا من الأفضلية الجنسية، تجعل من الرجْل منبعًا للرغبة والشهوة، لها القيمة النفسية ذاتها التي لباقي أعضاء الجسم في الإثارة. في 2014، وفي مدينة فلورنسا، نُظم أكبر معرض لتاريخ القدم، ولموقعها في الفنون التشكيلية القديمة والحديثة والمعاصرة، من لوحات ورسوم ومنشآت ومنجزات فنية وفيديو وصور فوتوغرافية. مما يعني أن القدم، إن كانت عانت من النسيان والتجاهل، في تراتبية الجسم البشري، فذلك لبعدها عن الرأس موطن أغلب حواس الإنسان.
تمنح القدمان للجسد توازنه، وحساسيتها، وهما "عاريتان"، بالرطوبة والاستواء، والخشونة والصلابة والرخاوة، تكاد تضاهي حساسية راحة اليد. والمشاؤون هم المغرمون بارتياد الآفاق مشيًا على الأقدام. والمؤلفات الأنثربولوجية، كما الحكائية والسير الذاتية عن العلاقة بالمشي وأهميته المتزايدة في الحياة الاجتماعية، صارت طقسًا جديدًا، في وقت صارت فيه المدن والسيارات أشبه بالسجن الذي يحول الجسد إلى كيان رخو غير متحرك، ولا يستعمل الرجلين إلا للوقوف والاستواء. ولعل هذه الأهمية المتنامية للرجلين هي ما جعلت مفكرًا من قبيل مشيل سيرّ يصرح يومًا، ضدًا على ديكارت وأتباعه العقلانيين والوضعيين: "أنا أفكر بالرجلين".
إن هذا الاهتمام بالقدم ليس أمرًا محدثًا. فالعرب القدماء، في ما يحكى، بنوا عروض الشعر على حذاء الناقة وإيقاعه. كما أن علم العيافة لديهم كان يعد جزءًا من علم الفراسة، ويتمثل في القدرة على اقتفاء آثار الأقدام، وتبينها، ومعرفة أصحابها؛ وهي أمور اشتهرت بها الشعوب البدائية كافة، من هنود، وأفارقة، وغيرهم. ولدى الصينيين، يعود تقليد القدم المعصوبة لدى النساء إلى عائلة تانغ في القرن العاشر، حين طلب الإمبراطور من جاريته أن تعصب رجليها لتأدية رقصة اللوتس لتأجيج رغبته وشهوته. وأضحى هذا الأمر تقليدًا، فالنساء صرن ملزمات بتعصيب أرجلهن حتى لا يكتمل نماؤها. فالرجْل الصغيرة غدت في هذا السياق علامة على جمال المرأة الصينية، ولا زواج من ثمّ إلا برجلين تظلان صغيرتين بفضل العصابة التي تتكبد آلامها النساء. الرجْل الصغيرة ضمان للجمال والخضوع لسلطة الرجل. وقد قام المصور الفوتوغرافي جو فاريل في 2014 بالتقاط سلسلة من الصور كرسها لأواخر النساء الصينيات ذوات الأرجل المعصوبة.


الكرة والقدم وطقوسهما

(Getty)


منذ انتشار كرة القدم عالميًا، مع الهيمنة الإمبريالية للدول الغربية، صارت هذه اللعبة محطَّ اهتمام الجماهير. لقد جاءت هذه اللعبة المنظمة لتعويض لعبة صينية قديمة ظهرت قبل التاريخ، تتمثل في كرة محشوة بالريش توجه نحو شبكة. ولعبة "السّول" (soule) التي عرفتها فرنسا في المجال البدوي شبيهة بلعبة الشيرا التي كانت منتشرة في البوادي المغربية. وقد ترك لنا إدمون دوطي وصفًا عنها في آخر كتابه عن السحر والدين في شمال أفريقيا (1908)، سنوات قبل استعمار فرنسا للمغرب، ويدخلها في حديثه عن طقوسيات الكرنفال. وأتذكر وأنا صبي في مسقط رأسي نواحي مدينة فاس، أننا كنا نصنع كرة من بقايا القماش (الشراويط)، ونلفها حتى تصبح صلبة، ونقسم عدد الصبيان الحاضرين فرقتين، لكن من غير شبكة. فاللعب كان يتمثل بالأساس في ركل الكرة والحفاظ عليها. وحين اكتشفتُ الكرة البلاستيكية صرت شغوفًا بها في دروب فاس الضيقة، وفي "الماتشات" التي كنا ننظمها خارج أسوار المدينة قريبًا من مقابر باب الفتوح، إلى أن اكتشفت بشغف سحر القراءة، فشغلتني عنها...
لا أحد ينكر السحر الذي مارسته الكرة ولا زالت تمارسه على جماهير صارت أكثر فأكثر عددًا، وأكثر فأكثر حماسة وشغفًا بهذه اللعبة، خاصة مع ظهور التلفزيون، والنقل المباشر على القنوات المتخصصة، والهواتف النقالة، مما ييسر على كل الفئات والأعمار والأجناس والأنواع التعلق بالمباريات ومتابعتها. ولا أدل على ذلك من أن النساء منذ بضع سنوات صرن يبدين عن اهتمام متنام بهذه اللعبة الرياضية، فيغشين مدرجات الملاعب وقاعات المقاهي لمتابعة فرقهن المفضلة، أو فريقهن الوطني خلال إقصائيات الكؤوس القارية كما إقصائيات كأس العالم. والحضور الباهر الذي أظهرنه في ملاعب قطر، كما في المتابعات المحلية بالمغرب (على سبيل المثال لا الحصر) يؤشر للتحولات "الجندرية" (النوعية، بالمعنيين معًا) الذي سوف تضخّها كرة القدم في التوازنات الاجتماعية في بلدان لا زالت فيها المرأة لا تحظى إلا بمساواة أولية.




بيد أن السحر له علاقة بالدين، كما يؤكد على ذلك علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا (دوطي، مارك أوجي، مافيزولي). فلقد أضحينا نسمع أو نقرأ هنا وهناك أن ثمة علاقة بين هذه اللعبة الرياضية وبين التدين أو الدين، إلى درجة أن ثمة من اعتبرها ديانة كونية. فقد أصدر مارك أوجيه منذ الثمانينيات كتابًا عن الطابع "التديني" الذي تكتسيه طقوسيات كرة القدم. وحلل ميشيل مافيزولي اللحمة الجماعية التي تسبغها هذه اللعبة على الجماهير، والتعصب الذي تخلقه، والذي يغدو ضربًا من الحماسة القبلية والجهاد المقدس. ومنذ سنوات قليلة، أصدر فرانسوا فولكوني، وجيل باشي، كتابًا بالإنكليزية عن الشغف بكرة القدم، باعتباره تجربة دينية ذات أبعاد أربعة. فإذا كان الدين في معناه الحق مجموعة محددة من المعتقدات والعقائد تحدّد علاقة الإنسان بالمقدس، يزعم بعضهم أن هذا التعريف يمكن أن ينطبق على كرة القدم. صحيح أن هذه اللعبة لا يمكن اعتبارها معتقدًا، غير أنها تتميز بممارسة وحماسة وطقوس تجعل منها لحظة من لحظات التعبير التديني، بحيث إنها تنعت أحيانًا بكونها "الديانة الحديثة الكونية". فهي لها أتباعها، وأماكن حجها (الملاعب)، وشعائرها وشعاراتها.
لكل جماعة في هذه "الديانة" الجديدة معابدها و"آلهتها"، غير أنها تتوحد في السلوك والحماسة والالتحام الجماعي وراء فريقها، أو نجوم فريقها. لكن، حين صار بعض اللاعبين أشبه بالأصنام، أو الآلهة، يهتف بأسمائهم الصبيان والشباب والكهول، رجالًا ونساء، في أنحاء المعمور بكامله، تبين بالملموس الطابع الكوني لهذا الشغف الساحر. وظاهرة مارادونا كافية في هذا السياق لتوكيد قولنا، إذ أن عشاقه في الأرجنتين أسسوا له في عيد ميلاده الثامن والثلاثين (1998) الكنيسة المارادونية، بحيث أضحى هذا اللاعب في أصل معتقد ديني بالمعنى الحقيقي للكلمة. وقد أنشأت هذه الكنيسة قداسها وصلواتها وتقويمها السنوي وعيد ميلادها، وعيد فصحها، وأتباعها يتجاوزون الأربعمئة ألف.
أما الطقوس ذات الطابع الديني التي يمارسها اللاعبون عند الدخول إلى الملعب، أو بعد الانتصار، فالعديد منها أشبه بالصلاة سجودًا وركوعًا وابتهالًا. وأما حج الجماهير إلى الملاعب والهتاف المنتظم والحركات الجماعية المنظمة التي تقوم بها، فإنها تذكرنا بالصلوات الجماعية في الديانات كلها. يكفي هنا أيضًا أن نذكّر بأن الإنجاز الباهر الذي حققه المنتخب المغربي صار يُربط بأساسين دينيين: "النية والعمل"، وهي المقولة التي أطلقها مدرب المنتخب. بل إن أحد الصحافيين وصف هذا الإنجاز بـ"غزوة قطر"، وصارت الإعلانات التجارية التي تصلنا على الهواتف تستغل مفهوم "النية" هذا في الترويج لمنتجاتها...
بيْد أن هذه المقاربة بين الدين وكرة القدم لا تعني التطابق، فهي أقرب إلى المجاز منها إلى الحقيقة. فكرة القدم لا تعد "المؤمنين" بها بعد الموت لا بجنة فيها الحور العين والولدان المخلدون، ولا بجحيم مستعر النيران. أما "أنبياؤها" و"آلهتها" فهم متعددون ومتوالدون ومتناسلون في الزمن. والطابع التجاري الذي يتحكم فيها ينزع عنها هذا الطابع حين ينتهي المونديال...
والأنثروبولوجي مارك أوجي كان قد أدرك سياق ولادة هذه الديانة الجديدة في مبتدأ الثمانينيات، حين أشار إلى أن العالم المعاصر يعيش أزمة الحكايات والأساطير الكبرى وأنظمة المعتقدات، فتراه إما يستعيد بقوة هوجاء مقدسه القديم، أو يجد في كرة القدم "ديانة بديلة" تؤثث حياته اليومية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.