All Is True أو "كله حقيقي" هو فيلم بريطاني تم إنتاجه عام 2018، ويُعرض حاليًا على منصة نتفليكس، الفيلم (من إخراج وبطولة كينيث براناه، ويشاركه البطولة جودي دينش وإيان ماكلين، وسيناريو بن إلتون) يتحدث عن حياة شكسبير بعد عودته النهائية من لندن إثر احتراق المسرح الكبير الذي كان يديره، وتفاصيل حياته مع عائلته التي هجرها لسنوات، وهو في معظمه أحداث تاريخية حقيقية من حياة شكسبير، أو على الأقل ما ذكره التاريخ عن حياته. كان لشكسبير ثلاثة أبناء، سوزانا الكبرى والتوأمان هامنت وجوديت، ويذكر التاريخ أن هامنت (الابن الذكر الوحيد لشكسبير) قد مات نتيجة إصابته بالطاعون في سن مبكرة في فترة غياب أبيه، لكن الفيلم يقترح أمرًا آخر، ربما من المفيد الحديث عنه خلال هذه الفترة مع احتفالات العالم بيوم حقوق المرأة الذي يصادف في الثامن من مارس/ آذار.

في (غرفة تخص المرء وحده) وهي عبارة عن مقالة طويلة كتبتها الكاتبة النسوية البريطانية الأشهر فيرجيينا وولف مستندة على سلسة محاضرات ألقتها في عدة كليات نسائية، ونشرتها ككتاب عام 1929، تتخيل وولف أن لشكسبير شقيقة توأمًا اسمها جوديت (على اسم ابنته)، وأنها كانت تمتلك من موهبة الكتابة ما لا يقل عن موهبة شكسبير، لكنها حرمت من التعليم ومن فرصة تطوير موهبتها كما حصل مع شقيقها الذي كان يذهب لتلقي تعليمه ويعمل على إنماء وتحفيز الموهبة التي امتلكها، بالتعليم والمعرفة واختبارات الحياة، في الوقت الذي كانت فيه جوديت تعنف في المنزل إذا ما مسكت كتابًا لتطلع عليه فذلك سوف يعطلها عن أعمال وشؤون المنزل وعن الاهتمام بتفاصيل تعلم ما يؤهلها للزواج الذي كانت رافضة له بشكل قطعي، ودائمًا من كن يحاصرنها هن نساء البيت، والدتها وشقيقتها الكبرى، حتى قررت ذات يوم، بعد أن أجبرت على خطوبة من لا تطيق، أن تهرب إلى لندن لتعمل في التمثيل، لكنها هناك أيضًا تعرضت للسخرية والتنمر، إذ لم يكن واردًا في ذلك الزمن أن تعمل امرأة في مهنة كهذه، كانت أدوار النساء في المسارح يؤديها ممثلون رجال، وتنتهي الحال بجوديت بأنها أقامت علاقة جنسية مع مخرج شاب وحملت منه فتقرر الانتحار بعد أن عجزت عن إقناع الآخرين بجدارتها وموهبتها وعجزت عن تحقيق آمالها (فيرجينيا وولف انتحرت أيضًا). تلك هي قصة جوديت شقيقة شكسبير التوأم، الشخصية التي اخترعتها فيرجيينا وولف لتظهر ما كانت تعانيه النساء في المجتمع البريطاني، ولتحكي عن كمّ المواهب النسوية التي أهدرت بسبب تعنيف المجتمع، وتعنيف النساء لبنات جلدهن.

في (غرفة تخص المرء وحده) تتخيل وولف أن لشكسبير شقيقة توأمًا اسمها جوديت (على اسم ابنته)، وأنها كانت تمتلك من موهبة الكتابة ما لا يقل عن موهبة شكسبير

يستعير بن إلتون وكينيث براناه شخصية فيرجينيا وولف المتخيلة لإضافة اللمسة الفنية على قصة حياة شكسبير الحقيقية في فيلمهما (ALL IS TRUE) فجوديت هي ابنة شكسبير والشقيقة التوأم لهامنت الذي مات باكرًا بسبب الطاعون، كما قيل لشكسبير حينما سأل عن سبب موته، وجوديت كانت متمردة ورافضة للزواج، وتحاول تنمية مداركها المعرفية وحدها، فهي مثل كل نساء زمنها ممنوعة من تلقي التعليم المناسب، لكن الفيلم يأخذنا إلى مفاجأة جميلة فنيًا ومحزنة إنسانيًا، فمنذ أن عاد شكسبير إلى بلدته وعائلته وهو يظن أن هامنت قد ورث موهبته الشعرية، فهو كان يرسل له رسائل متواصلة مرفقة بقصائد كتبها هامنت، كان أسى شكسبير لرحيل ولده مضاعفًا، فهو قد خسر وريثًا شعريًا مثلما خسر الابن الوحيد، وكانت جوديت تحاول التقرب منه عبر إخباره أنها هي أيضًا تملك موهبة الكتابة الشعرية، وأن عليه فقط أن يقرأ ويكتشف أنه يمكن لها أن تكون قد ورثت موهبته، لكنه كان يرفض ذلك مكتفيًا بأن يعيش أساه وحزنه اليومي على فقد الوريث عبر العمل الزراعي في حديقة منزله.

وذات يوم وهو أمام قبر ولده مع زوجته آن وابنته جوديت، تخبره ابنته أنها السبب في موت شقيقها التوأم، لنكتشف أن تلك الكتابات التي كان يرسلها هامنت إلى أبيه هي من تأليف جوديت، كانت تؤلف القصائد ويكتبها أخوها بخط يده ويرسلها إلى أبيه كي يثير إعجابه.. صاحبة الموهبة والكتابات كانت جوديت بينما هامنت كان يستولي عليها بوصفه الابن الذكر والوريث الشرعي لوالده، كان الاثنان يدركان أن مصير الكتابات هو الإهمال لو أن شكسبير عرف أن الابنة هي من تكتب لا الابن، تلك كانت الصفقة كي لا تفنى موهبة جوديت، ثم تحكي جوديت لأبيها أنها تشاجرت مع أخيها حول أمر ما ومن شدة غضبها هددته بأنها سوف تخبر أباهما أنها هي الكاتبة لا هامنت، فيأخذ الفتى الصغير هذا التهديد على محمل الجد، ويخاف منه إذ بذلك سوف يخسر إعجاب والده/ السلطة الأبوية والأدبية، فيحمل ما لديه من أوراق ويذهب إلى أكثر مكان يخاف منه: النهر، يمشي في النهر حاملًا تلك الأوراق حتى يغرق، مفضلًا الانتحار على عار اكتشاف حقيقته، لتكتشف الأم والابنة جثته بعد ساعات من اختفائه لكن الأم تخفي طريقة موته مدعية أنه مات بالطاعون الذي كان يحصد الناس حولهم تلك الفترة، وتكبر جوديت مع شعور عميق بالذنب بأنها السبب في انتحاره نتيجة تهديدها بكشف الحقيقة.

رسم لشكسبير وزوجته وأبنائه الثلاثة (wikimedia)

فيرجينيا وولف استعارت شخصيتها من حياة شكسبير الحقيقية، هي لعبت بالتاريخ قليلًا، فبدل الأبناء جعلت من جوديت توأم شكسبير، لتبرهن على نظريتها النسوية، أما صناع الفيلم فقد أبقوا الشخصيات على حقيقتها التاريخية، جوديت هي الشقيقة التوأم لهامنت والاثنان هما أبناء شكسبير، واللعب في الفيلم بني على الحدث، استعار الفيلم الحدث الذي تخيلته فيرجينيا وأسقطاه على الابنة والابن، فيرجينيا تخيلت أن جوديت/ الشقيقة قد انتحرت، ذلك أن خاتمة كهذه تتناسب مع ذهنية الحقبة الزمنية التي عاش فيها شكسبير، وتتناسب مع ما أرادت وولف برهنته: كل المواهب النسوية مصيرها الموت، سواء بالاختيار أو بالدفع إلى ذلك، كان يجب على جوديت/ الشقيقة أن تفشل كي تتأكد النظرية، لكن وولف ذات الميول الانتحارية جعلت شخصيتها تنتحر أيضًا، أما الفيلم الذي أنتج عام 2018 فهو قد انتصر لجوديت/ الابنة أو الأخت، انتصر للنسوية، وجعلها تستمر بالحياة فهي الأجدر والأقوى، واضعًا في شخصية الوريث الذكر الهشاشة وفقدان الموهبة.

ينحاز الفن، لدى فيرجينيا وولف وصناع الفيلم، إلى الفكرة والهدف والمغزى، بينما الواقع ينحاز للصدفة وللحظة التاريخية، الواقع يقول إنه لا شقيقة باسم جوديت لشكسبير، جوديت هي ابنته أما ابنه الذكر الوحيد فقد مات حقًا بالطاعون وهو صغير، والواقع يقول أيضًا إنه في تلك المرحلة من التاريخ لم يكن مسموحًا للنساء بالتعلم أو بممارسة المهن الفنية، لم تكن مواهبهن تؤخذ على محمل الجد، ما أفقد التاريخ الأدبي والفني والعلمي للبشرية الكثير، وطبعه بطابع ذكوري لولا نضال شاق وطويل ومتراكم خاضته النساء في العالم (فيرجينيا وولف إحداهن) كي نصل إلى اللحظة الراهنة التي يصبح فيها انتصار صناع فيلم ذكور للنسوية أمرًا عاديًا لا يلفت الانتباه.